فجأة وجد مصطفى الزين من يشبهه، من يتحدث بلغته، من يكتب كأنما بقلمه، ومن يعطي تبريراً متأخراً لمسلكه وأسلوب حياته المتفرد.
فمصطفى الزين عاش حياته يبحث عن اليقين، فأمضى السنوات يتقلب على جمر القلق، وكلما افترض انه قد وصل دهمه مزيد من الاسئلة فعاد يبحث، ينقب، يجرب، ويفتش بعينيه وبقلبه وبفكره ثم يكتشف انه انما توغل في لجة الحيرة اكثر فأكثر.
لا الاحزاب، بما فيها اعرقها وأغناها بالمرتكزات الفكرية، اشبعت ذلك النهم الى المعرفة، ولا الوظيفة وقد اختارها العمل الدبلوماسي، اي الخروج الى العالم وقراءة التطورات والتحولات على الارض مباشرة، والاقتراب من مكمن السر بالتعرف الى »صناع القرار« والمطابخ السياسية، حقق له كل ما كان يطلبه ليقتنع فيهدأ… ولم يتبق في نهاية المطاف الا »الكتاب«، فاندفع في رحلة ممتدة في قلب المعنى، يقرأ ليسأل، فاذا ما سأل قرأ مجددا فزادت الاسئلة، فحملها الى المقهى يرميها في وجوه القلة المختارة من اصدقائه ثم يعود ليقرأ من جديد.
مع »كريشنا مورتي« وجد السفير »المتقاعد« الآن مصطفى الزين من يكتب له وعنه وبقلمه… وهزه التماثل فقرر ان يترجم »نفسه«، وهكذا عكف على ترجمة يوميات هذا الفيلسوف والاديب والمحاضر الهندي المولد البريطاني النشأة، الشرقي المعتقد، الغربي الثقافة، والذي تتميز فلسفته بالتحليل العميق لمشاكل الفكر وتناقضاته وترتكز بالدرجة الاولى على التأمل في الذات وفي الطبيعة، وكثيرا ما تختلط بالسياسة والرومانسية… وهي فلسفة يغلب عليها التعقيد ويشوبها الكثير من الافكار والمفاهيم التصوفية ذات الجذور البوذية والهندوكية، وغالبا ما تتعارض حتى التصادم مع الفلسفات الاوروبية المادية.
هنا لمحات، او سطور، من يوميات كريشنا مورتي وقد كتبها خلال بعض جولاته في اوروبا والهند والولايات المتحدة الاميركية حيث توفي بالسرطان العام 1986.
}… فمنذ طفولته والامور تسير على هذا المنوال، فكره خال باستمرار من اية فكرة. كان فقط ينظر ويسمع، ولا شيء غير ذلك. فالافكار وتداعي الافكار لم يكن لها اي شأن في حياته. بل لم تكن ترتسم في ذهنه اية صورة، لذلك كان يشعر دائما بأنه غريب ومتفرد. لقد كان يحاول غالبا ان يفكر، ولكن ما من فكرة كانت تدور في خلده.
}… ان الوقت ليس له اي دور في عملية التفكير، ولا في الكلمة، فالتفكير هو المفكر نفسه ولو لم يكن الامر كذلك فليس هناك حالة تفكيرية على الاطلاق. ان الكلمة والفكرة، والزمن هي ادوات التفكير.
وبما انها كذلك فهي خاضعة للتغيير ولتجاذب الصور الذهنية. ان التفكير ليس وردة تتفتح ثم تذبل وتموت. والزمن هو الحركة… ان الجمال لا يكمن في الأسلوب الذي تعبر به عنه بل في تخيلك عن الكلمة وعن التعبير الشخصاني والصورة التي رسمتها في مخيلتك عنه، والكتاب ولوحة الرسم.
… لقد جاء من بلاد بعيدة، وكانت الشمس قد لوحت جلد بشرته. وبعد ان القى التحية بدأ بتوجيه الانتقاد… ما اسهل الانتقاد عندما تكون جاهلا حقيقة الامور.
} ان رونق الحب يكمن في الموت. ولكننا نجهل حقيقة الاثنين: الموت والحب. ان الموت هو الألم، والحب هو اللذة.. ولا نستطيع ان نوفق بينهما، لذلك نحن نتمسك بالتفريق بينهما وهذا ما يولد في نفوسنا العذاب والمرارة.
} يجب ان تتعلم كيف تكون وحيدا بين الاشجار والمروج والجداول. ولن تكون وحيدا اذا ما احتفظت بأشياء الفكر وصوره وتعقيداته.
} المحتوى هو الوعي، والوعي هو المحتوى. ان كل شيء يصبح عرضة للتجزئة عندما يتجزأ محتوى الوعي. وهذا يجر بدوره الى الصراع والالم.
} اصبح الدين مجرد وساوس وعبادة صور وطقوس ونقد جمال الحقيقة التي اخلت مكانها للبخور.
} ان الحرية ليست في استبدال سجن بآخر او مرشد “Gou Rouس بآخر، يظل فهمه للامور ضربا من المستحيل.
} في حالات النوم يتجدد الدماغ. قد تقول لي: ان الاحلام امر ضروري، اذ من دون الاحلام يصبح الانسان مجنونا.
} كانت شجرة السرو »الصامتة« الكبيرة تنتصب نحو السماء، واخذت انت مكانك تحت اغصانها التي تشكل سقفا فيه من الاتساع بقدر ما فيه من الخلود. ان عمرها المديد كان يزيد في جلال صمتها وانطوائها على ذاتها، شأن البطاركة العظام.
كانت هذه الشجرة صامتة كعقلك، ساكنة كقلبك وتعيش من دون ان تحمل اثقال الزمن.
قراءة في وجه الحب النائم
تنزهت عيناي، أمس، فوق أهدابك.
كنت نائمة، وكان خوفي يغالب شوقي، وكانت لهفتي عاتية، وكنت هادئة كالإيمان.
سرى نظري فوق صفحة وجهك، فأسكره الجمال وقد استكان لهدأة النوم فصار باهرا بوداعته، رائقا كيدي جدتك بعد الوضوء.
وكان جبروتك يحف بي ويملأ علي الفضاء: اردت ان اختلس منك بعض ألمك، فوجدتك تمدينني بمزيد من الأمل، قبل ان تخلدي الى النوم ويسترد الوجه ملامحه الطفولية الفاتنة بصفائها.
قرأت فوق صفحة الوجه سفراً جليلاً عن أيامنا الآتية.
كنت احس، دائما، ان عقلك يقظ وانه يعزز ارادتك باستمرار، وان قلبك الذي لم يعرف الا الحب قد انجدكِ فحماك.
اغتنمت فرصة اغماضتك لأقرأ.. في ظل عينيك حيث يتزاوج الربيع والبحر، كنت انا المكتوب وأنت القارئة.
من قال انهما »مجمع البحرين«؟
قرأت فوق الجفنين سطور السهد والقلق وقصائد الحنين الى الارض وأهلها.
وقرأت في الغضون المبكرة على الجبين هواجس الخوف على الغد الذي تختزنين كلمة سره… وكان بيدر شعرك المشعث يجلل الصورة بهالة الشباب المقدس.
سرى نظري فوق ذؤابات الامل المختزن، وانتشى وهو يتغلغل في الافكار البكر التي ذهبت بها الى بلاد الغربة والصقيع والتقدم فنَمَتْ واكتست بالمعنى وتوهجت بالمعرفة وصارت قادرة على اصطناع المقدمات لحياة جديدة.
حاورني صمتك طويلا، فأمتعني وأنعشني وفتح لي كوى عديدة في الجدار السميك الذي كانت تصطدم به ثرثرتي فترتد إليّ.
وحين فتحت عينيك ملأ إشعاعهما الغرفة، وانثنيت خجلاً كعاشق ضبط متلبساً وهو يعانق ظل الحبيب.
قلت تكملين الحديث المفتوح منذ دهر: هل تأكدت ان الطفلة قد شبت عن الطوق؟
الطفلة. الطوق. شبت. تأكدت.
هربت مني الكلمات، وهربت منك عيناي، فلم اجد غير ان ادعي الانهماك في سكب الشاي، وفضحني ارتجاف اليدين فعدلت خصوصا وانا ألمح طيف ابتسامتك الماكرة.
لماذا لم تكملي إغفاءتك حتى أتم حديثي؟!
لماذا دهمتني عيناك متلبساً في استقراء صمتك الذي يساعدني على الفهم وعلى الامتداد في قلب المعنى؟!
وحين اتخذت طريقي الى الباب خارجا من فضائك كنت ممتلئاً بالثقة انك نجحت في تحويل الألم الى ربيع جديد، وكنت احس بزهر الليمون ينبثق من صدري ويتعرض عطره كياسمينة من حول اسمك.
في فسحة »اليوم الثالث«
تخفف الناس من أعباء سنة؟!
الوهم سلطان، والناس عبيد لأوهامهم التي يصطنعونها بأيديهم ثم لا يخرجون منها.
في ليلة رأس السنة يذهب الناس الى السكر والعربدة والعبث الطفولي لينسوا، ثم يعودون مع الصباح منهكين فلا يرون سنتهم الجديدة بعيونهم المتورمة الأجفان بالسهد والإجهاد من اجل نسيان ما لا ينسى.
قصيرة هي الرحلة داخل الوهم. انها لا تدوم اكثر من لحظة التعتيم. بل لعل إطفاء النور عامل تذكير إضافي بأنك مسجون داخل حقائق حياتك، وان لعبتك للهرب مكشوفة لا يخفيها الظلام وقد يستفزها الشراب فتجيئك بالفضيحة.
