يتبدى المشهد العربي بائساً على امتداد هذه الأرض العربية الغنية، يغلفه الإخفاق الشامل على المستويات جميعاً: السياسية والاقتصادية والثقافية ومن ثم الأمنية بطبيعة الحال.
تنداح الأرض العربية بين اليمن والمغرب وفي قلب أفريقيا وعلى شواطئها، وترتفع الرايات مزركشة الألوان، وتفخم الألقاب وتجلل… ولا دول!
وحيثما كان هناك احتمال لقيام دولة قابلة للحياة، ضاعت الفرصة، إما بسبب تعثر الحكم وفشله في حماية وحدة شعبه، وإما لأن الحكم استغنى بنفسه عن شعبه، وخاض مغامرات تتجاوز قدراته فدمر وطنه، لكنه ـ مع ذلك ـ استمر متمسكاً بالسلطة حتى القضاء المبرم على الدولة.
ليس من دولة واحدة قابلة للحياة، فكيف بصنع المستقبل الأفضل، على امتداد هذه الأرض العربية الشاسعة (ملايين الكيلومترات المربعة).
وليس من بارقة أمل بتغيير يلبي احتياجات هذه الشعوب التي كانت تفترض أنها خاضت معارك ناجحة من أجل بناء «دولها»، برغم وعيها أن معظم هذه «الدول» قد استولدت قيصرياً، وخلافاً لطموحاتها وحقائق التاريخ والجغرافيا.
بل إن هذه الشعوب تجد نفسها مضطرة لحماية كيانات سياسية مغايرة لما كانت تطمح إليه، في تطلعها الى أشكال من الوحدة أو الاتحاد توفر لها المنعة.
كذلك فإن هذه الشعوب قد تقبلت وتتقبل، بشعور من المهانة، الإشراف الدولي على مختلف شؤونها السياسية، أساسا، والاقتصادية عموماً، والعسكرية والأمنية خاصة… وعلى سبيل المثال لا الحصر: فقد وقفت طوابير المواطنين في هذا القطر العربي أو ذاك، أمام كاميرات الصحافة العالمية وقدر رفعوا أصابعهم التي غمسوها بالحبر، تدليلاً على أنهم قد أنهوا بنجاح دراستهم الابتدائية في الديموقراطية، وأنهم «تخرّجوا» بتقدير خاص من اللجنة الفاحصة المتعددة الجنسيات، وإن كانت القيادة للأميركي دائماً، في دروس الانتخابات النيابية ذات اللوائح الطويلة للكيانات السياسية المتوالدة من ذاتها لحفظ التوازن بين أصحاب النفوذ الذين يتقاسمون أوطانهم (العراق مثالاً).
في لبنان، مثلاً، جاءتنا أسراب من الطيور المهاجرة المسماة «هيئات المجتمع المدني» التي تجد من يوفر لها مدداً محترماً من الدولارات، ورحلات حول العالم، وأندية تستضيفها لمحاضرات بالأجر… لكي «تشرف» على الانتخابات النيابية التي تصارع فيها زعماء الطوائف، فتقاسموا المقاعد ـ ديموقراطياً!! ـ وبما يلغي أي معنى للانتخابات… لكن هيئات المجتمع المدني قدمت مشاهداتها في مختلف أقلام الاقتراع لتشهد بأن الزعامات الطوائفية قد اقتسمت المقاعد «ديموقراطياً»، ولا يهم أن تكون هذه الديموقراطية قد عجلت في إلغاء «الدولة» بما هي المؤسسة الناظمة لشؤون المجتمع.
ملاحظة: عرف لبنان الصغير الانتخابات قبل قرن ونصف القرن تقريباً. وهو قد تعوّد «التزوير» فيها، مباشراً أو غير مباشر، حتى لم يعد يدقق: من المزوّر؟
أما في العراق الذي ذهب شعبه الى صناديق الاقتراع، لأول مرة، في الثلاثينيات من القرن الماضي، فقد تولت هيئات عديدة، بعضها متحدر من صلب الأمم المتحدة، وبعضها آت باسم الجامعة العربية لكي يبصم على النتائج المقررة، وبعضها الثالث أوفده الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن موفدي منظمات حقوق الإنسان ومكافحة العنف، والحمل بلا ألم، ولجان النضال من أجل إطلاق المساجين، وهيئات الدفاع عن حق الرأي الخ… كل هذه الهيئات شاركت في تعليم العراقيين كيف يغمسون أصابعهم بالحبر الذي لا يزول بالغسل إلا بعد ثلاثة أيام، وكيف يعثرون على أسماء مرشحيهم في «الكيانات السياسية» التي ضم كل «كيان» منها بضع مئات من الأعيان والوجهاء وزعماء العشائر والصعاليك ممن رفعتهم طوائفهم الى الصدارة.
