إعدام التاريخ والجغرافيا بالحروب الأهلية للخروج من العروبة
ندخل زمن الانحطاط بعقولنا قبل أقدامنا. نخرج من كل مكوّناتنا الأصلية: اللغة بداية ومعها آدابها شعراً ونثراً، قصصاً وروايات وأساطير وملاحم شعبية. نهجر وجداننا ونستعير لغات أخرى. نحطم لغتنا بحجة الحداثة. نتهكّم على أسماء الآباء والأجداد، نسخر من عاداتهم وتقاليدهم. نستعير ما ليس لنا وما ليس منا. «نلبس ما لا نصنع حقاً، ونأكل مما لا ننتج فعلاً». نقصّر المسافة مع السيد الغربي بأخذ ما تركه أو هو في الطريق إلى تركه. هل تعرف فرنسياً أو بريطانياً أو أميركياً يخجل بلون بشرته، باسمه، بتاريخ وطنه الحافل بالهزائم قبل انتصاره بأن قد صار دولة قوية؟
العروبة، الآن، سبّة. نخجل منها وتتعدد ذرائعنا للخروج منها وعليها.
يراها بعضنا ادعاء لا سند له. يختزل التاريخ بالهزائم أمام الغير. يقزّم نفسه ليلتحق بالآخر، الأقوى، الأكثر تقدماً، صانع الحضارة الجديدة. لا يهم أن ذلك الآخر لا يقبله إلا بهويته الأصلية وإن تنكّر لها. يتلاشى كيانه. يرى هذا كله مدخله إلى العصر. كن لا أحد تدخل العصر.
ننزلق من الهوية الجامعة إلى هويات الاقتتال الأهلي. نعيد إنتاج إسلام سياسي لا علاقة له بالدين الحنيف، نستعير مسيحية مهجنة تزوِّر المسيح والسيدة العذراء ونقبل الأسماء المحرّفة لتلاميذه بينما علّمنا الإنجيل الأسماء الصحيحة، ودلّنا على الأمكنة جميعاً، وهي ما زالت قائمة بأسمائها الأصلية برغم الاحتلال الإسرائيلي.
نعتبر إسرائيل انتصاراً كاسحاً للتعصب الديني، فنتعصب ضد بعضنا البعض لا ضدها. ننكر هويتنا، نقطِّع وشائج القربى، نخرج من تاريخنا وعليه. نهجر الكتب المقدسة إلى أحاديث الرواة وترجمات المستشرقين ومزاعم مؤرخي الحروب الصليبية وادعاءات الكتبة والفريسيين.
نصطنع لأنفسنا تاريخاً غير الذي كان. نأخذ عنهم. نقرأ أسماءنا بلغاتهم. نقرأ بلادنا بأقلامهم. نصدقهم ونكذّب أهلنا وبيوتنا وشواهد الزمان الذي أعاد صياغته الأجداد. نسعى إليهم بادعاء أننا قد قبسنا عنهم الأسماء والأزياء والعادات وتقاليد الأكل والشرب، فيبتسمون ويرجعون بنا كأيتام مرميين في الشارع ولا من يعرِّف بهم.
يروننا عرباً فننكر عروبتنا. يأتون لتعلّم لغتنا فنسخر من حنينهم إلى التخلّف ونتغافل عن البُعد السياسي. يأخذون مع النفط أبناء أهله وحين يعود هؤلاء، إذا ما عادوا، ينكرون أهلهم. أما الفقراء منا فيقبلونهم كلاجئين، كعمال على محطات الوقود، كباعة في المخازن الأسطورية المحروسة بعدسات التصوير والكلاب البوليسية. وحين يطمئنون إلى أننا قد سكنّا أسماءنا الجديدة ورمينا لغتنا الأم، وهجرنا كل ما يدل على أصولنا يقبلوننا وقد غدونا لا أحد: فلسنا من كنا، ولسنا منهم، ولسنا ما رغبنا في أن نكون.
يسموننا عرباً فنستنكر التهمة. نزوّر الأدلة لنثبت براءتنا من العروبة. نستدعي مع الفينيقيين الإغريق والرومان، الأحباش والفراعنة، الكلدان والأشوريين، البابليين والحثيين، ثم نلوذ بالمماليك والصليبيين وصولاً إلى العثمانيين والاستعمار الغربي الذي أعطانا أسماء غير أسمائنا، فإذا الأخ بهوية غير هوية أخيه، وإذا الفواصل بين الأشقاء متجذرة في التاريخ المصنّع بحسب المصلحة.
