عن اللغة الجميلة التي أعطتنا أمين الريحاني!
السباق محموم بين الشعوب للخروج من جلودها ورمي موروثاتها ومكوناتها سعيا الى بطاقة انتساب الى النظام العالمي الجديد بمختلف تطبيقاته ذات الغموض الجذاب.
الكل يسعى جاهدا لأن ينسى نفسه، فينكر ذاته (الأصلية) لعله يتطهر فينال بطاقة صعود الى »الفلك« الذي سينقذه من طوفان الهوان والذل والدونية كونه ينتمي الى »العالم القديم« السائر الى الاندثار.
الأفراد يرمون أسماءهم العتيقة في المزابل، يمزقون هوياتهم، ينكرون أوطانهم، يتنصلون من أفكارهم القومية المتخلفة (التي دفعت الآن بالشوفينية، اما العنصرية فاحتكار لمن اخترعه ومارسه وفرضه سياسة كونية: شعب الله المختار).
الأفراد الشعوب أو الشعوب التي صارت أفرادا، آحادا لا تجتمع وليس لها حاصل جمع، يعرضون الأثواب الداخلية لأمهاتهم في سهرات الأنس ويضحكون، يمسحون بكوفيات أجدادهم أحذية »السادة« الذين يملكون مفاتيح العصر ويبكون من قهر الوضاعة!
الأفراد الشعوب يهجرون لغاتهم العاقر التي لا تستوعب العلوم الحديثة والتي يصعب نطقها ويصعب فهمها ويستحيل على إنسان الفضاء والكومبيوتر والنوويات أن يتعلم قواعدها وأن يكتب الهمزة بلا خطأ، وكائنة ما كانت حركة جرف ما قبلها..
قُضيَ الأمر: ثمة لغات شاخت وآن لها أن تموت.
للعصر لغة واحدة، لا غير، وبعض الملحقات التي تتهجن تدريجيا بقدر ما يفترق عنها أهلها حتى لا يفوتهم قطار التقدم..
لا تكابر. لا مجال لأن تدخل دنيا التحولات إن أنت لم تتحوّل.
تخفف من ماضيك،
ارم صليبك واتبع الإله الجديد الذي لا يقدر على صلبه أحد، بل هو الصالب وصانع المسامير. أرطن. مالك وللفصحى بقرآنها والمعلقات. ماذا سينفعك الحطيئة وامرؤ القيس وأبو تمام والمتنبي والمعري وصولاً الى شوقي والأخطل الصغير وخليل مطران والجواهري وعمر أبو ريشة. ماذا تفعل بنهج البلاغة والأغاني ولسان العرب وكل هذه السفسطات اللغوية التي تأخذك الى السأم والعبث وتعمق إحساسك بجهلك كلما اتقنتها؟! للعصر لغة واحدة، باب أوحد، فإن أنت لم تعرفها لم تدخله!
* * *
في المدرسة جعلونا نقرأ قليلاً عن أمين الريحاني، وعرفناه باسم الدلع »فيلسوف الفريكة«.
ولقد أخبرونا الكثير عن الفريكة بموقعها الجغرافي الجميل، والقليل القليل عن »ملوك العرب« وسائر ما أبدع قلم أمين الريحاني.
تحدثوا، وكتبوا عنه، كأستاذ كبير، ونسوا أن يبلغونا أهم ما في سيرته.
أخفوا عنا أنه أحد أوائل الذين قاموا بهجرة معاكسة، ليس فقط من العالم الجديد إلى عالمه القديم، بل أيضاً من لغة الابتكارات والاختراعات الحديثة الى لغة قريش وامرئ القيس والحطيئة والشنفرى والمتنبي و…
وأخفوا عنا الأهم: ان العروبة، أي إحساسه بقوة انتمائه هي التي جعلته يقوم بهجرته المعاكسة، وكان رائدا في أن يجيء من العروبة إلى اللغة العربية بينما »القاعدة« ان تأخذك اللغة، بين قيم ومكوّنات عديدة أخرى، إلى العروبة.
»عدت إلى بلادي كئيباً يحمل كتاباً، ويرغب في أن يكون الكتاب مئة كتاب وكتاب.
