باسمك وحده تدخل التاريخ وتعيش فيه وقد تموت فيه،
وباسم مدينتك او قريتك تجد فجأة ان الجغرافيا قد زرعتك في قلب التاريخ، او ان التاريخ قد خرج مثلك من رحم جغرافيتك،
هل هي الأسماء والبشرة والبيئة، ام انه ايضا الائتلاف الفذ الى حد التنافر الكلي بين الصحراء والبحر والانسان المضيّع بين التيه والتيه، يلغي كل شيء او يقزّم كل شيء فلا تبقى الا منارة المطلق: الله؟!
من هامش منسي في التاريخ جاء أحمد الشقيري،
وإلى تاريخ منسي لان اهله دونه ذهب أحمد الشقيري، واختار بقرار منه، ان يستقر مع مَن افترض نفسه منهم ممن أعادوا صياغة التاريخ والجغرافيا وأعطوا للناس والأمكنة والأشياء أسماء جديدة،
تقول الدكتورة خيرية قاسمية في الكتاب الذي أصدرته »لجنة تخليد المجاهد أحمد الشقيري« (زعيما فلسطينياً ورائدا عربياً):
»أوصى الشقيري ان يُدفن على تخوم فلسطين في منطقة الأغوار التي امتلأت من العقبة جنوبا الى اربد شمالا بمقابر الشهداء من الصحابة والتابعين، منذ صدر الاسلام، أيام معارك مؤتة وتبوك واليرموك وأجنادين وبيت المقدس، الى عهد صلاح الدين بطل معركة حطين، الى السلطان قطز بطل معركة عين جالوت«.
أذكر كم كان الشقيري ممتلئاً بهاجس التاريخ، وكم كان حريصا على موقعه فيه، وكم كانت كلماته تستظل اسماء صحابة الرسول، ومعها مسرى السيد المسيح في فلسطين:
» هل تعرف مَن سبق فدائيينا الى الاغوار؟«.
قبل أن أهم بجواب، يضيف »أبو مازن«:
خذ يا سيدي… عندك ابو عبيدة بن الجرّاح وزيد بن حارثة وجعفر بن ابي طالب وعبد الله بن رواحة«،
ثم يستدرك ليقول: هل نسينا شرحبيل بن حسنة؟!
ولقد سمعت منه قبل أن أقرأ عبارته: »لعلنا إن انتمينا اليهم وجاورناهم يغفرون لنا اننا قد أضعنا ما سبق لهم ان حرروه بأيديهم ودمائهم من ارض وأوطان«.
هو الآن في الاغوار، الى جانب فاتح فلسطين ومحرر بيت المقدس، الصحابي الجليل ابي عبيدة بن الجراح.
* * *
من قلب الشقاء جاء الطفل احمد الشقيري، وفي قلب الشقاء عاش حياته الحافلة بالمواجهات والمصادمات، وفوق قمة الشقاء ونكران الجميل والإساءة المقصودة انتهى ذلك المناضل الذي يلخص بشخصه ووقائع حياته الذاتية نصف قرن او يزيد من محاولات النهوض والانتكاسات، حتى اذا جاءت الهزيمة في العام 1967 قُدّم كبش فداء للمنتصرين بها، فانصرف يكتب مرثاة الامة حتى وقعت يده ومعها قلمه الفصيح!
» أهلاً يا سلمان! أتعرف حكاية الرسول الكريم محمد بن عبد الله مع الصحابي سلمان الفارسي؟! أتعرف لماذا قرّبه بعد ايمانه وقال فيه: سلمان منا آل البيت«.. دعني أرويها لك… عندما حاصرت قريش الجاهلية الرسول وصحبه المؤمنين في يثرب (المدينة المنورة)، بدا الموقف العسكري حرجا للغاية، فالمهاجمون كثرة والمدافعون قلة والسلاح عزيز. وتقدم سلمان من النبي المهموم يقول له: كنا في فارس اذا حوصرنا خندقنا. قال النبي محمد: وما الخندقة يا سلمان؟! قال سلمان: أن يأمر رسول الله المسلمين بأن يحفر كل قبره على شكل طوق من حول المدينة. وأخذ الرسول المعول فضرب وضرب المسلمون، فكان أول خندق في الاسلام، وهُزم المشركون، وتم النصر لكلمة الله…«.