أما في السودان حيث تكاد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية تشابه «حرباً كونية»، فإن «المراقبين» المشرفين على هذه العملية الديموقراطية قد جاؤوا من أربع رياح الأرض ليشهدوا تفجير السودان من داخله، وتقسيمه الى دويلات عدة بالتراضي، وعبر الأصوات، وعلى طريقة الجراحة من دون ألم!
فهناك الأميركيون والأوروبيون والأفارقة والعرب، منفردين ومجتمعين عبر بعثة الجامعة العربية، وهناك الصينيون ومختلف هيئات المجتمع المدني… وقد اختفى المدعي العام للمحكمة الدولية الذي طالما كافح ليقتاد الرئيس السوداني مخفوراً الى… المقصلة، ليخلي الطريق أمام المسيرة المظفرة للديموقراطية التي ستؤمن فوزاً مريحاً لبعض المرشحين وتقسيماً بلا ألم لهذا القطر العربي الذي كان مؤهلاً لأن يكون القلعة العربية المؤهلة لحماية حقوق الأشقاء الأفارقة بالاستقلال والتقدم والمنعة، بدعم من أشقائهم العرب.
هناك دول عربية أراحت أنظمتها نفسها وشعوبها من عبء الانتخابات وإشكالات الديموقراطية ولادة الخلافات والخصومات والحروب الأهلية!
فحيث الحكم لقائد الحزب الحاكم، تتحول الانتخابات الى استفتاءات لا مجال فيها للاجتهاد، إذ الجواب محصور بواحدة من كلمتين «موافق» أو «غير موافق».. وفيما تفتح الكلمة الأولى أبواب النعيم أمام هذا المواطن المؤمن بالديموقراطية والذي سعى الى قلم الاقتراع مع ساعات الصباح الأولى، فإن الكلمة الثانية قد تفتح أبواباً لأمكنة وأوضاع غير مريحة.
هل هي مصادفة أن أربعاً أو خمس «جمهوريات» عربية تمارس فيها الديموقراطية بالاستفتاء، أي الجواب بنعم أو لا، مع التذكير الدائم للمواطن بتلك الحكمة البليغة بنصحها: «ما قال لا قط إلا في تشهده»؟!
من قبل، أدت «العملية الديموقراطية» في فلسطين تحت الاحتلال الى كارثة وطنية تمثلت بانفصال غزة تحت «حكومتها» عن السلطة في رام الله… أو هكذا أراد المروجون للاحتلال تصوير الأمر، فبرّأوا الاحتلال الإسرائيلي من جريمة الفصل القسري بين أبناء الشعب الواحد، وبرّأوا الدول العربية التي «سحبت» اعترافها بالحكومة المنتخبة ديموقراطياً في غزة (وسائر المناطق المحتلة) وتركوا للعدو الإسرائيلي أن يؤدب العصاة الخارجين على الديموقراطية والسلطة بكل ما تحظى به من تأييد عربي ودولي، وهكذا شن عليهم حرباً بالسلاح والتجويع والحصار المشدد الذي شهد بدعة جديدة تتمثل في «السور الفولاذي» الذي يقفل باب «البحر المصري» في وجه أبناء القطاع الذين كانوا وما زالوا يعتبرون أنفسهم «مصريين» بقدر ما هم فلسطينيون.
أما في سائر أنحاء فلسطين فإن الاحتلال الإسرائيلي يمارس «ديموقراطيته» بالقوة المسلحة، وبالاستيطان، ومصادرة أملاك الفلسطينيين، لا سيما في القدس الشريف، ويحاصر المسجد الأقصى بمعبدين يهوديين يزعم أنهما كان قائمين هناك قبل ثلاثة آلاف سنة… في حين يعلن بنيامين نتنياهو أن البناء في القدس هو تماماً كالبناء في تل أبيب، أي إنه ليس استيطاناً، بل إعادة تشييد للعاصمة الأبدية للكيان الإسرائيلي.
