أوقفونــا فـي باحـة سـجن الرمـل وهتـف الضابـط: انزعـوا ثيابكـم!وفرت «الواسطة» تهريـب الكتـب .. ودفاتـر وأقـلام لكتابـة المذكـرات!
أُعدنا جميعاً من قاعة المحكمة إلى غرفة التوقيف في انتظار ان ينطق «الزعيم» بالأحكام. كنا، نحن الصحافيين الثلاثة، مكسورين، ادوار يبكي والفتى يحاول إخفاء دموعه وتوفيق، يبتسم بهبل.
جمع «النقيب» حاجياته وخاطبنا مجتمعين: اسمعوني جيداً، سأنتظر في الخارج لأعرف ماذا قررت المحكمة. وبحكم خبرتي افترض أن حكم البداية سيكون قاسياً جداً لأنه متسرع ومبني على افتراضات. لكنها محكمة عسكرية، كما تعرفون. ولسوف تنقلون، على الأرجح، إلى السجن.
صرخ ادوار فغالي معولاً: إلى حبس الرمل، يا ذلي، يا ويل عائلتي.
خاطبه فؤاد نصر الدين محتداً: اسمع. أنتم رجال أبرياء، أعرف هذا. لكنها محكمة عسكرية، والتنافس على أشده بين مخابرات الجيش والأمن العام. لن تبرئكم المحكمة في البداية، سوف تصدر أحكاماً قاسية كنوع من المزايدة.
قال توفيق المقدسي: علقنا! ما بين حانا ومانا ستضيع أعمارنا.
قال الفتى وقد أخذه الذعر: إلى السجن. ستدمر حياتنا!
عاد فؤاد نصر الدين يقول: اسمعوني جيداً… إنني أفترض، وقد يظهر الحكم أنني مخطئ، ولكنني أفترض أسوأ الاحتمالات. ستؤخذون إلى سجن الرمل، لا تخافوا. سألتقي الآن، وفور خروجي من هنا، المحامين الذين يدافعون عنكم… وربما أعين لكم محاميا قديراً له خبرة في أساليب الصراع داخل الأجهزة الأمنية..
نبر الفتى بصوت دامع: ستموت والدتي كمداً، وأخشى ان يتصرف والدي بما يدمر مستقبله. مستقبلنا!
رد فؤاد نصر الدين: والدك رجل حكيم ولديه الخبرة ليفهم خيراً منك ما قلته لكم، أما والدتك فأقوى مما تظن. أمهاتنا بطلات..
وسأل توفيق المقدسي: الحكم بالسجن يوماً واحداً سيدمر مستقبلي.. كنت أنوي الرحيل عن هذا البلد، ولقد خدعوني فقالوا إن الاستقرار سيأتي بالازدهار، وان الصحافة أقصر طريق إلى المجد… عظيم! سيكتمل مجدي غداً في حبس الرمل!
كان ادوار يبكي ودموعه تغطي وجهه، ثم أخذ ينشج وهو يردد: كيف أواجه زوجتي وأولادي غداً. كيف أواجه الناس وأنا مثقل بهذه الاتهامات؟!
قال فؤاد نصر الدين: كل هذه الانفعالات لن تنفعكم في شيء. ركزوا معي. سيصدر الحكم خلال دقائق، والأرجح أن تنقلوا إلى حبس الرمل، فلا تضعفوا، والأهم ألا يفترض كل منكم ان براءته تكون بإثبات التهمة على غيره. أنتم في المركب ذاته، ولا أدلة ضدكم… ولا حتى ضد أحمد الصغير، فتماسكوا.
في تلك اللحظة نودي على فؤاد نصر الدين فاندفع يعانق الأقرب إليه من الموقوفين ويلوح للآخرين مودعاً، وخرج تتابعه نظرات الزملاء الثلاثة الذين انتبهوا إلى انهم قد فقدوا مرشدهم فتعاظم اضطرابهم.
÷ بعد لحظات جاء الرقيب ينادي على الفتى، ثم على توفيق وبعده على ادوار طالباً منهم ان يجمعوا حاجياتهم ليرافقوه… ولم يكن لديهم ما يجمعونه، وهكذا ما أن فتح الأقفال حتى خرجوا واحداً في إثر الآخر ليجدوا أربعة عناصر من الشرطة العسكرية ينتظرونهم ليواكبوهم إلى الشاحنة، وقد دفعوا إليها دفعاً، وقبل ان تتحرك جيء بموقوفين آخرين فانضموا إلى «الزملاء الثلاثة»، وتبادل الجميع نظرات فيها قدر من الريبة… ثم انطلقت الشاحنة التي لا يعرفون وجهتها تماماً، وان قدّروا انهم في طريقهم إلى سجن الرمل، في محلة الطريق الجديدة.