في كل لقاء، تقريباً، كان احمد الشقيري يستهل حديثه معي بحكاية الخندق، وما كنت أعرف ولا اظنه كان يقدر انه سينتهي محاصرا معزولا ومحمّلاً أعباء الهزيمة ومُشهّراً به بتهمة دولية عنوانها: رمي اليهود في البحر!
* * *
مؤخرا، قادتنا الذكرى الى كيفون و»قصر الشقيري« على كتفها، كأنه »مرابط« يحمي الثغور.
الدار خربة، ليس بالهجر وحده، بل بتقصّد الإيذاء، فحين اجتاح الاسرائيليون لبنان في مثل هذه الايام من العام 1982، كان بين أهدافهم منزل الشقيري.
اما اركان »القيادة الثورية« التي اختطفت الراية من احمد الشقيري ثم رمته الى النسيان منبوذاً ومدانا، فقد انتهت مسؤوليتها عن القصر الذي سكنه بعض »الأبوات« منها، وغادرته مشرع الابواب للريح وللطاعون الاسرائيلي، مع بعض الآثار العسكرية التي تكفل تدميره!
تحية لأحمد الشقيري وللذين استذكروه فحاولوا ويحاولون اعادته الى ذاكرة ابنائنا في رحلته الطويلة بين قلعة تبنين في جبل عامل، حيث للصليبيين بعض الأثر، وبين الأغوار حيث ينتظر الذين حرروا بيت المقدس اول مرة، »الصحابة الجدد« المنتدبون لتحريرها غداً.
في الفراغ القرمزي
السرير فارغ، والعيون مترعة باللذة، والشراب ضجرٌ من الشاربين والبحر شاهد أعمى وأخرس وان كانت همهمته تقول الكثير لمن يرغب في السماع.
يتمدد السرير بغطائه القرمزي في مدى الغرفة… تنبت له أذرعة وأجنحة، ويتسع المدى القرمزي فيتخطى حدود الغرفة إلى الحديقة، يجرف تربة الورد. ينتثر فوق فسحة الوقت ومدى النظر ورذاذ الموج اللاهث في غابة التعب.
ينداح السرير أفقاً من الفراغ. يتكاثف الرذاذ فوق الغطاء فيكتسب بعض لونه ثم يتبخر فاذا السرير مكشوف يرتعش برداً،
تتكسر الاصوات على اطراف السرير فلا ترقاه ولا ينحدر إليها.
تتسلل إليه العيون، ثم تخاف اليمنى من اليسرى فتغضيان خشية او خجلاً مما لم يفعله احد،
وحين تقرع كؤوس الانصراف ينطوي السرير، عارياً، على نفسه، ويدور بوجهه بعيدا عن الساهرين، ولا يقول كلمة وداع للذين عبروا من خلفه، من أمامه، دون ان يمسهم قرمزه او يضيفوا إليه.
يسمع السرير صريراً فيصغي حتى اذا فهم القول المطلق عن »عدم اتساق اللون القرمزي مع عاديات الغرفة«، تحرك نحو الحديقة ليتنسم هواء البحر او ربما لكي يشكو إليه همه:
ماذا لو كان الغطاء لازوردياً، اذن؟!
نحن اثنان
ركب الحب الطائرة فوصل قبلها،
عادت الطائرة متباطئة ونزل منها جميع الركاب، وحين نودي على الحب تبينوا انه قد تخلف عنها ليكتسب المزيد من الدفء.
طار الحب بأجنحة أربعة. خفقت الاجنحة فتسارعت ضربات قلوبنا على البعد… وسمعنا صدى ضحكهما الصاخب الحياء، فأغضينا بعيوننا بينما الامهات تستدعي الآلهة للحماية وتوفير الهناء.
الحب يفتح صدر اللحظة، ويتغلغل فيها يمضه العطش، فيشرب حتى يستنزف رحيقها.
انها تجيء إليه وهو فيها، يلاقيها وهي فيه. تصله اثنين ويتلقاها اثنين فيصيران واحداً، وتثقب جدار الثلج زهرة برية.
جميل ان ترى الاشياء بعيون اربع، جميل ان تكون ضحكتك بصوتين، جميل ان تسبقك فتسبقها إلى اللفظة ذاتها التي تنتظر ان تعطياها المعنى.
تحلق الطائرة فيتسع فضاء حبك حتى يضيع فيه الفضاء، وتمتد المسافات فلا تكاد تدرك من حبك البداية وتظل قاصرة عن بلوغ النهايات التي تكمن خلف الدائرة المقفلة بالضوء والظلام.
أول الفضاء أنت. أول المسافة أنت. أول الضوء أنت. آخر العتمة أنت.
لا يهم من منا المتكلم.
نحن بعد الكلمات وقبلها، داخل الكلمات وخارجها.
نحن اثنان. حاء وباء.
الكتابة في داخل الإسم
قال لي: أتذكرأيامنا في ذلك الصيف الهادئ، وشبابنا يرخي بأذياله على الدنيا، يخضرها ويزرعها بالبهجة؟! كنا جميعاً على قصة حب رائعة لم يقدّر لها أن تصل إلى نهاية سعيدة… من يدري، لعلهما الآن أكثر سعادةة مما لو »انتهيا« زوجين! أمس عثرت على بعض أوراقنا آنذاك،.. كنت أنا الرسول بينهما، وهاتان رسالتان لم يقدر لي أن أوصلهما.
أخرج الرسالتين بحرص شديد من علبة يكتنز فيها الحميم من ذكرياته وشرع بالقراءة.. كتب إليها يقول:
»قصيدتي بتراء، القوافي بل المعاني تنفر مني… لا يجيء الشعر من خارج اسمك..«.
أما رسالتها فقد قالت فيها:
»خذني إليك لكي أجد نفسي. من دونك أفتقد المعنى. أحتاج لمستك لأكون امرأة. قبلك كنت كومة من الأشياء المهجورة. معك أستعيد اسمي وجسدي وروحي. منك تجيء الأسماء. لكأنك تسكب المعنى في كل ما تحط عليه عيناك.
»لا أطلب منك أن تعطيني. أطلبني فيك. لا أكون إلا بك. خارجك الضياع والتفاهة، والزمن منشار يفري عظامي. خارجك الصقيع ووحوش الغربة وليل اليأس.
»ادخلني فيك. لا تصلبني على بابك. إن كان لا بد من الصلب فعلى صدرك وفيه، اجعلني أحب نفسي لأنك تحبها«.
حديث ليل
تجيئين مع الليل، ويذهب معك الليل غافلاً عن إيقاظ الصباح.
تقولين في الليل. تقولين لليل. يقول لك الليل… وتملأ العتمة أذني فأسمع بقلبي ترنيمة امي لطفلها وهي تسري به لكي يأخذها إلى البعيد.
مرة سألني عنك الليل، ومراراً سألته عنك. قلت إنك فيه فأخرج نجومه جميعاً واختال زهواً وكاد يقول للناس: انظروني!
مرة وصل الليل قبلك فجلسنا نسمر.
قال انك خلف النوم، وقلت انك تحتجبين ولا تغيبين، مثل نجمة تفسح الطريق امام الشمس ولكنها تستبقي عاشقها خلف الظن وقبل اليقين: تراه ولا يراها، ولكنه يعرف انها تسمعه بقلبها.
سألتك مرة ان تخرجي من الليل، فأغرقتِني ظلمةً باردةً حتى استغفرته فصفح. قال: من يحبَّ يأتِ اليّ!
وسألته مرة ان يأخذني إليك فقال: من يحبَّ يأتِ ولا يسكن الانتظار!
جميل هو الليل أرض لقاء… ولكن ماذا ترانا نفعل في الوقت الأبيض بين اللقاءين!
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
سيسألك حبيبك كل يوم ملايين الأسئلة التي يعرف اجوبتها، من مثل: هل فكرت بي؟ لا تتضجر، خصوصاً وانك لست مضطرا لان تجيب على سؤاله، ولا هو ينتظر الرد. انه انما يبلغك كم فكر هو بك، كم انه مسكون بك، كم انه لم يعد يرى نفسه خارجك، ويريد ان يستوثق انك في مثل حاله.