تصير هويتنا التي كانت واحدة أشتاتاً ومزقاً من هويات كثيرة استولدتها حقب الاستعمار والتيه في التخلف والخجل من حقائقنا إلى حد إنكار الذات… وعندها نغدو أمماً شتى ولا نرث من تاريخنا إلا حروب القبائل والتحالف مع الأغراب على الإخوة، وإلا احتقار الذات، وإلا التنكر للأرض التي أعطتنا الهوية بلون البشرة والعينين وامتهان المرأة إلا كمدرّة للشعر وحافظة للنسب الذي لم نعد نحتاجه بعدما غدا عبئاً يسد علينا طريق التقدم… إلى هوية الاندثار.
ننسى أنّ من نحاول ـ بغير نجاح ـ أن نقلدهم اليوم كانوا في ماضيهم يعيشون حالة أتعس بكثير مما نحن فيه، ولكنهم انتبهوا فتوحّدوا في دول قوية لأنهم بذلوا دماءهم وعرقهم، أفكارهم وإبداعاتهم في بنائها الذي يبهرنا.
لا يخجل الفرنسي بتاريخه الحافل بالحروب الأهلية والهزائم، بالأباطرة السفاحين وملكات البسكويت، ولا يخجل الإنكليزي بحروبه الداخلية وبعضها ديني الجذور لا تزال مستمرة إذا ما تذكرنا إيرلندا، لا يخجل الأميركي بالحرب الأهلية الطويلة التي بها تمّ توحيد تلك القارة في دولة جبارة. كلهم يتباهى بأنه استطاع أن ينتصر على ذاته، على غرائزه، على مشاعره الدينية من أجل أن يصطنع وطناً لأمة قادرة على صنع مستقبل من التقدم بالعلم والكفاءة.
إذا كنت تخجل بذاتك، كمواطن له هويته وله تاريخه، له أرضه وله تراثه الحضاري العريق والذي يشكل سنداً لك في اقتحامك العصر باعتبارك قادراً على أن تكون من أهلك، فهل التنكّر بهوية غيرك يفتح لك الأبواب؟!
ليست المشكلة في العروبة. المشكلة في من يبحثون عن الهجانة ويعتزون بأنهم ليسوا أبناء هذه الأرض، وليسوا من هذه الأمة «التي تستعصي على الحداثة»؟!
المشكلة في من يُخرج نفسه من التاريخ والجغرافيا، من الدين واللغة، إلى الطائفة أو المذهب أو المهجر، ثم يدّعي أنه قد حقق ذاته.
إن هذا المناخ هو المقدمة الضرورية للحرب الأهلية التي تتكفل قبائلنا وطوائفنا ومذاهبنا، تحت قياداتها السياسية الشرهة إلى الدماء، بإشعالها حروباً لا تنتهي إلا مع هدم آخر بيت في هذه الأرض العربية البلا حدود.
تريد شواهد: انظر إلى لبنانك! انظر إلى سوريا! انظر إلى العراق، انظر حيث تستطيع أن ترى من البلاد عبر الحرائق الطائفية ـ المذهبية ـ العرقية التي تلتهمها… ومعها هويتها الأصلية: العروبة!
ليال طويلة لسماع قصة حب سجينة
أوّل ما شده الصوت. كان ينبض فرحاً مع أن صاحبته سجينة غرفة مقسم الهاتف حيث لا نافذة، بل طاقة طولها شبران وارتفاعها ثلاثة أشبار وعرضها نصف متر.
عشق الصوت. لم يكن يراها، وهي في مكمنها، تتلقى المخابرات الهاتفية وتحوّلها إلى المطلوبين.
مرة رن الهاتف في مكتبه، ومر طيفها في خاطره من دون سبب مفهوم. قالت بصوت خافت: اعذرني، ليست لك المكالمة، ولكنني حوّلتها خطأ. كنت أفكر فيك. لا أسمع صوتك إلا نادراً، ولقد أحببت أن أقول لك: نهارك سعيد.
كان بوسعها أن تلمحه من مكمنها وهو يدخل المبنى الذي يعج بالزوار والموظفين. وفي وقت لاحق ستعترف له بأنها كثيراً ما أهملت عملها إذا ما قدّرت أنه قد تأخر عن موعد حضوره.