حين وصلوا كان بإمكانهم ان يشاهدوا، من باحة السجن، المبنى الرئيسي لجامعة بيروت العربية، فتنهد الفتى وهو يقول: خطأ بسيط في العنوان.
قال توفيق ساخراً: سأسعى لك من أجل تبديل الموقع، يا بريء…
أمروا بأن يترجلوا، فاندفعوا يقفزون الواحد في إثر الآخر ليجدوا أنفسهم ضمن طوق من رجال الدرك. قال قائدهم بنبرة صارمة: شكلوا دائرة! وسارعوا إلى تنفيذ الأمر مرتبكين. صاح بهم الضابط: هيا، اخلعوا ملابسكم… ترددوا، فصرخ: اخلعوها وإلا مزقناها!
تبادلوا النظرات حائرين، وبادر توفيق فباشر بخلع قميصه وبنطاله، وقلده الآخرون، ووقفوا جميعاً بالملابس الداخلية، فقال الضابط: اخلعوها أيضاً!!
كان الأمر أقسى من أن يُحتمل، ولكن لمن توجه الشكوى. بادر توفيق، ولحقه ادوار، وتردد الفتى فهز الضابط عصا في يده وهو يقول: اخلع! كلنا رجال، فممن تخجل. عند كل منا مثل ما عندك وربما أكثر! هيا اخلع!
خلع الكل ثيابهم جميعاً، ووقفوا عراة، ربي كما خلقتني، وقد غطى كل عورته بيديه، وأطرق خجلاً… وجاء رجال الدرك يتفحصونهم، ويمدون أيديهم حيثما شاؤوا، فلما اطمأنوا إلى انهم لا يخفون «مهربات» أمرهم الضابط ان يرتدوا ثيابهم مجدداً… وسارعوا إلى ارتدائها كيفما اتفق، ثم وقفوا في انتظار الأوامر بالتحرك. نبر الضابط: أنت أيها الفتى، وأنت المقدسي، وأنت الفغالي إلى الزنازين 12 و13 و14… أما الآخرون فإلى القاووش الرقم ستة…
دارت الأرض بالفتى، والتفت إلى زميليه فإذا هما ذاهلان. تقدم رجال الدرك، فأمسك دركي بكل منهم واقتاده إلى داخل السجن… ولمح الفتى ظل أبيه في عمق الباحة، قريباً من مدخل مكتب قائد سجن الرمل، وهز رأسه طارداً هذا الوهم، ومشى مطرقاً والدركي يقوده بأصفاده إلى الزنزانة الرقم 12.
÷ كانت الزنزانات تحت مبنى السجن، وقد عبر الفتى والدركي يدفعه الممر الداخلي، ثم نزل أربع درجات أو خمساً، فوجد دركياً آخر ينتظره ليصحبه إلى زنزانته.
سمع صرير الباب وهو يفتح، ولم يستطع أن يرى آخر الممر بسبب من شح الضوء، ولكنه لمح أشباح زميليه والدركيين اللذين يقودانهما في الخلف، غير بعيد عنه. دفعه الدركي إلى الداخل وهو يقول: سيأتونك بالطعام في المواعيد المقررة، ويكون الخروج إلى شرفة النزهة، مرة عند العاشرة صباحاً ومرة ثانية عند الثالثة بعد الظهر. مدة النزهة ربع ساعة. لا تجرّب ان تصرخ لأن أحداً لن يسمعك. كذلك فإن أنت حاولت خبط الباب بيديك تأففاً فلسوف تؤلم يديك، لا أكثر. كن عاقلاً..
كان الفتى مطرقاً يستمع إلى الأمر بصمت حين همس الدركي في أذنه:
ـ جاءك والدك ببعض الكتب وبدفاتر من ورق أبيض. قال انك صحافي. وانك مولع بالقراءة، وقد يخطر ببالك أن تكتب… مذكراتك هنا!
