اختار الرئيس الأميركي باراك أوباما أن يقدم النفط كسلعة استراتيجية على المكانة السياسية، وان يقدم الدين (الإسلام) على الهوية العربية والانتماء القومي، وهكذا عدل في برنامج زيارته للمنطقة لكي يبدأ بالسعودية بدلاً من مصر… وهذا ليس تعديلاً شكلياً أو بروتوكولياً (تقديم الملك على الرئيس؟!) بل له مضامينه التي لا يجوز إغفالها، من أجل قراءة صحيحة للزيارة ودلالاتها.
بمعنى آخر فقد اختار أن يوحي «للعرب» بأنه حليفهم في مواجهتهم المفترضة مع «العدو الإيراني» المستجد، بعدما أراحوا أنفسهم من المواجهة ـ ولو كاحتمال؟! ـ مع العدو القومي «السابق» إسرائيل وتركوا لها أن تقرر لهم مستقبلهم في أرضهم، بدءاً بفلسطين التي لم يتوقف تهجير شعبها برغم تعدد الحكومات وأكثرياتها وتوجهاتها «الايديولوجية» في إسرائيل، وهي تعلن انها ستواصل تهجير من بقي لتكمل «تطهير» الدولة اليهودية من «الرجس»… الفلسطيني وبالاستطراد العربي.
ليس في ذلك سوء تصرف أو سوء قراءة… فإذا كان العرب قد بدلوا في خريطة علاقاتهم، فاستبدلوا عدوهم الفعلي، محتل أرضهم وإرادتهم، بعدو افتراضي فلن يتدخل الرئيس الأميركي في «قرارهم الوطني المستقل»، بل هو سيقبل منهم ما يقررونه، فيعادي من يعادونه ويصالح أو يهادن من صالحوه فهادنوه حتى صار حليفا في معركتهم الجديدة ضد عدوهم المستحدث.
لقد عدل كثير من الدول العربية في خريطة العداوات والتحالفات: انتبهوا، ولو متأخرين، الى أن إيران هي عدوهم القومي التاريخي، مستذكرين «الفرس»، ثم انها تعتنق مذهباً غير مذاهبهم، و لا يهم أن يكونوا من أهل الدين الواحد… ثم انتبهوا، بالمصادفة، الى أن إسرائيل قوية جداً وأقوى منهم على أي حال، وتستطيع بالتالي أن تصد عنهم هذا الخطر (المحتمل) فتمنعه من الوصول الى المتوسط، بما يهددهم في وجودهم، فقرروا أن يشجعوها وأن يساندوها، مباشرة أو بالواسطة، وارتاحوا عائدين الى تفسير خاص لمقولة قديمة مفادها أن عدو عدوك صديقك، وأن المقادير ساقت الى خدمتهم «أقوى جيش في المنطقة»، وهكذا فلقد أعفاهم شر القتال، حتى وان تكفلوا بنفقات هذه الحرب التي سيخوضها الإسرائيلي من أجلهم ولحسابهم مشكوراً!
ومن حق باراك أوباما أن يشعر ـ لحظة قدومه الى المنطقة ـ أنه ربما يكون قد اشتط في تقريعه بنيامين نتنياهو بسبب موقفه الرافض التسليم بشعار الدولتين على أرض فلسطين، (وهو في أي حال، وحتى إشعار آخر، مجرد شعار) فظهر وكأنه أكثر تطرفاً من أصحاب الشأن، على افتراض أن للشأن صاحباً واحداً.
بالمقابل فإن من حق باراك أوباما أن يقبل الخيار الذي اعتمدته دول عربية كبرى ومهمة (بعضها بالتاريخ والقدرات البشرية مثل مصر، وبعضها الآخر بالنفط والأماكن المقدسة مثل السعودية) وخلاصته تقديم الدين على القومية… ومثل هذا الخيار يسحب ذاته على فلسطين، فإذا كانت فلسطين قضية إسلامية فإن السعودية هي الأولى بها وليست مصر.