الملاهي ليست مصانع للسعادة.
ومغني الملهى لا يطرب.
كذلك مزمار رأس السنة: قد يصدر عنه ما يشبه النشيج او الفحيح او الاصوات المنكرة، لكنه لا يبدل من طبيعة »الآتي« ولا من برودة الواقع الذي تتمنى رحيله ثم تكتشف انه داخلك وليس خارجك ولا سبيل الى افتراق.
قبلات التمني باردة كأي طقس اجتماعي. تمارسها بحكم التعود والمجاملة. لا تأتي الحرارة مع دقات الساعة.
في طريق العودة كان رتل السيارات المتلاطمة طويلا جدا، وكان البحر قريبا، وعبر الامواج المنتعشة بريح الصباح الباكر كانت تتناثر أشلاء السنة المنصرمة وقد اشبعت طعنا بالسكاكين وطلقات الرصاص.
وحين جاءت الخيوط الاولى من نور الشمس تمطى المتعبون من الضياع بين العامين، وبدأوا يتلمسون طريق الرجوع الى يومهم.
وافتقد الاصحاب واحدا منهم كان قرر ان يستوطن الى الأبد تلك الفسحة الضيقة والمعتمة بين العامين المشعشع اولهما بالمصابيح الصناعية الباهرة، والمضاء ثانيهما بنور اليوم الذي لم يتعتعه السكر ولا اضفت عليه التقاويم اي معنى اضافي الا انه وقت ضائع بين اليومين من دون ان يكون يوماً ثالثاً.
العفريت في السماعة
جذبه الصوت فانجذب، وسافرت به الكلمات الرقيقة الى الوهم فمضى معها خفيفا ممتلئا بالحماسة الى المغامرة والسعي الى المجهول.
كلما كاد ينسى، عاد الصوت يزغرد في اذنيه مطلقا أسراب الاماني، عبر ذلك السيل من الكلمات الملتبسة التي تتقن الانثى استيلادها من دون سابق تصميم.
قال في نفسه: لا بأس من شيء من الترفيه عن النفس،
دعته فامتنع، ألحت فزاد اصرارا على امتناعه: لا يريد خديعة ولا يطلب فجيعة.. وما بين طرفي الحظ مسافة أمان لا بد من حفظها.
كانت السماعة مستودع السر… ولطالما اختزنت آهات وهمسات تضج بالشهوة وتتلظى نشوة.
وبات يتخيلها مقيمة في السماعة، فاذا ما جاءه منها صوت غيرها صدمته »المفاجأة« وكاد يدعي ان »النمرة غلط«!
مر الزمن سريعا، وفاضت السماعة بما سمعت.
وذات يوم، دخل الى موعده مع ضيفه في الفندق متعجلا ليصحبه الى مطعم اختاره. وبادره الصديق: هل تتسع ضيافتك لرفيقتي؟!
هز رأسه مؤكدا ترحيبه ووسع مدى ابتسامته وهو يمد اليها يده بالتحية.. وجاءه الصوت وكأنما من مكان سحيق: ولكننا سبق ان تعارفنا.
كانت عيناه تكذبانها لكن سمعه كان يؤكد صدقها.. وعبر ارتباكه في غياهب حيرته نسي ان يسحب يده من يدها، الى ان جاءه صوت صديقه معاتبا:
أهكذا تنسى أصحابك، أم انك هرمت فضعفت ذاكرتك؟!
استعاد يده، ورفعها الى جبينه يمسح عنه حبات العرق التي أخذت تتدحرج فوق صفحة وجهه، وهو يداري حرجه، بينما اطلقت قهقهة عالية وهي تقول: اللي يخاف من العفريت يطلع له.. من السماعة!
وحين عاد الى مكتبه بدل جهاز الهاتف والرقم، مفترضا انه بذلك قد ختم عليها في السماعة المرصودة والمهجورة فلن تستطيع ان تخرج منها ابدا.
لكنه ما زال ينتفض كلما رن هاتفه الجديد!
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة غير الحب:
لا تخطئ في التمييز بين الانانية والحب. البعض يحب نفسه في الآخرين فيبيعهم وَهْمَ الحب بينما هو يمتلكهم فيستعبدهم استعبادا. ألم تشعر أحيانا بأن من يقبلك كمن يقبل فيك نفسه، او كمن يؤكد ملكيته لك؟
استذكرت صور بعض من أعرف من »الملاّك«، وسرحت اتخيلهم يلصقون الاعلانات على صدور محبيهم: »املاك خاصة، ممنوع الصيد«، ثم صحوت على صوت »نسمة« يقول:
البعض يبالغ في مظاهر الحب للآخر ليخفي نقصه عنده. كل مبالغة نقص، وكل مباهاة بالحب امتهان لطبيعته. الحب طوفان جارف. هل يحتاج الطوفان الى دليل عليه من خارجه؟!