هز الفتى رأسه بصمت، فأضاف الدركي: لا مجال للبطولات الوهمية هنا. واعلم ان رجال الدرك سيراعون انك ابن زميل لهم.
قال الفتى: ولكنني بريء. أقسم لك انني لم أفعل شيئاً فيه خروج على القانون.
قال الدركي: أصدقك، لكن الحكم ضدك. أتمنى أن يبرئك الاستئناف.
أمده التعاطف بقدر من الشجاعة فقال بنبرة رجاء: هل لي أن أطلب المعاملة ذاتها لزميليّ. انهما بريئان مثلي… والله العظيم نحن أبرياء ولم نفعل ما يعاقب عليه القانون.
رد الدركي وهو يقفل عليه باب الزنزانة: لا تنس مواعيد الطعام والنزهة. عجل الله في الفرج.
استمع إلى خطوات الدركي مبتعداً، ثم انتبه إلى إغلاق باب الزنزانة المجاورة، وبعد لحظات الزنزانة الثالثة. صرخ: يا رب… فوصله صوت توفيق يقول ساخراً: لا أظنه سيسمعك! نحن في عمق كاف لكي ينسانا الجميع.
صرخ الدركي بهما: اسكتا أيها الثرثاران!
÷ كان طول الزنزانة ثلاثة أمتار وعرضها مترين، وقرب السقف في مواجهة الباب طاقة صغيرة أعلى من قامة من يحاول أن يطالها. وثمة فراش وبطانية. وجورة عند الزاوية، على يمين الداخل، وسطل إلى جانبها، لقضاء الحاجة.
مد بصره إلى الطاقة فرأى السماء، ولمح طائراً يعبر الفضاء فابتسم.
تفحّص الكتب: شكراً للأب الطيب: لقد أحسن الاختيار. شولوخوف وتولستوي مع نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس، وديوان شعر لنزار قباني. تنهد بحسرة: يبدو انه قدّر ان فترة الزنزانة ستكون طويلة!
سمع صوت توفيق يغني: سكابا يا دموع العين سكابا. ثم سمع الدركي ينهره أن اصمت حتى لا تزعج جيرانك!
رتب الكتب في زاوية، وجعل الدفتر على الوسادة، ثم رفع بصره إلى الكوة الضيقة في أعلى الزنزانة، تحت السقف مباشرة، فلمح حمامة ترف بجناحيها منطلقة إلى حيث تشاء.. استذكر أبا فراس الحمداني وسيف الدولة والمتنبي وتلك الأميرة الجميلة التي استولدت حرباً بين الشاعرين العاشقين. عاد ليتابع مسيرة الحمامة فوجد أنها باتت رفاً من الحمام. لم يتبين الألوان تماماً، لكنه أدرك انها مزركشة فتابعها بنظره وهي ترسم دوائر ثم مستطيلات قبل ان تعود إلى الانضباط في ثلاثة صفوف يتقدمها «قائد» حازم!
جلس على الفراش وقد دهمه الحزن. لقد فقد شلة الانس. ففي نظارة الأمن العام كما في غرفة التوقيف في المحكمة العسكرية كان دائماً، واحداً من مجموعة. صحيح انهم ليسوا أصدقاء لكنهم يطردون شبح الوحدة. الآن هو وحيد تماماً، لا يرى أحداً ولا يسمعه أحد، منسي تماماً إلا من أبيه الذي «هرب» منه حتى لا يتبدى في صورة «المكسور» والذي لم تشفع له بزته الرسمية بأكثر من «تهريب» الكتب إلى ابنه لتشعره ـ وهما ـ بأنه ليس وحده.
÷ فجأة برز طيف فؤاد ناصر الدين فغطى حديد باب الزنزانة. كان مشعاً، وعلى وجهه ابتسامته تلك التي تؤكد صلابته. ابتسم للطيف، فإذا به ينطق. سمعه يقول بلهجته الساخرة: يظنون انهم أقوى منك. ولكنك ببراءتك أقوى منهم جميعاً، فاصمد.
ابتسم وقد استعاد هدوءه، ومد يده إلى ديوان «قالت لي السمراء» فقلب صفحاته القليلة، انفجر ضاحكاً بما يشبه الهستيريا: السمراء يا نزار! أنا أطارد طيف الحمامة التي تمرق طائرة فألمحها من هذه الطاقة التي بحجم كفي.
