عن صحافة لبنان في عيدها.. والقلق على وجودها
في مثل هذا اليوم من العام 1974 كانت جريدة « السفير» تحبو نحو شهرها الثاني، وسط فرح عارم بنجاح المغامرة الفردية التي وجدت حمايتها في الحيوية السياسية التي كانت تعيشها المنطقة.
كنا بدأنا الاستعداد لإصدار «السفير» مع مطلع صيف 1973. وكان الصراع العربي – الإسرائيلي يقترب من ذروة حرب تشرين – رمضان، والمقاومة الفلسطينية التي فرض عليها أن تتمركز في لبنان تتطلع إلى دور فيها، خصوصاً وأنها كانت تحظى بدعم الشارع الوطني بوصفها حركة تحرير جاءت إلى لبنان كجسر عبور إلى فلسطين.
وكانت بيروت النادي السياسي العربي بامتياز، فهي عاصمة الكلمة والرأي، صحيفة العرب ومطبعتهم ومنتداهم الفكري وأرض سجالهم الثقافي… فضلاً عن كون لبنان مقصدهم للسياحة والتمتع بجمال الطبيعة وحرية التفكير والقول والعمل.
على أن الأخطر أن بيروت كانت الشارع العربي بأحزابه السياسية، يساراً ويميناً ووسطاً، تمور بالتظاهرات والتجمعات والمنتديات والنقاش الخصب حول مستقبل الأمة التي تخوض صراعاً مصيرياً مع عدوها الإسرائيلي بكل قوى الدعم العالمي الذي يحظى به.
وبرغم انتكاسة العبور العظيم بتجميد حركة الجيش المصري تمهيداً للصلح المنفرد، فقد صارت بيروت بالأمر الواقع كما بحيوية الموقع السياسي والفكري والإعلامي، عاصمة للمقاومة فلسطينياً ومركزاً لطموحات التغيير محلياً، مفيدة من حيوية الشارع الوطني الذي كان يضج بالتظاهرات المطلبية التي تنظمها أحزاب علمانية وحركات نقابية لها صدقيتها وجماهيرها.
ولقد نجحت «السفير» في التعبير عن تلك اللحظة السياسية واجتهدت لأن تكون صوت الذين لا صوت لهم وجريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان… وما زالت تسعى لأن تكون ما صدرت من أجله، برغم اختلاف الظروف واختلال المعايير وفراغ الشارع إلا من الطوائفيين والمذهبيين وتجار المناسبات التي تستثير الحنين الى الماضي بسبب الخوف من المستقبل.
[ [ [
ما أبعد الشقة بين الأمس واليوم، ما أبعد الأمل عن الحلم، وما أبعد الواقع عن المرتجى في السياسة كما في الصحافة،
… وأولى الإشكاليات أن الصحافة في لبنان تعيش اليوم قلقاً على وجودها ومصيرها يتجاوز القلق على حريتها.
وأعترف بأنني ترددت طويلاً وأنا أكتب هذه الكلمة بين أن أكتفي بتحية مجاملة للمؤسسات الدولية الداعية الى هذا المؤتمر الإقليمي حول التحديات الأساسية والمسؤولية المهنية – إشكاليات حرية الصحافة، وبين أن أطرح الهواجس التي نعيشها، نحن الصحافيين، حول التحديات الجدية التي تهدد الصحافة في لبنان خصوصاً، وفي الوطن العربي عموماً، في وجودها ذاته فضلاً عن دورها كمنارة للديموقراطية ومنبر لرفع الصوت دفاعاً عن حقوق الإنسان في وطنه خاصة ثم في كل ارض.
سبب التردد أن الكلام عن حرية الصحافة وعن دورها، ومدى النجاح والتقصير في أدائه، والصعوبات التي تعيشها، قد تزايد تدفقاً حتى فقد دلالاته، خصوصاً وأن الجمهور الذي يتلقاه يحاسب على الظاهر، فيلوم وينتقد وقد يشهر ببعض أهل الصحافة ومطبوعاتها، ثم ينصرف الى همومه الخاصة او الى التمويه عن النفس بالمسلسلات التركية أو ببرامج «التوك شو» التي أنعشت – ذات يوم – جمهور المصارعة وجعلته يقارب جمهور كرة القدم… فكرياً!
… وكيف يمكن الحديث عن حرية الصحافة وعن التحديات الأساسية والمسؤولية المهنية من خارج واقع الصحافة في لبنان وما يتهددها في وجودها.
