قبل مائة سنة وأكثر قليلا (سنة 1917) أصدر وزير خارجية بريطانيا العظمى اللورد آرثر بلفور وعده الشهير بإقامة كيان سياسي للحركة الصهيونية في فلسطين وعلى حساب اهلها العرب، مسلمين ومسيحيين وأقلية يهودية. وكانت الحركة الصهيونية حديثة الولادة. واول من اعلن عن قيامها تيودور هرتزل.. وان هذا الكيان سوف يقام في فلسطين ليكون دولة يهود العالم.
كان العرب يعيشون، بعد، في خدر احلام الثورة العربية الكبرى التي خططت لها بريطانيا ايضا، وكلف امير مكة الشريف حسين بإعلان ندائها الوحدوي في العام 1915، في مواجهة الاحتلال العثماني الذي كان على حافة السقوط بعد هزيمة تركيا المتحالفة مع المانيا في الحرب العالمية الأولى.
وهكذا أمكن للشريكين في تلك الحرب (بريطانيا وفرنسا) أن يتقاسما منطقة المشرق العربي: لبنان وسوريا وفلسطين والعراق.. فكان لبنان وسوريا من “نصيب” فرنسا، وفلسطين والعراق من “نصيب” بريطانيا التي “اخترعت” كيانا اضافيا (الاردن) اقتطعت ارضه من سوريا ونصبت عليه الامير عبدالله نجل الشريف حسين، في حين اعترضت فرنسا على الامير فيصل الاول الذي نصب ملكا على سوريا.. وهكذا جيش الاحتلال الفرنسي تقدم من لبنان نحو دمشق، وكانت معركة ميسلون في 24 تموز 1920 التي لا تكافؤ فيها بين جيش منتصر في الحرب العالمية الاولى وبين مجموعات من المتطوعين ـ بقيادة “وزير الحربية” في دمشق البطل يوسف العظمه ممن كان ضباطهم في الجيش التركي وانضم اليها بعض الشباب المؤمن بحق سوريا في الاستقلال.
…وكانت هزيمة لإبطال ميسلون، بقيادة يوسف العظمة، نتيجة عدم التكافؤ في القوات والاسلحة، وهكذا دخلت القوات الفرنسية دمشق، وتقدم قائد الحملة الجنرال هنري غورو من ضريح صلاح الدين الايوبي، بطل تحرير القدس من الصليبيين، ليخاطبه بلهجة ساخرة: ها قد عدنا يا صلاح الدين!
بعد ذلك، حمل البريطانيون الامير فيصل الذي هرب من دمشق في اتجاه الاردن، إلى العراق فنصبوه ملكا عليها، مفيدين من نسبه الهاشمي، وغير عابئين باعتراض اغلبية العراقيين بعنوان الشيعة على هذا الملك الذي أُسقط عليهم بدبابات الاحتلال.. وكانت ثورة العشرين في العراق، لكن الانكليز تواطأوا عليها وخادعوا الشيعة بالنسب الهاشمي للملك المعين فيصل ابن الشريف حسين.
ستثور سوريا ضد الانتداب الفرنسي في العام (1925) الذي ابتدع فيها اربع دول، ليقسم شعبها، وسيقصف الطيران الفرنسي دمشق مستهدفا قلبها ومجلس النواب فيه..
ولسوف تستمر الانتفاضات في سوريا ضد الانتداب وهكذا فرض الشعب السوري أن تبقى سوريا موحدة، وأن اللغة العربية الاساس في التعليم العام، حتى في الكليات العلمية كالطب والصيدلة فضلاً عن كليات الحقوق والآداب وعلم الاجتماع.
الانقلاب الأول..
في آذار عام 1948، دبرت شركة نفط العراق البريطانية اول انقلاب عسكري في سوريا بقيادة ضابط مهووس بالسلطة هو حسني الزعيم الذي أعطى نفسه رتبة الماريشال وهو من سلم زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي انطون سعاده إلى السلطات اللبنانية التي تسلمته ليلاً و”حاكمته” حتى الفجر فحكمت بإعدامه وتم التنفيذ، قبل شروق الشمس!
ولسوف تتوالى الانقلابات العسكرية في سوريا حتى العام 1958 حين قصد وفد من كبار الضباط إلى الرئيس جمال عبد الناصر في القاهرة يطالبون بإقامة الوحدة بين مصر وسوريا… وبعد مفاوضات طويلة شارك فيها الزعماء السوريون رافعين المطلب نفسه فوافق عبد الناصر، وأعلن قيام الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا كفاتحة لتحقيق حلم الوحدة العربية.
كانت الامنيات عظيمة حينها.. وافترض المواطن العربي أن دولة الوحدة التي “تحمي ولا تهدد، تصون ولا تبدد” سوف تنجح في تحقيق الحلم الاكبر: تحرير فلسطين. غير أن هذه الدولة ـ الحلم لم تعمر طويلاً اذ انهارت بفعل انقلاب عسكري في دمشق قاده ضباط صغار.. واضطر جمال عبد الناصر إلى التسليم مكرهاً، بالواقع الجديد، كما سلم مرغما وبضغط ضباط آخرين والزعامات السياسية والاحزاب بإقامة دولة الوحدة.
وكانت دولة الكيان الاسرائيلي اسعد اهل الارض بسقوط دولة الوحدة، والانقلابات العسكرية التي توالت على سوريا حتى انهكتها… إلى أن تسلم قيادتها الرئيس حافظ الاسد في تشرين الثاني 1970، وبعد وفاة جمال عبد الناصر بشهرين تقريباً..
ها هو الكيان الصهيوني، اسرائيل، يحتفل بالذكرى الحادية والسبعين لإقامته بالقوة والتآمر الدولي والخيانة او التخاذل العربي فوق ارض فلسطين (مع تمدد في اتجاه تلال الجولان السورية ومزارع شبعا اللبنانية)..
..وها هي الولايات المتحدة الاميركية بقيادة دونالد ترامب تعلن “صفقة القرن” التي تعني في جملة ما تعنيه فرض المزيد من التفكك على الوطن العربي تثبيتاً للكيان الاسرائيلي في فلسطين جميعاً، مع ضم الجولان (وربما مزارع شبعا) في ظل غياب سوريا وانشغالها بالحرب فيها وعليها، والحرب الاميركية على “حزب الله” في لبنان الذي ألحق الهزيمة مرتين بالجيش الاسرائيلي الذي لا يُهزم: المرة الأولى حين أجبره على الخروج من الارض التي احتلها فيه (وقد وصل ذات مرة، في صيف العام 1982 إلى بيروت)، والمرة الثانية حين الحق الهزيمة بهذا الجيش الاسطوري براً وبحراً وجوا في حرب تموز 2006.
ويمكن لقادة اسرائيل أن يتباهوا الآن انهم قد هزموا العرب فأجبروهم على الصلح، اعترافاً بالأمر الواقع، خصوصا وأن دولاً عربية عدة قد اعترفت بكيان الاحتلال وأقامت معه علاقات علنية او سرية (لا فرق)، وانطلق رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو يتباهى بان دولاً عربية أخرى قد دعته لزيارتها وسيلبي دعواتها قريباً!
كما يمكن للرئيس الاميركي الذي تطفح تصرفاته بالغرور والخفة أن يتحدث مع رئيس الحكومة الاسرائيلية (المنتصر الآن في انتخابات الكنيست ولو بأقلية ضئيلة) عن “صفقة القرن”، بوصفه شريكاً له فيها.. وهو قد افاد من هذه الصفة ليعلن، مرة جديدة أن الجولان هي بعض “ارض اسرائيل”، وأنها لن تتركها ابداً.
ما الذي تغير خلال هذا القرن (1917 ـ 2019) في الوطن العربي وفي العالم؟
صحيح أن الاستعمار القديم قد سقط مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وبروز القطبين: الاميركي الامبريالي (والذي ورث بريطانيا وفرنسا ومعهما اسبانيا والبرتغال وسائر دول الاستعمار القديم) والروسي ـ الشيوعي الذي كان يضم إلى روسيا السوفياتية دول المعسكر الاشتراكي، وهي ما خلف “الستار الحديدي” في اوروبا، أي معظم دول شرقي اوروبا، وبعض ما خضع في أطراف آسيا لحكم موسكو الشيوعي، أي الروسي..
لكن الصحيح ايضاً أن الاتحاد السوفياتي قد تهاوى ومعه الشيوعية في اواخر القرن الماضي، وانفصلت عنه المانيا الشرقية للتوحد مع المانيا الغربية تحت الرعاية الاميركية، كما استعادت دول المعسكر الاشتراكي هويتها الغربية الاصلية فانفصلت تشيكيا عن سلوفانيا، وتفككت يوغسلافيا إلى دول عدة، وعادت المجر غربية، وانشقت رومانيا معها، وكذلك انشقت اوكرانيا، وان كانت روسيا قد احتفظت بشبه جزيرة القرم التي كانت (وما تزال) مصيف القادة الروس… (من دون أن ننسى أن هذه البلاد هي مسقط رأس ستالين الذي حكم الاتحاد السوفياتي نحو ثلاثين سنة من دون انقطاع..).
بالمقابل، مدت الولايات المتحدة المنتصرة بالشراكة مع الاتحاد السوفياتي في الحرب العالمية الثانية، نفوذها في اتجاه اوروبا، خصوصاً وأن انخراطها فيها قد حسم الحرب فهزم هتلر المانيا وموسوليني ايطاليا، وحرر فرنسا بعاصمتها باريس التي زارها هتلر المنتصر فتمشى في الشانزليزيه، بينما تمكنت الجيوش السوفياتية من تحرير موسكو وستالينغراد وسائر انحاء روسيا واروبا الشرقية حتى برلين التي وصل اليها الجيشان، الاميركي والروسي معاً، فتقاسماها وجعلا برلين مدينتين: شرقية وغربية بينهما بوابة هي الحدود بين العالمين: الرأسمالي والشيوعي..
ذلك من التاريخ.. فماذا تعني “صفقة القرن”، التي يروج لها الآن؟
الوهلة الأولى يتبدى وكأنها تعني الهيمنة الاميركية المطلقة على العالم، باستثناء الصين طبعاً، والاتحاد الروسي، وبالشراكة مع اسرائيل في منطقتنا العربية، التي تكون معظم دولها “محميات” او “مستعمرات” اميركية، لا سيما دول النفط والغاز.
وأبرز دليل حسي أن هذا التعبير قد ورد اول مرة، على لسان الرئيس الاميركي دونالد ترامب وهو يوقع لنتياهو، وبحضوره، على حق اسرائيل في هضبة الجولان السورية، (وربما معها تلال كفرشوبا وشبعا في جبل الشيخ، جنوب لبنان)..
من يرد على هذا التحدي الجديد الذي يكرس الهيمنة الاميركية ـ الاسرائيلية على المنطقة العربية بداية، ثم على معظم انحاء العالم، باستثناء الصين وجوارها وروسيا وجوارها المباشر؟!
العرب خارج الصورة مع أن بلادهم بعض تفاصيلها.. فمعظم دولهم اما غنية اكثر مما يجب وتحتاج الحماية الاميركية، خصوصا الخزانة المذهبة في الامبراطورية الاميركية.
.. اما اسرائيل باعتبارها الشريك حتى التكامل مع الولايات المتحدة الاميركية والتي تقدم نفسها كأنها الشريك المضارب مع روسيا بوتين، فهي المستفيد الثاني من هذه الصفقة التي تلغي الدول ومعها الشعوب في العالم الثالث.
في الختام، نحن نعيش في مناخ جديد استولدته الانتفاضة الشعبية المجيدة ضد حكم بوتفليقة في الجزائر، الذي اضطر في النهاية لأن ينصاع للإرادة الشعبية فيعلن قراره بالتنحي..
كذلك فإننا نعيش في هذا المناخ الذي امتد الى السودان مبشراً بسقوط طغيان البشير الذي يمدد لنفسه كلما شاء..
… وطالما أن إرادة التغيير موجودة، والجماهير تملأ الشوارع بغضبها وإرادة التغيير، فان صفقة القرن، كما يريدها الرئيس الاميركي دونالد ترامب ومعه شريكه الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، لا يمكن أن تمر.. فالأمة ولادَّة، وهي قادرة ومؤهلة لان تصنع غدها الافضل..
وارادة الناس من ارادة الله.
تنشر بالتزامن مع جريدتي “الشروق” المصرية و”القدس” الفلسطينية