كان دوامها مسائياً… وكان يمضي ساعات طويلة من الليل وهو يحاول أن ينجز عمله.. خصوصاً إذا ما أحس رب العمل بالضجر وأراد من يشاركه في ابتداع أفكار للتسويق.
وفي الليل يحلو السمر: ولقد تجرأت مرة فسألته عن بلدته متخذة من لهجته دليلاً… ثم اندفعت تمتدح تهذيبه مقارنة بفظاظة غيره. قالت: بعضهم يعاملني كأنني جارية. والبعض يخاطبني كأنني خادمة. أما الأوقح فيرميني بكلمات ملتبسة المعنى ولكنها تفوح بالشهوة.
في مرة أخرى اندفعت تتحدث عن نفسها، بغير مناسبة. قالت: لا أحد يصغي لي. زوجي جاموس، وأنا في عملي مضطهدة. قبلت هذه الوظيفة لأنني بحاجة إلى العمل. سامحني، أريد أن أشكو سوء حظي، ولقد أغراني تهذيبك بأن أفتح لك قلبي.
يوماً بعد يوم أخذت مساحة المكالمات الحميمة تتسع. تسأله في البداية إن كان لديه خمس دقائق فيهمهم.. وعندها تندفع في بث شكواها… فإذا ما اضطرت إلى قطع اعترافاتها لترد على مكالمات مهمة، استأذنته أن يبقى على الخط، وهكذا عرف الكثير من تفاصيل الحياة السرية للعديد من زملائه، إذ إنها عندما تعود إليه معتذرة تندفع فتروي له مضمون المكالمة التي حوّلتها، والعلاقة بين طرفيها، من في الداخل وبينهما ومن في الخارج. وهكذا عرف الكثير عن العشاق والمغرمين بين زملائه، وعن الخيانات الزوجية لعدد آخر منهم.
مرّ شهر أو يزيد من مكالمات التشكي والنميمة وكشف الأسرار، وهو مجرد متلق، لا تكاد تسمح له اندفاعاتها وقدرتها على السرد أن يستوضح تفصيلاً، أو يبدي استغرابه أو إعجابه إلا بالهمهمة…
فجأة سألته: ألا تحب أن نلتقي خارج هذا السجن؟
حار في الجواب، فعادت تستحثه: أريد نصيحتك في أمور خطيرة. إنني أريد أن أنهي الغلط في حياتي.
حاول أن يتهرّب، تذرع بأن ساعات دوامه مليئة لا تترك له فرصة تكفي لتلبية مطلبها.. وأنه قليل الخبرة، وهو العازب، في شؤون الأزواج وسجونهم.
قالت: اترك ترتيب مكان اللقاء وموعده عليّ. لن آخذ من وقتك إلا ساعة. ولكنني أريد أن أقرأ الجواب في عينيك قبل أن تهمهم به بلغتك حمّالة الأوجه لشدة عنايتك باختيار الكلمات التي لا تتحمّل التأويل.
صمت فعادت تستحثه: لا تخف مني لن أفترسك. صحيح أنك شبّهتني بالنمرة، ولكنني مدجّنة بالقهر.
غاص في مزيج من الحيرة والخوف: ماذا تريد منه بالضبط؟ قد تهدد المغامرة موقعه في المؤسسة. قد يكتشف أحد وجودهما معاً، هو المدير وهي عاملة الهاتف.. ماذا يمكن أن يكون الرابط بينهما وتلاقيهما في خلوة؟
هتفت: لا تكن جباناً. لقد لجأت إلى شهامتك. هي ساعة ثم يذهب كل منا في حال سبيله.
ظل على صمته، فزادت من استفزازه: ظننتك شجاعاً بما يكفي لإغاثة امرأة وحيدة.
قال: ولكن.
قالت بنبرة تحد: أرح نفسك وانس الموضوع تماماً.. كل نسائكم أنتم العرب مظلومات فماذا يعني لك أن أكون واحدة منهن؟
استفزته الكلمات الأخيرة فأقفل سماعة الهاتف مغضباً.
صباح اليوم التالي فوجئ بها تقطع عليه طريقه إلى عمله عند منعطف حاد. توقف مربكاً، فقفزت إلى السيارة بخفة وقالت: استدر بالسيارة واتجه إلى يسارك. ليس هنا من يعرفك أو يعرفني. هناك مقهى بستائر كثيفة، وزبائنه قلة، والعاملون فيه فقراء مثلي ولذا فهم لا يعرفونك ولن يهددوا موقعك الخطير.
وجد نفسه ينفذ التعليمات بحنق صامت. فكّر أن يوقف السيارة ويأمرها بالنزول منها، لكنها قد ترفض. فكّر أن يصرخ بها، أن يصفعها، ولكنها بادرته: اهدأ. يمكنك أن تفعل ما تشاء حين نصل إلى مقهانا.
نبر مغضباً: مقهانا؟ منذ متى بات لنا أماكن مشتركة.
لم ترد، فأكمل: لقد استمعت لهمومك لأنني طيب، ولكننا غريبان، ماذا تعرفين عني؟ تعرفين أنني مدير في المؤسسة العظيمة التي أتاحت لك أن تعرفي أسرار العاملين فيها ببراعتك في استدراجهم لأن يبثوك همومهم… واخترتني من دونهم لتبثيني همومك.. ولقد تعاطفت معك إنسانياً.
قاطعته: لا أريد إلا إنسانيتك.. وقد اقتحمت عليك الطريق لأنني أريدك أن تصحبني إلى حيث أروي لك مأساتي. أن ترى دموعي وتسمع شهقات وجعي، أن تنصحني، أن تأخذ بيدي للخروج من المأزق.
نبر مغضباً: لكن بأية صفة؟ هل أنا وليّ أمرك؟
قالت ضاحكة: اخترتك وليّ أمري.
لم يرد، ظلت عيناه على الطريق، إلى أن هتفت: انحرف يميناً. تقدم خمسمئة متر، ثم انحرف يساراً، ستجد مقهانا على الناصية المواجهة.
ترجلت وانتظرته، ثم تقدمت إلى المقهى ودخلت متعجلة وهي تهتف بمن استقبلها: رحّبوا بمديري.. لقد أردت أن أقدمكم إليه باعتباركم أهلي.
جاء الشبان الثلاثة الذين يتولون الخدمة في المقهى المسدلة ستائره. صافحهم وحيوه، ثم اختفوا بعد أن قدموا لهما قهوة مع شيء من الكعك.
قالت وهي تضع يدها فوق يده: الآن أستطيع أن أتحدث على راحتي، وأنت مضطر لأن تسمعني بتركيز.
صمتت لحظات قبل أن تهمس: ألم تدرك أنني أحبك.
انتفض كمن باغته الاعتراف العلني المتأخر، فتابعت: أنت وحدك من فتحت له قلبي وأطلعته على أسرار حياتي البائسة. أنت وحدك أضأت طريقي بالأمل. أريد أن تساعد في إنقاذي. إنني مقهورة في بيتي، مقهورة في عملي. لقد اضطررت أن أقبل وظيفتي البسيطة لكي لا أمد يدي لزوجي الغبي.. وحتى لو مددتها فلسوف ترجع فارغة، بل ربما رد عليّ بصفعة.
انهمرت دموعها شلالاً، فحوّل وجهه عنها، ثم وجد نفسه يندفع إلى احتضانها قبل أن ينتبه إلى أنه ينزلق إلى حيث لا يريد، فابتعد معتذراً، فإذا هي ترمي رأسها على صدره وهي تنشج: أحبك، أحبك، ألم تعرف بعد؟ أنت ملجئي الوحيد. أنت سندي. أنت عمري. ليس لي غيرك. أرجوك لا تتركني. لا أريد منك إلا فسحة الأمل. أعرف ظروفك وأقدّرها. قسماً لن أحرجك. ليس لي أهل، هنا، فكن أهلي.
ظل على صمته واندفعت تروي وتروي وتروي، إلى أن انتبه إلى الوقت فهبّ واقفاً وهو يقول: يكفي اليوم، سنلتقي مرة أخرى.
ولقد احتاجت الرواية الكاملة لقاءات عديدة أطالت الليل وقرّبت مواعيد إشراقات الفجر.
مـن أقـوال نسـمة
قال لي نسمة الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ قد تتسع حياتك لألف عشيقة، لكن حبيبة واحدة تتكفل بإجلائهن جميعاً لتشغل بدلاً منهن القلب والعقل والذاكرة والحواس، الصحو والنوم والاسترخاء في ظل الكلمات الأخيرة أو لمسات الوداع بغير كلام، أو لفتات ما بعد الافتراق والابتسامة المحترقة باللهفة إلى الموعد التالي.
لا تشغلني الآن.. أنا في ضياع ما بين الموعدين!