والحقيقة أن لا أحد معني بأزمة الصحافة، المهددة اليوم بالاختناق وافتقاد الجدوى نتيجة عوامل كثيرة لا تتصل بطبيعة المهنة ولا بشرف الدور ولا بمدى الإتقان والدقة في صياغة مادتها وعناوين صفحاتها الأولى، بل هي تتجاوز هذا كله الى افتقاد العنصرين المكوّنين لوجودها واستمرارها وهما: القرّاء والإعلان… فضلاً عن الاشتراكات التي لم تكن في أي يوم مصدر دخل جدي أو مؤثر للصحف عموماً.
هل يفاجئكم الاعتراف بأن الصحافة خسرت وتخسر كل يوم بعضاً من جمهورها، وأن مجموع عدد القرّاء في لبنان اليوم كان الى ما قبل عقدين من الزمان حصيلة توزيع جريدة واحدة او جريدتين على الأكثر؟!
وهل يفاجئكم الإقرار بأن الصحافة خسرت وتخسر كل يوم بعضاَ من دخلها الشرعي والأساسي ممثلاً بالإعلان التجاري، وهو كان شرط تطورها فضلاً عن كونه ضمانة استمرارها في الصدور؟.
ان سوق القراءة في لبنان محدودة، إذا ما أخذنا عدد السكان بالاعتبار، فكيف إذا توزع القرّاء بحسب انتماءاتهم الطائفية والمذهبية التي صارت قاعدة ولائهم السياسي، ومن ثم قاعدة خياراتهم… حتى لتكاد تعرف طائفة القارئ من خلال الصحيفة التي تضبطه متلبساً بجرم قراءتها.
لقد التهمت الطوائف الأحزاب السياسية والنقابات والمؤسسات الثقافية وصار «الاسم « بمثابة الكود والرمز الدال على الطائفة أو المذهب وليس على الاتجاه السياسي، فضلاً عن الالتزام العقائدي. صارت الصحافة دليل إثبات على طائفة قارئها أكثر منها دليل التوجه السياسي، أو الفكري لهذا القارئ… وقلة هم القرّاء الذين يختارون صحيفتهم بسبب من موقفها السياسي، اللهم إلا أولئك الذين يشترونها بمنطق «اعرف عدوك». على ان هناك فئة أخرى ما تزال، ولله الحمد، موجودة، يعبر عنها ذاك الذي يقول لك إذا ما وجدت أمامه مجموعة من الصحف: أريد أن أعرف، ثم أقرر وصحيفة واحدة لا تكفي، لذلك أشتري صحفاً عدة فأقرأ افتتاحياتها ثم طريقة تناولها للمسائل المطروحة، وهكذا تجتمع لي وجهات نظر متعددة ومختلفة تساعدني على اختيار الموقف الذي أراه منسجماً مع تفكيري.
[ [ [
لا أعرف كم هو عدد الذين يقرأون الصحف اللبنانية، من بينكم. وبالتالي فلا أستطيع أن أقدر من يعتمد على الصحف اللبنانية في تكوين قناعاته، وبالتالي موقفه، او أنه يذهب مباشرة الى الصحيفة التي يراها الأقرب الى تفكيره أو إلى التعبير عن رأيه.
ولكنني أعترف، وأنا ابن هذه المهنة، والذي يتشرف بالانتماء إليها، بأنني أقرأ بضع صحف صباح كل يوم، ليس فقط من أجل التثبت من أننا في «السفير» قد أصبنا أو أخطأنا، قاربنا الحقيقة أو سقطنا في فخ بروباغندا الأنظمة او دسائس المخابرات القادرة على اختراق وسائل الاعلام، وكالات أنباء دولية وفضائيات ونشرات الأخبار العاجلة على وسائط الانترنت المتزايدة والمتنافسة على مساحات المستخدمين… بل اساساً من اجل التعرف على المزيد من أساليب الدس والتحريف واجتزاء الحقيقة في الأخبار المعممة على وسائل الإعلام، مكتوباً ومذاعاً ومرئياً.
فلقد صار الخبر بمصدره، وليس بالضرورة خدمة بالمعلومات المدققة والأكيدة، لذا صار للخبر الواحد نصوص مختلفة، لا سيما عند استخدام الخلفيات وصولاً الى استنتاج الدلالات.
ثم إننا، في لبنان تحديداً، نعيش مع الصحافة وفيها مفارقة خطيرة:
ففي حين يتصاغر العالم، نتيجة لثورة الاتصالات المتوالدة من ذاتها فاتحة الأفق لتدفق هائل من المعلومات، فإن لبنان يتعاظم تعدداً بحيث تصبح مصادر الأخبار فيه أكثر من أن تحصى وهي تعمل لتعميم المناسب من الوقائع والإحصائيات والأرقام عن مختلف جوانب الحياة بما يخدم مصالح جهات محددة.