جاءه صوت توفيق يصرخ بأدوار: ألم تشبع بكاء؟! لن ينفعك النحيب. اصمت وفكر، أو دعني أفكر في مخرج.
وارتفع صوت الدركي: اسكت أنت يا فصيح! جئت إلى هنا لتفكر!
قال توفيق ساخراً: أنا أفكر إذن أنا موجود. ألا تعرف الفيلسوف الذي حقق هذا الكشف العلمي الباهر.
قال الدركي: لا أريد أن أعرفه، أريدك فقط ان تصمت.
نبر توفيق: تسجنون الأبرياء ثم لا تسمحون لهم بالتفكير!
قال الدركي متضجراً: يا عيني فكر كما شئت. فقط توقف عن الصراخ! أنا متعب وأريد أن ارتاح… ان سمعك الرقيب عاقبني أنا! بعد ساعة ستخرجون إلى النزهة، وعندها يمكنك ان تصرخ أو تغني وتنظم الشعر. اسكت الآن!
بعد ساعة أو تزيد قليلاً، فتحت «الشراقة» التي في الثلث الأعلى من باب الزنزانة ومد بصينية بلاستيك فوقها صحن بلاستيك فيه حساء وقطعة خبز وبضع حبات زيتون. قال الدركي: هذا هو الغداء. وبعد ساعة يحين موعد «النزهة».
÷ جاء الدركي، بالفعل، بعد ساعة، فصحبه إلى «الشرفة» عابرين صفاً من الزنازين. قال الفتى: ألن نكون نحن الثلاثة معاً؟!
لم يرد الدرك، ومضى به إلى آخر الممر، فقرع باباً سرعان ما انفتح ليبرز وجه دركي آخر، أفسح له كي يعبر إلى الشرفة ذات السقف العالي جداً وسور من قضبان الحديد المتقاربة في جهة منها، في حين ترتفع جدران من الاسمنت المسلح في الجهات الأخرى.
كان يمكنه ان يلمح السماء. واكتشف انها ليست بعيدة جداً، لكنها أسيرة تتسلل زرقتها من بين القضبان السوداء.
تساءل: هل يسمعني الله ان أنا ناديته من هنا؟!
وتسلل إليه صوت والدته يقول بحنو: ان الله يسمعنا دائماً وحيثما كنا. سلم أمرك له يا حبيبي ولا تخف. هو جل جلاله يسمع الداعي إذا دعا، ثم انه يعرف كل شيء عن كل الناس.. ولن يطول ظلمك.
قال الدركي: لا تقف هكذا كالتمثال. حرك جسمك. امش ذهاباً وإياباً، وحرك ذراعيك. اعتبر انك تمارس الرياضة. اقفز، تنفس عميقاً. إملأ رئتيك بالهواء الطبيعي… تخفف من عطن الزنزانة التي ستعود إليها بعد دقائق.
في طريق العودة سمح له ان يحيي زميليه ادوار وتوفيق.. وفي حين رد توفيق ضاحكاً، فإن ادوار همهم بكلمات غير مفهومة. ولحق به صوت توفيق يسأله: هل الجميلات كثيرات على الشرفة، وهل عدت بإحداهن إلى مضافتك؟!
} مر اليوم الأول خفيف الوطأة.. أما اليوم الثاني فقد سبقه الشجن. جاءه «خادم الزنزانات» بالفطور، فمد يديه ليتلقاه، وإذا بالخادم يدس ورقة صغيرة في يده. فتحها متلهفاً، فإذا فيها كلمات قليلة بخط أبيه: «اطمئن. وكلت محامياً ممتازاً للدفاع عنك. ستخرج قريباً. والله ولي الصابرين».
صاح بتوفيق: سنخرج بعد أيام. جاءتنا البشرى!
قال توفيق: ولكنني مرتاح هنا. لمَ العجلة؟
وسمع الاثنان سيلاً من الشتائم يطلقها ادوار قبل ان ينخرط في نوبة بكاء جديدة.
