طلال سلمان

أبعد من الضرائب وعجز الموازنة!

نشر هذا المقال في “السفير” في 1995/7/8

لكي تعطي الحكومة قروشاً لبعض الفقراء من صغار موظفيها، فإنها تأخذ ليرات من عموم الفقراء، وبينهم صغار الموظفين بالذات.
إنها تأخذ بيمناها، أو تترك المحظوظين يأخذون، أضعاف ما «تعطي» اضطراراً بيسراها.
وليس تشهيراً أو تشنيعاً القول إن الدولة تعتبر وظيفتها مجرّد «تحصيلدار» تجبي ما تقرّره من ضرائب ليظل ممكناً الادعاء بأنها إنما توازن الموازنة المستحيل توازنها،
كذلك ليس تشهيراً القول إن «نادي الأغنياء» قد بات صاحب القول الفصل في الشأن الاقتصادي (وبالتالي الاجتماعي) في البلاد، خصوصاً وأنه يكاد الآن يحتكر السلطة.
فإلى طاولة مجلس الوزراء يجلس بضعة مليارات من الدولارات ليفكّروا ويقرّروا في هموم الفقراء، الذين بالكاد لهم مَن «يمثلهم» في ذلك النادي الخاص الذي اكتمل نصابه بفرعون،
أليست مفارقة أن يجتمع كل هذا الحشد من رجال الأعمال والمال والمصرفيين والمقاولين والوكلاء التجاريين الحصريين في حكومة البلد الذي دمرته الحرب المموَّلة بسخاء والتي خلقت «طبقة» جديدة من أهل المال الحرام، بينما سقطت غالبية أبنائه من موقع «المكتفي» إلى هوة الحاجة فعجزت عن توفير كلفة الحياة اليومية؟!… البلد الذي بات الاستشفاء فيه «ترفاً» وكذا التعليم والسكن وتأمين التيار الكهربائي والهاتف ووسيلة المواصلات؟!!
أوليست مفارقة أن تكون الدولة  التحصيلدار قد وفّرت بالقصد أو بالعجز أو بالإهمال، بالتواطؤ أو بنقص في الإحساس بالمسؤولية، فرصاً غير طبيعية للربح الحرام لمجموعات لا تحصى من قراصنة المال العام، ممَّن بات وجودهم غير الشرعي ضرورة لا يُستغنى عنها: من ذلك صاحب المستشفى الخاص، وصاحب المدرسة الخاصة، وصاحب المولد الكهربائي، وصاحب الهاتف الخاص، ومحتكرو التجارة بالمواد النفطية إلخ؟!!
بالمقابل فعلى المواطن أن يدفع فاتورتين عن كل خدمة: عن الكهرباء والهاتف، عن التعليم والتطبيب والاستشفاء، وعن النفط حيث يأخذ التاجر  المحتكر ربحه مصفى بينما لا تتوقف الزيادة على صفيحة البنزين مقسّمة بالقسطاس على الكثرة الفقيرة أو شبه المتوسطة وعلى القلة الغنية أو الأغنى من الغنية!
إنها دوامة بلا مخرج: المطلوب من الدولة أكثر من طاقتها ومن إمكاناتها، لكن الأغنياء وقناصي الفرص يجدون في كل مشروع فرصة لجني بضعة ملايين من الدولارات ربحاً حلالاً زلالاً!!
المطلوب من المواطن، لإيقاف الدولة على قدميها، أكثر من قدرته على الدفع، وهو يدفع ويدفع ويدفع فيرى أن يديّ «الدول» التي في داخل الدولة تطول بينما دولته لا تقف ولا تترك له حكايات الإصلاح الإداري والتعيينات والمشاريع المفصّلة تفصيلاً على مقاس المحظوظين طائفياً ومذهبياً وجهوياً، أي أمل في أن يراها في أي يوم واقفة على قدمين ولو من فخار!
ومع أن ما يدفعه المواطن كثير، فإن تكاليف حياته تزداد ارتفاعاً كل يوم، وهكذا فإنه يزداد فقراً ويزداد العجز في قدرات دولته، بينما تصبح بيروت واحدة من أغلى العواصم ليس فقط لسكانها بل كذلك للقادمين إليها بقصد السياحة (؟!) أو الاصطياف أو الاستثمار الجدي (أي الصناعي أو الزراعي أو السياحي) وليس لمجرّد المضاربة بالعقار!
هل كل المسؤولية على هذه الحكومة بالذات؟!
بالتأكيد لا.
فالأزمة موروثة، لكنها تزداد تفاقماً كل يوم، وينكشف بالتالي العجز عن مواجهتها بالقرارات المرتجلة أو المتسرّعة أو المبتسرة والتي تتخذ بعقلية مياومة، أو بتلفيق الحلول المؤقتة التي لا يمكن أن تصمد لريح الوقائع والأرقام الدامغة.
على أن أخطر ما في هذه الأزمة لا يكمن في وجهها الاقتصادي  الاجتماعي فحسب، بل هو أساساً في جذرها السياسي،
وأبرز ملامح الخطورة أن «مؤسسة» رجال الدين والمؤسسات ذات الطابع الطائفي والمذهبي هي التي تستغل الخواء السياسي المخيف، فتتصدّر واجهة المطالب منذرة بتجديد الانقسام في البلاد،
فمع تطئيف مؤسسات الحكم والادارة، بما فيها القضاء، يصبح منطقياً أن يسترد الممثلون «الشرعيون» للطوائف زمام القيادة من أهل الحكم الذين ذهبوا إليهم بأقدامهم في ملعبهم، واستعاروا لغتهم وتوسلوا أساليبهم ذاتها ونطقوا بخطابهم السياسي نفسه.
إن الدولة تغوص في المستنقع الطائفي، أكثر فأكثر،
أما مواردها الشحيحة أصلاً فتتناقص يومياً، بينما يتزايد ثراء أصحاب الثروات الذين يحومون حول مشروعات إعادة الإعمار كالغربان السوداء، وقد جاءوا بمجملهم بدافع الربح لا بواقع الوطنية، ثم انهم  هم أيضاً!!  يراعون قواعد اللعبة الطائفية.
الكل على الدولة الفقيرة ومواطنها المشلول القدرة والبلا قيادة والمتروك مستقبله للريح…
فهل تغني الضرائب عن مصير يبدو كالقدر الأسود؟!

Exit mobile version