كم لبناناً في هذا الوطن الصغير، في تقديركم، أيها الأصدقاء؟!
خمسة لبنانات، عشرة لبنانات، عشرون لبناناً؟
إن الصحافة، كرسالة، وحتى كمهنة ذات دور مشرف، تكاد تختنق في مستنقع الطوائف والمذاهب والمصالح وبالتالي السياسات المعبرة عنها.
لا يمكن للنظام الطوائفي أن ينجب الديموقراطية.
إن النظام يتعامل معك بوصفك رعية لطائفة لها مرجعيتها الشرعية المطلقة… فإن خرجت عليها فأنت منبوذ!
ولقد انهارت أعمدة الانقسام السياسي الذي كان يتجلى في المعارك من أجل تطوير النظام أو تعديله… صار طائفياً بالمطلق، وتم تكريسه في الدستور والقانون والعرف. تشقّق الوطن الصغير وضربت وحدة الشعب ليعود إلى صورته البدائية: أديان وطوائف ومذاهب…
اختفى المواطن. صار الجميع رعايا طوائفهم ومرجعياتها. صار لكل طائفة أحزابها ومؤسساتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتي أقيمت في الغالب الأعم على حساب الدولة، وتم الاعتراف بها كمرجعيات لرعايا الطائفة الذين لم يعودوا مواطنين ولم يعد يعنيهم من الدولة إلا حصتهم منها وفيها.
صار لكل طائفة حزبها (أو أحزابها) السياسي. وصارت لها حكومة ظلها، وجهازها الأمني وجهازها الإعلامي.
استولد النظام بضع دويلات طائفية تعتاش على ما كان الدولة في التمني أو في التوهم.
صارت «دويلات» الطوائف مرجعيات رعاياها. إن شئت الوزارة أو الإدارة أو حتى وظيفة حاجب في مصرف أو في شركة خاصة عليك أن تتوجه إلى مرجعيتك الطائفية.
ولأن كل طائفة بدأت تعامل نفسها كدولة بديلة من الدولة فقد صار لكل طائفة، إعلامها الخاص(تلفزيون وإذاعة وصحف ومواقع انترنت) وصار لها وزير إعلامها وإدارة التوجيه المستقلة.
[ [ [
لقد بلغ الانشقاق الوطني مداه, وهذا الواقع مدمر للصحافة بما هي مؤسسة جامعة تتلاقى على صفحاتها الآراء المختلفة تعبيراً عن حوار مفتوح بين التيارات الفكرية والمواقف السياسية للمواطنين.
كيف إذا ما اختفى المواطن، وشحبت صورة الدولة لتتأكد هيمنة دويلات الطوائف، تستطيع أن تصدر صحيفة تعبر عن آراء مجموع المواطنين الذين يتحولون ـ بالإكراه ـ إلى رعايا؟
إن الهوية السياسية للصحيفة في تناقص مستمر. اندثرت الأحزاب والمؤسسات السياسية التي تقوم على قاعدة من المبادئ والأفكار، واكتسحت الغرائز الفضاء السياسي… وصار ينظر إلى الصحيفة وتحاسب على أساس الانتماء الطائفي او المذهبي لأصحابها وإدارتها والكتّاب فيها حتى لو كانوا من طوائف أخرى.
هل من المصادفة أن الإذاعة (الوطنية) الرسمية لم تعد تسمع، ولم تعد الدولة معنية بإعادتها إلى ما كانت عليه من قوة في زمان ما قبل الحرب الأهلية، وأن تلفزيون الدولة لم يعد موجوداً إلا كطلل من الماضي بعمارته المهملة، بعدما نهبت الثروة العظيمة من التسجيلات والبرامج الممتازة من المؤسستين اللتين موّنتا – بالإكراه أو بالرشوة – العديد من أجهزة إعلام الطوائف… والسيد وزير الإعلام حاضر معنا، ويعرف أكثر منا واقع وزارته بالإذاعة والتلفزيون فيها وقد كانا ملتقى المفكرين والشعراء والكتاب والمنتجين وأصحاب الأفكار الجديدة يطلقونها من حيث تلقى الاحتضان والتشجيع توكيداً لدور لبنان في الحياة الثقافية العربية… هذا فضلاً عن أساطين الموسيقى والطرب والبرامج الفكاهية والمسلسلات التاريخية، التي نستوردها، اليوم، كحبوب تنويم!