جلس على فراشه، بعدما فرغ من فطوره. أمسك بدفتر مقرراً ان يسجل يومياته. ولكنه سرعان ما رمى القلم والدفتر وهبّ واقفاً: وماذا لدي لأسجله؟ ابتسم، ثم انفجر ضاحكاً وهو يقول: تريد ان تقلد المشاهير أيها البطل البلا قضية؟! انهم يحرمونك من شرف انك قدمت جهداً بسيطاً، من خلال عملك الصحافي، لثورة الجزائر. ماذا لديك غير هذا؟ أتكتب عن تنقلك، بحثاً عن غرفة تسكنها بين الشياح وبرج حمود، وفندق الشمس في المعرض، قبل ان تنتهي إلى حيث اعتقلت في حي السريان بالمصيطبة؟!
÷ في اليوم الثالث جاءه الدركي ليفتح الباب. قال: جاء والدك لزيارتك. تماسك ولا تظهر ضعيفاً أمامه. لا تكسر قلبه.. (ثم اقترب منه ليهمس في أذنه: عرفنا قصتكم.. كلنا مع الجزائر، ونعرف ان اتهامكم بكل ما نسب إليكم باطل). ثم رفع صوته قائلاً: ليسمعه كل من في الزنازين المجاورة: هيا، بسرعة! إنكم تحرموننا من النوم… ثرثرة وصراخ ونحيب كل الوقت. حيف على الرجال!
قيده الدركي وصحبه إلى مكتب ضابط الدوام. كان يحاول أن يهدئ من روعه. كانت أمواج عاطفته تتدفق فتربكه، ثم يقرر التماسك، فيهدأ، وكان خوفه من ان ينفجر باكياً أمام والده يتعاظم كلما اقترب منه حيث سيلتقيه. دخل فحيّا الضابط، ثم اندفع نحو والده معانقاً… وسمع نفسه يردد: أنت تعرف اننا أبرياء. الكل يعرف اننا أبرياء. ولا نعرف لماذا زج بأسمائنا في هذه الدعوى. تعرف انني لا أكذب. والله العظيم لم نفعل ما يعاقب عليه القانون. طمّنّي عن الوالدة وعن أخوتي. عن صحتك. لقد أحرجتك كثيراً. ولكن لا يد لي في ذلك… كيف هي الوالدة؟!
قال الضابط، ربما لكي ينبه الفتى إلى وجوده: إهدأ، واستمع لما سيقوله أبوك. انه رجل ذو حكمة، فاهدأ.
قال الوالد وهو يضمه إلى صدره: ان الله معنا. ولقد تبرع المحامي الكبير نصري المعلوف للدفاع عنكم، وهو من أرسل في طلبي مع من عثر عليه من أقارب زميليك كي نوكله. فاطمئن. ثم ان حضرة الضابط يعرف أكثر مني حقيقة الأحكام في المحكمة العسكرية. خصوصاً في ظل التنافس بين المكتب الثاني والأمن العام.
تشاغل الضابط مبتعداً عنهما، فدس الوالد مبلغاً من المال في جيب ابنه وهو يقول: أحضرت لك بعض الثياب، وبعض الفاكهة، وكتباً جديدة… ستتسلمها حين عودتك…
وقاطعه الفتى: إلى الاستراحة الملكية. انني أرى من طاقتها الوحيدة السماء، وقبة المبنى الجديد لجامعة بيروت العربية. جامعة الفقراء التي قدمها لنا جمال عبد الناصر…
قال الأب وما زالت الابتسامة على شفتيه: أمك معتصمة بإيمانها، وهي واثقة تماماً من براءتك، تدعو الله أن يمدك بالصبر. أما أخوتك فأصغر من أن يفهموا دهاليز القضية، وقد أخبرناهم انك في مهمة خارج لبنان، لحساب المجلة.
نبر الفتى بغيظ: لكنهم سيجدون بين أقرانهم من يخبرهم ما شاء من الأساطير.
قال الوالد: انتبه إلى صحتك. أعرفك قارئاً ممتازاً. ستعجبك الكتب التي أحضرت. امض وقتك في القراءة، ولا تهمل الرياضة. تحرك دائماً ولو في المساحة الضيقة.
انتهى الوقت، فعانقه والده بحرارة، ثم همس في أذنه: لقد اتصلت هيفا بفؤاد ناصر الدين للاطمئنان عنك…
… وعاد الفتى إلى زنزانته طائراً بغير جناح!
من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ العيد ان يكون حبيبي معي، فالهمسة أغلى هدية. وكل لقاء ميلاد جديد وبداية جديدة لدهر من الحب. والمواعيد تعطي الأيام أسماءها والمعنى. حبيبي هو الأمس واليوم والغد.