»وكنت لا أعرف من لغتي وآدابها غير اليسير اليسير، فتغلغلت في سراديبها دون أن أرثي لحالي، وبينا أنا أتخبط في دياجي اللغة عثرت على كتاب شعر أنساني الكسائي وسيبويه وكل من علم حرفاً في البصرة والكوفة.
»جمعني الله بأبي العلاء المعري بعد أن هداني بواسطة الفيلسوف الانكليزي إلى الرسول العربي. قرأت »اللزوميات« معجبا بها، ثم قرأتها مترنحا، ورحت أفاخر بأنني من الأمة التي نبغ فيها هذا الشاعر الحر، الجسور، الحكيم«.
قد تختلف الآراء أشد الاختلاف في أمين الريحاني »السياسي«، ودوره في »أرض العرب«، وقد جاءها بجواز سفر أميركي وبمهمة »دبلوماسية« ملتبسة، لكن الآراء تتفق كل الاتفاق على موقعه الاستثنائي ككاتب وكأديب وكواحد من طلائع الصحافيين الأساتذة.
لعل أمين الريحاني هو أول »ريبورتر« أو أول »صحافي« عربي، بالمعنى الحديث للكلمة: لم يسبقه أحد، وكان علينا أن ننتظر طويلاً ليظهر من يكمل دوره أو يتقدم عليه.
إنه مزيج فذ من الرسام والراوية والشاعر والمسرحي والمخبر والمصور الفوتوغرافي. والمحقق الذي لا يهمل تفصيلاً ويربط بين الشكل والمضمون وبين الموروث والمطموح إليه.
على أن لغته هي إبداعه الأعظم: فهذا »الأمي« تقريبا، والذي هاجر الى الولايات المتحدة الأميركية وهو في الثانية عشرة من عمره، والذي لم يكن يعرف غير اليسير من اللغتين العربية والفرنسية، والذي كان للعربي في ذهنه صورة »البدوي« التي تخيف بها الأمهات أولادها بوصفه البعبع… هذا »الأمي« الذي هجر وطنه وفي صدره الخوف ممن أخذ يتكلم لغتهم، والبغض لمن في عروقه شيء من دمهم، والبغض والخوف هما توأما الجهل…
هذا »الأمي« تقريبا كان عاشقا عظيما للغته الأم.
وبفضل هذا العشق أبدع باللغة التي تعلمها كبيرا أدبا عظيما.
لقد ساعده عشقه المكين لهذه اللغة الرقيقة حتى الشفافية، الغنية كما المحيط المحيط، الفسيحة كما السماء، الأبية كما الفارس، ذات الرنين المطرب كما الناي، وذات القوام الأهيف كصبية مراهقة، وذات الأغوار العميقة كصدر مطوي على حب قديم،
ساعده عشقه على استعادة وعيه بذاته، والتعرف مجددا إلى وطنه وأمته، والتشرف بالانتماء إليها.
لقد اختار لغته ولم يرثها،
ومن ثم فقد وجد فيها الأم والهوية والانتماء.
بها عرف اسمه، وعرف نفسه،
وكتب فأبدع لأنه يعرف، من هو، ولأنه يحب ذاته، ويحب أرضه، ويحب أمته، على الحال التي وجدها عليها.
لم يخجل بها، ولم يهرب منها، ولم يتنصل منها.
في الذكرى المئوية لولادة هذا الذي غادرنا صغيرا فلم ننتبه إلى مغادرته، وعاد إلينا كبيرا فكبرنا به، لا بد من تحية للغة الإبداع التي كوّنته وأعادته إلينا فأغناها وأغنانا،
تحية لأحد رواد الهجرة المعاكسة..
تحية لمن أكد أن الانتصار قرار ذاتي، وأن اللغة »القديمة« ليست عائقا في وجه التقدم، وأن الاغتراب عن الذات ليس حلاً، وأن الهجانة ضياع وليست انتماء الى العصر.
تهويمات
احتضن الشوق، والشوق حضن،
يثرثر الشوق في عيوني، ثم يهمي مطراً في الحضن المفتوح للخصب،
يقول الشوق بلسانك ما كان يتجمع من حبيبات الكلام في خاطري، فلا يتبقى لي غير أن اسمعني بصوتك،
تختلسين مني الفكرة، وتمنحينني فسحة التمتع بانبثاقها شفافة مشغوفة وشبقة التعابير… مثل شفتيك تماماً: انطباقهما دعوة الى رياض الجنة، وفي فرجتهما جحيم الرجولة المفتوح على التحدي.
تعب الشوق مني فنام،
وتعبت ظنوني من فراغ انتظارك فتغلغلت في الحضن الدافئ تحرضه على استعادة مجد الامتلاء!
* * *
لماذا تغسلني عن وجهك، ثم تطفئ رائحتي بعطر الدكاكين الرخيص؟
لماذا تخلعني عن جسدك وقد لبسته ولبسني وأغلقنا باب الرغبة بالتوحد فيها؟
لماذا ترميني في هوة النسيان وأنا أنتظرك وأصطنع لك من عصارتي ذاكرة للندم؟
لا يعيش الحب في الخوف.
وأنت أجبن من أن تحب.
وأنا أمقت الضعفاء الذين يأكلون قلوبهم حتى لا يفضح الغرباء امتلاءها.
فلنفترق بهدوء: احفظ خارجك للخارج، وادفن داخلك في الداخل، لا وداع لمن يروعه التنهد أو حفيف انطباق الشفتين.
* * *
ألملم ملامحي من فوق أصابعك،
أحاول استعادة وجهي من عينيك،
وحين أهم بأن ألبسه لأرحل يهجرني جسدي اليك،
فلا تلتقي نتفي فاكتمل إلا فيك وبك وعبرك.
ووجهك مرج عيون
ما أروع أن تسكن في حدقة الخصب الخضراء.
* * *
لا أجد باب الخروج منك!
هلا أغمضت عينيك قليلاً؟!
* * *
لماذا عندما تكونين معي أذهب الى خيالك، فإذا ما ذهبت عدت إليك؟
سأظل أخطئ في حروف الهجاء، وفي التفريق بين ظروف الزمان وظروف المكان حتى تنتهي الرحلة العبثية في الذهاب منك إليك ويتوحد الوقت فوق الكرسي الدوار، ونصنع الليل بضوء النهار المحروق.
* * *
لكِ: ألا تنامي أبداً؟!
للنوم كمين… كلما ذهبت إليه وقعت فيك. تخرج إليّ من الصمت وأحاول اقتحامك بنعاس الكلمات، فتهدهدني بغنائك الحزين الى ذروة الصحو!
* * *
الثلج يصير زبداً،
الزبد يصير ثلجاً،
الزبد يغطي قلبك بالثلج،
والبحر بعيد،
وقلبي خلف البحر،
والبحر خلف عينيك،
وأنا سمكة نسيت أن تتعلم السباحة، فتاهت بين الزبد والثلج، وهي تطلب بوابة البحر ذات النورين.
قصص مبتورة
قالت له: لماذا تجلس كالأبله! تأكل أفكارك التي لن تكتمل ولا تصل الى متعة البكاء. يزحف النمل على يديك فلا تنفضه حتى لا يسقط رأسك في وحل الخوف.
تكاد تقنعني بحضورك انك وهم!
قال: لقد شارفت على الوصول. هيا اقتحمي الوهم فنلتقي.
* * *
قال: جسدك الشعر،
قالت: وأنا أنتظر من ينشرني على الناس. ليس أمتع من أن تسكن في الناس معنى، رغبة، شهوة، تتطاول أيديهم إليك فلا تطالك، فيسافرون إليك بالظن ويسعدون بلقيا خارج الممكن،
* * *
قالت: لا تشرك بي امرأة أخرى. ستحصد جمر الخيبة ويمزقك اختلال التوازن. لا يتسع الرجل لامرأتين!
قال: لا أنوي الذهاب إلى الحرب. امرأة واحدة لعمر واحد، بل هي تفيض عن الحاجة… إذا وجدت.
قامت لتنصرف مغضبة وهي تقول: يوجد الرجل المرأة. توجد المرأة الرجل. إذا هو لم يجدها فإنه غير موجود.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
أتعرف، صار لكل ما هو جميل وجه حبيبي وصوت حبيبي، صار يطل عليّ من العطر، من الموسيقى، من الصمت. فإذا سمعت أغنية تطربني أحسست بيديه تعزفان على أضلعي، وتصطنعان من تنهداتي نغماً.
كيف تسمى حياة تلك الأيام الخاوية من الحب؟!
حبيبي زماني وأنا ساعته لكي يتعرف إلى ذاته.