[ [ [
لقد تشطرت البلاد وانشطر الرأي العام أشتاتا بعدد الطوائف والمذاهب،
صار وجود الدولة رمزيا واختفى المواطن.
في ظل هذا الوضع يصبح حتمياً أن يتراجع توزيع الصحف، خصوصاً وقد رافق النقص في أعداد القراء تراجعاً مؤثراً في مجموع الميزانيات الإعلانية التي توزع على الوسائل الإعلامية في لبنان.
هل من المفيد الإشارة إلى أن كثيراً من شركات الإعلانات قد أصدرت أو شجعت إصدار مطبوعات غير سياسية قانونا، ولكنها سياسية عملياً، لتنشر فيها إعلاناتها بأسعار رخيصة بدلاً من نشرها بأسعارها الطبيعية في الصحف والمجلات المعروفة والتي تملك جمهوراً من القراء؟
ما جئت لأنعي الصحافة… ولكنني لم أستطع القفز من فوق واقع هذه الصحافة، السياسي والمادي، وفي مجال سوق القراءة أو سوق الإعلان، لكي أتحدث عن حريتها.
فالإعلان يؤثر على هذه الحرية، والانتشار في سوق طبيعية يعبر عن هذه الحرية، والاشتراك يؤكد التزام القارئ بصحيفته كمساهمة في زيادة معلوماته والتعبير عن موقفه السياسي، أو كوسيلة من وسائل المعرفة التي تساعد في الحكم على المواقف السياسية المختلفة.
أما الحديث عن حرية الصحافة بالمطلق فهرب من الواقع.
ليست الصحافة جزيرة في المحيط. إنها تصدر في بيئة معتلة، ضربها السرطان الطائفي والمذهبي حتى مزّق شعبها وفتّت رأيها العام فصارت كل طائفة أمة تامة لها دولتها وحكومتها بإعلامها ومصادر تمويلها ومراكز التوجيه والترشيد والتسليح الخ.
ومن أسف أن هذا الواقع يكاد يكون حال الأمة في هذه المرحلة الانتقالية التي تكاد الصعوبة تلتهم الفرحة بتفجر الانتفاضات فيها.
من هنا قلت وأعيد التأكيد أن صحافة لبنان في خطر، وليس التباهي بهذه الفوضى في التراخيص وهذا الرقم الأسطوري لعدد المطبوعات في لبنان (أكثر من ألف وخمسمئة) دليل عافية… خصوصاً أن المطبوعات جميعاً الفنية والثقافية والمهنية والاقتصادية والعلمية تشغلها السياسة من أول حرف حتى الحرف الأخير…
والسياسة طوائف ومذاهب، ولكل طائفة دولتها وإعلامها الأغنى من صحف لبنان مجتمعة.
إننا، كصحافيين نتشرف بأقلامنا التي نفترض أنها تعبر عن مواقف شعبنا، سنظل نقاوم حتى الكلمة الأخيرة.
وبالتأكيد فإنه من المستحيل أن تتكرر تجربة مثل إصدار «السفير» بمثل رأس المال الذي كنا قد استدناه يومذاك…
من هنا فقد بحثنا حتى وجدنا من يشاركنا شرف المغامرة بالخسارة.
ولسوف نستمر حتى آخر نفس، لأننا نؤمن أن الكلمة رسالة.
(كلمة في الاحتفال بيوم الصحافة العالمي الذي نظمته اللجنة الوطنية لليونسكو)
تهويمـات/ محـو الأميـة .. حبـاً!
قالت: ما أشد قسوتك! تتركني أثرثر طيلة الوقت ولا تقول شيئاً.
قال: أحب أن أسمعك!
قالت: هذه مخادعة. إنما أثرثر حتى لا نغرق في الصمت فأضطر إلى الرحيل كأي ضيف ثقيل…
قاطعــها ضاحكــاً: أنــت أول امــرأة تخــطئ فــي قــراءة صـمت الرجـل.
هتفت: علمني القراءة إذاً…
وستمر شهور قبل أن يجد في المكتبات رواية عنوانها «ألف باء الحب».. وعندما وصلته نسخة منها انتبه إلى الإهداء «أكمل جميلك… لقد علمتني الكتابة، بقي أن تزيد تعليمي لأعرف كيف أقرأك».
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ يظل حبيبي معي حتى وهو مســافر. أسبقه إلى الاتصال فإذا هو يطلبني. أداعبه بروايــة حلم فيكـــمله وكأن طيفي قد سبقني إليه فأخبره.
الحب لا يعترف بالجغرافيا لأنه مشغول بصناعة نهاراتنا والليالي بأنفاسنا والتنهدات.