أما إذا كانت فلسطين قضية قومية عربية فما شأن المسلمين بها، وهنا تتساوى في البعد مصر مع السعودية ومعهما السلطة الفلسطينية التي طورت «القرار الوطني المستقل» أو عدلت فيه بحيث أبعدت العرب تماماً عنه، مكتفية منه «بالسلطة» التي مرجعيتها إسرائيل ورعايتها للرباعية الدولية التي ابتدعت لها خريطة تقود الى… لا مكان، قبل أن تختم الإدارة الأميركية السابقة عهدها بمؤتمر أنابوليس التي استدعي اليه العرب بمذكرات جلب ليسمعوا من الرئيس الأميركي السابق وإدارته التعهد الاستثنائي باعتبار إسرائيل دولة اليهود!
وها ان بعض ثمار هذا التعهد تتبلور في ظل انتصار أقصى التطرف الإسرائيلي في الانتخابات الأخيرة، بتوجيه تهمة الخيانة لكل فلسطيني لم يتم تهجيره من «أراضي فلسطين 1948»، اذاً هو اعترض على يهودية الدولة في إسرائيل!
لنعد الى أساس الموضوع:
في البداية قال الرئيس الأميركي انه قد اختار مصر بوابة دخول الى العالم العربي، وانه من عاصمتها القاهرة، سيوجه رسالته الخاصة الى المسلمين (وليس الى العرب؟!)!
ويبدو أن أوباما عدل في برنامجه فقدم الرياض على القاهرة، بعد مداخلات وشفاعات، لكي يؤكد اهتمامه بهواجس المتخوفين من «الخطر الإيراني» فيطمئنهم مباشرة من الضفة الأخرى للخليج الذي يفصل بين هذا الخطر والعرب الخائفين في أرض الذهب الأسود.
وهكذا فهو يزور الرياض أولاً لكي تفهم إيران الرسالة، ثم يأتي الى القاهرة ليخاطب منها المسلمين، مؤكداً على اعتماد ما قرره «العرب» من أن فلسطين قضية إسلامية، والى أن إيران ليست بين المسلمين، وبالتالي فما دخلها بفلسطين التي تبطل أن تكون في هذه الحالة «قضية»… أقله في انتظار أن يحسم الصراع بين «العرب» و«المسلمين»!.. وفي هذه الأثناء تكون إسرائيل حليفاً حقيقاً للمسلمين (وضمنهم العرب) في مواجهة إيران!
النفط أولا وبعده الإسلام!
وبين النفط والإسلام يضيع العراق، الذي بدأت الإدارة الأميركية تلمح الى أن الانسحاب منه مستحيل في الموعد الذي سبق لها تحديده، أي نهاية العام 2011… فالخلافات الداخلية المستحكمة بين من صاروا قيادات في ظل الاحتلال الأميركي تضيف الى رصيد «الإرهاب الأصولي» الذي قد يتمكن من منع الانتخابات الموعودة نهاية السنة، وقد يخلخل الحكم القائم والانقسامات الطائفية والمذهبية والعرقية بما يجعل من الانسحاب الأميركي كارثة على العرب والمسلمين!
وعلى الهامش: فإن السعودية لا تعترف حتى اليوم بحكومة المالكي، ليس لأنها «صنيعة الاحتلال الأميركية» بل أساسا لأسباب مذهبية.
ثم ان الأحوال المضطربة في أفغانستان ومعها الآن باكستان تنذر بويلات خطيرة، اذ لم يعد تفسخ باكستان خارج دائرة الاحتمالات، وهذا يلزم الولايات المتحدة بالحفاظ على قوات احتلالها في العراق حتى لا ينهار الدومينو الإسلامي كله.
ثم ان مثل هذا الاحتمال يزيد من الحاجة الأميركية الى التعاون مع ايران، التي لها نفوذ غير منكور في هذا الدومينو.
وبالتالي فإن خطاب الرئيس الأميركي يجب أن يحمل رسائل التطمين للخائفين من دون أن يستفز القوى الاحتياطية التي قد يفترض أنها ستساعده على وقف التدهور في الدولة الإسلامية النووية الوحيدة (حتى هذه اللحظة) كما في الدولة الإسلامية الأخرى أفغانستان التي كلما افترض الاحتلال الأميركي انه قد نجح في إقامتها فعلاً جرى فيها من الأحداث ما ينفي افتراضه هذا!..