ومما يستوقف في «العملية الديموقراطية» في كيان الاحتلال الإسرائيلي أن المستوطنين الذين يتوافدون على مدار الساعة، سرعان ما تستوعبهم العملية الديموقراطية وإن هم أسبغوا عليها المزيد من التطرف العنصري… مع ذلك تستمر إسرائيل، في نظر العالم «واحة للديموقراطية في الشرق الأوسط»، تحاصرها مجموعة من الأنظمة الفاشية الى حد العنصرية وتشن عليها «حرب كراهية مفتوحة»… أي إن المستقدم من روسيا أو بعض دول أوروبا الشرقية، والذي يمنح بعض الأرض الفلسطينية التي يقف أصحابها عاجزين عن حمايتها، يصير نموذجاً للديموقراطية وحقوق الإنسان، في حين يصبح احتجاج الفلسطينيين المستضعفين موقفاً عنصرياً ولا سامياً.
[[[[[[
على أن أهل النظام العربي هم الذين يوفرون التزكية للديموقراطية الإسرائيلية من خلال المقارنة بين سلوكهم إزاء شعوبهم، وهو قمعي بامتياز، يعتبر الانتخابات بدعة وكل بدعة ضلالة، فيستبدلها بالاستفتاء المقررة نتائجه سلفاً، بحيث تستطيع إسرائيل، ويستطيع الغرب جميعاً، الأميركي والأوروبي، أن يشهد لها بأنها «الديموقراطية» الوحيدة في المنطقة.
وكيف يمكن أن يلام شعب العراق، مثلاً، على حماسته للانتخابات التي يعرف أنها تجري تحت إشراف الاحتلال الأميركي وبأمر منه، وهو لم يعرف هذه النعمة طيلة عهد «الطغيان الوطني»، حيث كان الاستفتاء يلخص الممارسة «الديموقراطية»، وبين أشهر الطرائف تلك التي تقول إن صدام حسين قد نجح بأكثرية 103 في المئة، لان بعض الصناديق احتسبت الأصوات فيها مرتين.
وكيف يمكن أن يلام شعب السودان، مثلاً، على إقباله غداً على صناديق الاقتراع، وهو قد حرم من هذا الحق لعشرين سنة طويلة، علماً بأن هذه الحقبة قد شهدت سلسلة من الحروب الأهلية والتمزقات والصراعات العرقية والإثنية والدينية التي كادت تذهب بوحدة هذا البلد العربي الكبير، فضلاً عن إمكاناته الهائلة المتروكة للريح.
هذا مع العلم أن المخاطر التي تتهدد وحدة السودان سوف تنعكس أزمات متوالية ستصيب مصر، أساساً، والعديد من الأقطار الأفريقية المجاورة للسودان… وبين أخطر ما يمكن أن ينتج من تمزق السودان دولاً أو دويلات على أساس عرقي أو طائفي، أن تتفجر مجدداً مسألة مياه النيل، وطريقة تقسيمها بين الدول المشاطئة لهذا النهر العظيم الذي يشكل شريان الحياة لمصر، أساسا، وللعديد من الدول الأفريقية.
[[[[[[
إن ضمور التجربة الديموقراطية، بالأمر، يجعل من الانتخابات منحة يقدمها الاحتلال أو النفوذ الأجنبي للشعب المعني.
إن الانتخابات النيابية في العراق توفر تزكية للاحتلال الأميركي، أكثر مما تشهد لشعب العراق بعظيم تعلقه بالديموقراطية.
وفي كل انتخابات شهدها لبنان، رئاسية أو نيابية أو حتى بلدية، فإن التزكية تذهب الى «المجتمع الدولي» الذي يجعلنا «ديموقراطيين بالأمر»، لا بالرغبة ولا بالطموح ولا بالحق الطبيعي للمواطن في أن يكون سيد مصيره.
إن أهل النظام العربي لا يكتفون بتسلطهم على شعوبهم ومنعهم من ممارسة أبسط حقوقهم. إنهم يرمون رعاياهم بدائهم وينسلون، ويقولون: ماذا نفعل لهم؟ لقد أعطيناهم الفرصة ولكنهم أثبتوا أنهم لا يستحقون هذه النعمة!
وهكذا فإن النظام العربي يقدم تزكيات دائمة ومؤثرة للهيمنة الأميركية وللاحتلال الإسرائيلي، فيظهر دائماً بصورة القمعي إلا إذا ردعته الإدارة الأميركية وأجبرته على ترك الشعب يقول كلمته.
… والشعب أرقى بكثير من أهل النظام العربي، ولكن كيف السبيل لأن يقول كلمته؟
ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية