I ـ حسن عبدالله يتأمل “ظل الوردة” والحشرة الذهبية الطائرة!
قديم هو إعجابي بهذا الطفل الذي تمر به السنين مر السحاب فلا هو يغادر طفولته ولا هي تغادره. يدهمه الصلع، ويبلغ ما تبقى من شعره الشيب فيبقى الطفل في داخله متوهجاً، قلقاً، مدثراً بالسذاجة.. ربما لهذا يعتبره كثيرون، مثلي، واحداً من أنجح الأقلام التي كتبت للأطفال.
ولقد نجح حسن عبدالله في أن يحتفظ بمكر ابن السنتين، بينما يترك خياله طليقاً يعيد رسم موقفه من الحياة والناس بالسذاجة الجارحة كالصدق.
الطفل الأصلع الذي نطق بالشعر قبل أن يعرف الكلام، نصفه عينان ونصفه الآخر تائه بين “الدردارة” في الخيام ومجالس الذين تقاعدوا من الاهتمام بالشأن العام في وقت مبكر، لأنهم لم يعودوا يجدون ما يستحق أن يصرفوا عليه من ساعاتهم بغير طائل:
“الحقيقة تقيم في النصف المظلم من الإنسان، والترهات في نصفه المضيء”: هكذا قدم حسن عبدالله لديوانه الجديد “ظل الوردة”، وقد رسم الوردة بقلمه، ثم اندفع يلونها بعبث الطفل فيه، فإذا الغلاف لوحة كما القصيدة.
في التمهيد كتب: “لم يحدث أن غرقت في نهر أو بحر
والمرات الكثيرة التي حدث فيها ذلك كانت هنا على اليابسة”.
هو لا يسمي هذه المجموعة ديواناً، كما الثلاثة التي سبقت “أذكر أنني أحببت” و”الدردارة” و”راعي الضباب”.. يكتفي بأن يسميها “شعر وتأمل”… وهو يعلن صراحة أنه سيواصل البحث والإنتاج: “هناك شيء تمسك به الحياة أو تخفيه وراء ظهرها.. ولن أتوقف عن الكتابة حتى أعرف: ما هو”!
.. مع أن حسن عبدالله كسول، بل هو يمارس متعة أن يتأمل بكسل أولئك الراكضين ليلحقوا بمواعيد مع “كبار” ليس لديهم ما يستحق الاهتمام، والذين سيصرفون كثيراً من الوقت قبل أن يكتشفوا أنهم أكبر ممن ذهبوا إليهم، فيلجأون إلى النقد الذاتي عبر قهقهات أصحاب الخبرات المعتقة، ممن أوصلتهم الخبرة إلى هذه الحقيقة الباهرة!
“وقفوا تحت شجرة الجوز… وراحوا يتحدثون عن عاصفة قادمة
فتساقطت أوراق الشجرة من شدة الخوف”.
حسن العبدالله، الذي تتعبه الكتابة فيهرب إلى الشعر، بات يختصر القصيدة ببيتين، فإذا ما هدّه التعب بعد الشطر الأول ترك لبياض الصفحة أن يوصل إليك المعنى.
“مضمومة الأجنحة تندفع عصافير الدوري من شجرة الجوز إلى شجرة التين
كأن هناك من يراشق بها..”.
أو أنه “مكث يحدق في الوردة حتى انفجرت”
أو لعله انتبه فنبّه رفيقته: هل ترين الفراشة؟ عجباً.. كيف تصمد هذه الهشاشة بجناحين؟!”.
ولكنه يأبى أن يرى الصورة زاهية حتى في الربيع وللربيع:
“الحياة لديها الكثير لتفعله في الربيع… والموت كذلك”!
مع أنه “في البرية التي أخاف فيها الذئب” شاهد ذئباً ميتاً!
بل إنه يحمّل الربيع فوق طاقته:
“لا تنشط اللذائذ في فصل من الفصول/ مثلما تنشط في الربيع/ والآلام كذلك”.
حتى الينبوع يراه “كعين تبكي من الفرح”.
ربما لهذا يدعو رفيقته إلى حمل مصباح في يدها حين تزوره، فالحياة مظلمة من حولي..”.
“الموت” تفعيلة تتكرر في هذه القصائد المن جملة واحدة، وكذلك “الألم”:
“الموت يروح ويجيء من حولنا بأقدام حافية.. لكي لا يحدث الجلبة التي توقظنا من حلم الحياة”.
فإذا غاب الموت حضر الألم والتعاسة:
“الآلام أهم مصدر من مصادر المعرفة” و”الألم ضوء”.. و”المؤلم في الألم هو شعورنا أحياناً بأنه عقاب على ذنب لا نعتقد أننا اقترفناه” و”أتعس الناس هم أولئك الذين يعيش الماضي المؤلم أكثر من عمره الطبيعي في ذاكرتهم”.
“حياتي، بوجه عام، كانت سعيدة.. فالمرات التي تمنيت فيها الموت لا تزيد على مئة مرة”.
على أن حسن العبدالله لا ينسى الجنوب، بل لعله يهرب إليه كلما أحس أنه يريد أن يتنفس ملء رئتيه:
“جيم جيم، الجنوب، أو جبل عامل/ الجنة أو الجحيم
الجنة عندما يكون لي/ والجحيم عندما يكون لعدوي”
وهو طريف في استذكاره لعيد التحرير:
“الحشرة الذهبية الطائرة/ عندما انقض عليها العصفور الطائر
بدت سعيدة… بأن تلتهم”!
والجنوب يفتح سيرة المواقف فيحدد حسن:
“أدفع ثمن مواقفي أكثر مما أدفع ثمن طعامي وشرابي
ها أنا أخيراً حر بعد استقالتي من العمل/ إن ذلك يشبه عطسة حُبست طويلاً”.
“شعر وتأمل” القصيدة الرابعة للكبار، أما قصائده للصغار فعديدة ومتميزة حتى لتحسب أنها تشكل سيرته الذاتية.
كيف اجترح هذا الخيامي المعجزة فترك السنوات تمر وهو قابع في طفولته، يمارس البراءة شعراً ويرمي نثره للعابرات كي يصنعن منه ضفائر مجدولة سرعان ما يتخذها مراجيح تاركاً لهن شرف دفع المرجوحة.
صحيح أن “كل إنسان هو إنسان من ذوي الاحتياجات الخاصة”.
II ـ زهير هواري يكتب قصيدة وفائه: المنصورة أرضاً وشعباً وتقاليد!
.. وأخيراً، باشر زهير هواري قصة عشقه لبلدته “المنصورة”!
اتخذ من واحدة من لوحات الفنان الدمشقي الشعبي “أبو صبحي التيناوي” عنترة العبسي، إن شئت، أو الزير أبو ليلى المهلهل، أو سيف بن ذي يزن، غلافاً لسيرة حبه، ومن باب التمويه أعطاه عنواناً بريئاً: “حكايا هرج ومرج الأجداد ـ الثقافة وتحولاتها في مجتمع ريفي ـ المنصورة، البقاع الغربي نموذجاً”.
الإهداء توكيد للعشق المكين: “إلى أبي عبد الرحيم الهواري كآخر ممثل لجيل الرواة ـ وإلى أخي عدنان… هذا العمل يحمل بصماتهما”.
الكتاب دراسة ميدانية دقيقة وشاملة، وهو في هذا يعكس شخصية زهير هواري الذي أسعدنا بزمالته عمراً قبل أن يتفرغ ـ وقد حصّل شهادة الدكتوراه ـ للتعليم الذي اتخذ منه قضيته صحافياً وباحثاً ودارساً ومحاضراً.
لقد نظم الدكتور ابن المنصورة قصة حبه لبلدته عبر استعادة تاريخها، فدار يستنطق الجغرافيا والتاريخ، يستذكر حكايات الأجداد وتقاليد الأهل في السراء والضراء، ويروي سيرة الأرض وأهلها، بفلاحيها والإقطاعيين الذين تبادل بعضهم إهداءها لبعضهم الآخر من فوق رؤوس ناسها، ثم مشى مع التطور الذي “دهم” تلك البلدة التي تتقدم كنموذج للتعايش الطبيعي بين الناس الطبيعيين فيها.
سجل كل ما يتصل بالقرية قبل وصول الراديو والتلفزيون والصحف، وأعطى مساحة لمسرح أبي شكري والحكواتي ولعنزة أبي داوود وأخواتها وللغيلان والجن والضباع والذئاب وقصص الصيد.. كذلك أرخ لقيام المدارس الأهلية ثم الرسمية فيها وللشعراء وثور أبي ملحم، والقوالين وأشهرهم الياس وقاسم، وزجل الخمسينيات، والأعياد وطقوسها وعلاقة بعضها بالوثنية.
لم يترك واحدة من العادات والتقاليد إلا واستنطق العجايز عنها، وسجل مواقيت الأعراس ودلالاتها، وكان لا بد من أن يتوقف أمام العلاقة بين “القيمة والرجولة”، و”العونة أو الحمل” وصولاً إلى ألعاب الورق وألعاب الأولاد والأحزان المشتركة.
لم يغفل زهير هواري عن مصدر ومرجع إلا وعاد إليه، واستعان بثمرة العلوم الحديثة الإنترنت، فضلاً عن المقابلات العديدة والمتنوعة التي أثبت معظمها بأمانة، هي بعض طبيعته. وهو قد اعتمد على مقابلات من المعمرين في البلدة، ونقب حتى أمكنه العثور على سيرة مسرح شعبي حقيقي، وصاحبها عبدالله شكري الشلك، وقد أنشأه في العشرينيات والثلاثينيات، متخذاً من البيدر “خشبة” لا مثيل لها، في حين تولى الأهالي التمثيل.
استذكر زهير هواري ثروة المنصورة الحيوانية، في الماضي، فأثبت أنه كان فيها خمسة قطعان من المواشي بينها الجمال والخيول وثيران الفلاحة وأبقار الحليب والأغنام والماعز، وأضيف إليها في الخمسينيات والستينيات قطيع خنازير كان سوق تصريفه مدينة زحلة.
واستذكر ابن المنصورة الصوفيين، وكيف ركب شيخهم حمارة (لأنه لم يجد فرساً) وعبر بها على ظهور المريدين.
ولقد بدأت قصة الكتاب كجزء من مشروع أشمل سيصدر قريباً وفيه: تاريخ من لا تاريخ لهم ـ تأصيل فلاحي المنصورة في القرنين التاسع عشر والعشرين ـ بلدة المنصورة المختلطة وهجرة أبنائها منذ مطالع القرن العشرين إلى الأميركتين ـ وذاكرة حقبات الاحتلال التركي والفرنسي.
يذكر زهير هواري أن أوائل الكتب قد وصلت إلى المنصورة مع مطلع القرن العشرين، وقد جاءت مع سعيد وقاسم حمود العائدين من أميركا.. وقد مرا خلال عودتهما بمصر… في حين أن معظمها قد اشتراها بعض أهل المنصورة من دمشق أو جاء بها باعة متجولون.
يشير الهواري إلى أن بعض الفلاحين الذين نالوا نصيباً من العلم قرأوا على أهاليهم نتفاً من تاريخ الأنبياء والعهدين القديم والجديد ونهج البلاغة وروايات جرجي زيدان.. وكانت السهرات تضج بأشعار امرئ القيس والسموأل والمتنبي وأبي نواس.
أما أهم قصيدة شعبية حفظها جيل كامل في المنصورة فهي عن “ثور أبي ملحم”.
وقد تبيّن لزهير هواري، الذي حاول أن يؤرخ لبلدته، أن المنصورة كانت قائمة خلال الحكم المملوكي لبلاد الشام، وأن الأهالي يعيدون أصولهم مسلمين ومسيحيين إلى الداخل السوري، وبعض العائلات تحتفظ بقرابات مع أصولها البعيدة.. وقد خضعت المنصورة، مثل العديد من القرى، في البقاع الغربي إلى سلطة الإقطاع الدرزي.. وقد “وهبها” الشيخ بشير جنبلاط إلى آل تلحوق كما وهب قرى جب جنين وغزة وتل ذنوب وتل الأخضر إلى آل عطاالله وعبد الملك والعيد.
ولأن الدكتور هواري ابن تجربة حزبية فهو يستذكر الأحزاب التي عرفتها بلدته، ففي الخمسينيات انضوى شبان صغار منها في الحزب القومي أو في الكتائب والنجادة، أو في التقدمي الاشتراكي أو في حركة القوميين العرب، وصولاً إلى منظمة العمل الشيوعي، مع نفر من الوطنيين الأحرار والبعث… أما منظمات المقاومة الفلسطينية فقد استقطبت كثيرين.
أما المصادر والمراجع التي اعتمد عليها زهير هواري في قصيدة عشقه للمنصورة فتشمل مقابلات مع عشرات الرواة من أبناء البلدة، والكتب التي تناولت أوضاع القرية اللبنانية، وبينها ما نشره أنيس فريحة، وكذلك مجلة الأدب الشعبي لميشال قهوجي.
لم يكتف زهير هواري بثبت المراجع التي التقاها فاستمع إليها أو قرأ عنها، بل أضاف ـ لإغناء بحثه ـ سير الأدباء والكتاب الذين ورد ذكرهم، فعرف بابن المقفع والجاحظ وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ورشيد أيوب وجرجي زيدان وخليل مطران وقيصر المعلوف وبطرس البستاني والزير سالم.
كذلك فإنه قد استذكر أول من جاء بتلفزيون إلى بيته وهو نزيه جبور، وقد وضع الجهاز السحري، آنذاك، في دكانه، وفرض رسم دخول (25 قرشاً) للمشاهدة، فهرع الأهالي لحضور سهرات سميرة توفيق وصباح وفيروز وحفلات الزجل والمصارعة الحرة. أما الفونوغراف فقد أحضره بشارة عبدالله بشارة عند رجوعه من أميركا، وكان مفاجأة مدهشة للناس. وقبل الراديو كان الحكواتي هو الإذاعة التي تستحضر الماضي، وكان أبرز الرواة ميشال نايف الشاويش وفؤاد فهد عكروش وتركي حمود وعبد الرحيم الهواري وعبد الله نجيب حنا وإبراهيم حنا وزكية الفقيه. أما من اشترى الأول فكان حنا سليم.
“حكايا هرج ومرج الأجداد” شهادة وفاء من زهير هواري لبلدته بأهلها، قبل أن يكون وثيقة علمية عن سيرتها، بعائلاتها وأصولها وعلاقتهم بأرضها ونمط حياتهم في سابق الأيام، والحكواتي والجمهور، وحزبي أبو شكري وشكسبير وعنزة داوود وأخواتها، والغيلان والجن والضباع والذئاب إلخ.
إنها شهادة وفاء للأهل بأرضهم وحكاياتهم، بأوقات فرحهم وأحزانهم، وتأريخ لكل ما يتصل بها، كإنشاء أول مدرسة، والخيل والليل والأعياد وطقوسها، وثنية وإسلامية ومسيحية، انتهاء بالقيمة والرجولة والعونة أو الحمل وألعاب الورق وألعاب الأولاد والأحزان المشتركة.
ابن المنصورة رد لها جميلها بوثيقة ستبقى مرجعاً دقيقاً وشاملاً، حتى ليمكن القول إنه قد “خلّدها”… وليس هذا بغريب على صديق مثل زهير هواري شيمته الوفاء.
III ـ من أقوال نسمة
قال لي “نسمة” الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ سمعت حبيبين يتشاجران،
قالت: أحفظك وأستذكرك في الغياب وتنساني في حضوري.
ورد قائلاً: ليتني أقدر، فأنت تسكنين دمي ونور عيني.. ولا مفر منك إلا إليك!
وسمعهما عابر سبيل فانطوى على نفسه تاركاً لحسده أن ينطلق في تنهيدة طويلة!