[[[
هل هي مصادفة أن تجري إسرائيل أوسع وأضخم مناورة عسكرية في تاريخها، بمشاركة جيشها وأسطولها الجوي وأسطولها البحري ومواطنيها جميعاً فيها، وان تمد هذه المناروات لمدة ثلاثة أيام طويلة، وعلى امتداد الأرض الفلسطينية المحتلة، مع تركيز على الشمال (لبنان) والشرق (سوريا في اتجاه إيران)؟!
هل ثمة رابط بين هذه المناورة، والزيارة المرتقبة للرئيس الأميركي باراك أوباما، وهي الأولى، والتي تعلق عليها إدارته وبعض دول المنطقة أهمية فائقة، خصوصاً أن البعض يرى أن هدفها طمأنة هذه الدول الى صلابة التأييد الأميركي.. ولكن في وجه من؟!
… أما في بيروت فيضاف الى هذا التساؤل بعض الهواجس التي لم ينفع في تبديدها قدوم الأكبر بين المسؤولين الأميركيين، اليها، خلال شهر واحد وهما: وزيرة الخارجية السيدة هيلاري كلينتون، ونائب رئيس الولايات المتحدة جوزف بايدن!
..خصوصاً أن السيدة كلينتون كانت قادمة من العراق تحت الاحتلال الأميركي، وقد حطت في بيروت لأربع ساعات فقط، وحصرت زيارتها برئيس الجمهورية ثم بوقفة احترام لذكرى الشهيد رفيق الحريري، وغادرت من دون أن تلتقي رئيس المجلس النيابي أو رئيس الحكومة، خلافاً للمألوف (لبنانيا)..
أما نائب الرئيس فقد وصل بيروت آتيا من بعض أنحاء يوغسلافيا السابقة التي يذكر اللبنانيون أن الولايات المتحدة الأميركية قد لعبت دوراً بارزاً في تمزيقها الى دول عدة مقتتلة، متخذة من حماية «الأقلية الإسلامية» ذريعة لتوظيف هذه الواقعة مع العرب (المسلمين).
ومع أن هذا المسؤول الأميركي الرفيع قد التزم البروتوكول فزار الرؤساء الثلاثة، إلا انه قبيل المغادرة التقى قيادات تجمع «14 آذار» الذي يملك هذه اللحظة الأكثرية البرلمانية، في محاولة لتطمينهم وتهدئة قلقهم من نتائج الانتخابات النيابية، مؤكداً لهم ان دولته العظمى تساند بقوة استمرار أكثريتهم في الحكم وانها سوف تعيد النظر في مساعداتها للبنان اذا ما فازت المعارضة في الانتخابات!
وغني عن البيان أن مثل هذا الموقف سيزيد من حدة الصراع المفتعل والذي بلغ حدود شطر المسلمين الى معسكرين متواجهين: السنة تحت الرعاية الأميركية، والشيعة تحت الرعاية الإيرانية… وفي مثل هذا التقسيم المفتعل إهانة للمسلمين جميعاً، ثم انه يصب في طمس القضية الفلسطينية تماماً، بتقديم خطر موهوم على خطر حقيقي دفع العرب جميعاً من دمائهم ثمن محاولات صدهم، وما زال اللبنانيون منهم يمسحون آثار جراحهم نتيجة الحرب الإسرائيلية على لبنان قبل ثلاث سنوات إلا قليلاً.
والسؤال ليس: أين أميركا من العرب والمسلمين؟! بل أين العرب والمسلمون من فلسطين، وبالتالي من الاحتلال الإسرائيلي ومن الاستعداد الإسرائيلي الذي بلغ أوجه في الأيام الأخيرة لحرب جديدة ضد العرب والمسلمين بعنوان إيراني؟
لننتظر فنسمع ـ ومن القاهرة وفيها ـ محاولة للإجابة على التساؤلات الكثيرة التي تقلق العرب والمسلمين معاً.
[ تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان