لا أحد يموت في غزة وحيداً. يأخذون جراحهم معهم. يتركون لنا الدم ضوءاً. أهل غزة يكرهون السماء لأنها عاصمة الطائرات المتوحشة. القتل يقرع أبوابهم بلا إستئذان؛ وعليه، يبدأ ليلهم أول النهار. لا وقت للصلاة والدعاء. موتهم صلاتهم. فقط يقولون: دمنا ممنوع أن يضيع. إن كان القتل مُقيماً، فلن نرحل أبداً.
يستمد أهل غزة قوتهم من آلامهم. ولكن:
هذه المآسي المتناسلة، ليست للفخر، هي في غاية الحزن. غزة، تراجيديا جديدة لا سابقة لها. لهم ينفتح الموت يومياً. لا قبور “شرعية”. المدافن اختنقت. هي بلا نوافذ ولا أسماء. لا أعرف ان كانت الصلوات كافية. كان حظ هابيل أن يُقتل على يد قايين. قايين العصر.. “إسرائيل”.
القتل مستدام ولا يرحل. العالم يتفرج. الحكومات مصابة بخصاء مخجل. كل العار التاريخي تجسّد في دول أنيقة، نظيفة، معطرة. لكن دماء الفلسطيني تطعن هؤلاء في أخلاقهم. حكومات ودول فاخرة، كلهم يتفرجون على القتل العلني، الواضح، السريع، ويشعرون أنهم قاموا بواجبهم اللاأخلاقي. يوشوشون خدمهم: “ومتى كانت السياسة أخلاقية.. والحروب مباركة”.
فوجئ العالم بقوة الضعفاء. ببسالة القلة. بعبقرية المنازلة. بموت ينجب حياة لا تشبه أي حياة. المعجزات ليست حكراً على السماء. غزة أم المعجزات.
يقول بائس أصيب بكل عائلته: “نفسي حزينة حتى الموت”. إشتهى موته مراراً. ظلّ حارس عائلته في موتها. صمته ألم من أنين، من مأساة، من أملٍ بلا ضوء، يقول في كتمانه: “موتنا صلاتنا”.. و”نفسي حزينة”.
الصهيونية افتتحت الهمجية المعاصرة. تضع الصهيونية نفسها في رأس قائمة الوجود. هي أولاً وأخيراً. و”الغوييم إلى الجحيم”. وعليه، ولأنها من سبطٍ إلهي وحيد، يتألهون. هم آلهة بشريون. يعلنون بصراحة: “نحن نتحكم بأميركا”. وأميركا مقتنعة أن إملاءها لا يجدي.. هي تهز إصبعها، فتطيعها الدول بجبن ونذالة. ما عدا “إسرائيل”، هي تُطاع ولا تُطيع.
لـ”إسرائيل” سردية الفضيحة. تُسمّينا بأننا مجرد صراصير تُهروّل أمامها. ألغت شيئاً اسمه فلسطين. أسماء قراهم لم تعد موجودة. تغيّرت أسماؤها. هي من سبط داود. يُردّدون حكاياتهم: “حوّلناهم إلى حطابين”. وكان جلاء الصراصير ومصادرة أوكارهم، مهمة للإنسانية. “مليون عربي لا يساوي ظفر يهودي”. يُصرّحون ويكتبون ولا يعتذرون حتى من حلفائهم: “نريد العالم لنا”. لدينا قريباً حكومة عالمية، لأننا أسياد العالم. نحن نختلف عن الآخرين (الآخرون مجرد “حيوانات”). سيأتي الزمن الذي يلعقون فيه أقدامنا.
كثيرون لن يُصدّقوا ما جاء أعلاه. ولو! هل تصدق يا نصري ما يقوله الأغيار عن الصهيونيين؟ أقول: معكم حق. ولكن ما سردته موجود وموثق في مذكرات قادتهم، وقادتهم مارسوا وعملوا ونفذوا بوحشية فائقة “رسالة هرتزل وبن غوريون”.
الحكومات الغربية والعربية رفعت الحصون في وجه شعوبها. فرضت صمتا وعقوبات على كل من يمت بصلة لفلسطين. وعليه أقول: “لا تلمني يا إلهي”. لقد أصبحت الشعوب آلهة.
علينا أن نشهد للحاضر والمستقبل. أن نقرأ فتيان وفتيات غزة. صبية يتمرنون على المواجهة. سلاحهم خشبي. لعبة جدية. احتلوا الشارع المصاب بالدمار. إنهم جنود المعارك المتوالدة. غزة المصابة بالدمار، تتدرب على مسح الدموع وزراعة التمرد والجرأة. امرأة تصرخ: “المقاومة تمثلنا. دم الفلسطيني هو الممثل الشرعي لفلسطين”.. “يا عرب الإحتلال يا كلاب الغرب. بعتم فلسطين، وتركتموها وحيدة. أطفالنا اليوم ثوّار الغد. كنادرنا فوق رؤوس حكومات العالم. نحن الأحرار”.
قليل من الدموع فقط. المشاهد تخنق أصواتنا: “طفلة تحتضن شقيقها الطفل. الوجهان مذعوران. العيون دامعة وصارخة. الوجع مقيم. أصواتهم مكتومة. بؤساء وبائسات”.
قليل من التأمل فقط: طفلة ملثمة. رأسها ملفوف بالقطن. عيناها دامعتان. وجهها في ذهول. تسأل بعينيها. تبحث عن أمها. عن أبيها. عن إخوتها. هي وحيدة في هذا العالم. بين أنقاض متهالكة.
صبيٌ يحمل أخته. حزنه محفور في عينيه ونظره. أخواه ينظران إلى سماء ولا يشاهدان فيها شيئاً. طفل بين أطباء حزانى. هو ينتظر إما تسكين الألم أو… لا يعرف ماذا. شاش أبيض ملطخ بالدم النازف. فتيات صغيرات تضعن أصابعهن في آذانهن. القصف مجنون. يقتل. تتحول السماء إلى لعنة. الألم ينزف من فتاة جريحة في الشارع. يحضنها أخوها ويهديها دموعه إشفاقاً عليها. أصوات الطائرات والقذائف ترعب الصبايا. تنظرن إلى السماء. السماء تغيّرت، صارت جحيماً من فوق. سيارة لنقل الأطفال الجرحى المتكدسين. الطريق مقفلة بالقنابل والقصف. النزف يستمر، هناك من لفظ أنفاسه. وهناك من تخلى عن جسده ومات. الأنقاض حارسة الأجساد. بل معتقلة الشهداء. الهلال الأحمر منهك. مطارد. الأطباء والممرضون والمسعفون يُقتلون. الإعلام يستشهد.
شعب الجبارين هذا، معجزة بالتمام والكمال. عندما أقيس قامتي الروحية والفكرية بقامة هؤلاء، أخجل من نفسي ولغتي ومواقفي. أنا أخف من هواء. الثقل الوجودي الحي، هو في هؤلاء الذين أصابوا السماء كلها، بتمسكهم بالأرض التي هي أمهم ودينهم وإلههم.
ما يؤلمني أكثر، هو الموت السريع. الدفن الفوضوي. الجثث الملفوفة بالبياض. المدافن الملقاة على أرصفة الشوارع في باحات التراب في كل سطح. أكثر من ثمانية وعشرين ألف شهيد. حوالي سبعة آلاف مفقود معظمهم من الشهداء تحت الأنقاض والركام. يا إلهي من يستطيع أن يلم الدموع ويحفظ البكاء لخمسة وثلاثين ألف شهيد وشهيدة.
أيها العالم العفن. لن تنسينا ملحمة غزة. آلامها مكرسة ومقدسة ومكدسة في أرواحنا ولغتنا. هؤلاء أنبياء الفداء. رسل العطاء. وجودنا الناصع. هؤلاء، شهود الإبادة بل الإبادات. شهودٌ على موت الضمير نهائياً، في دول وحكومات العالم.
التحية ودموع الفرح لأولئك الذين مزّقوا صمت الحكومات، ورفعوا قبضاتهم وأصواتهم. أكثر من نصف الشعوب، لا تعرف غزة، ولم تسمع بحماس. تعرف القضية، من خلال الهمجية الإسرائيلية وخدّامها الدوليين.
من يصف لنا الخراب؟ من سيحصي الشهداء؟ من يكفكف الدموع؟ من يحصي الدماء؟ من يضمد عشرات آلاف الجراح؟
أسألكم: هل لديكم أخوة؟ هل لديكم أمهات؟ هل عندكم أقارب؟
أخيراً، من سيكتب ويُخلّد الحرب على غزة؟
الشعراء، الأدباء، الفنانون، المبدعون أمامهم واجب مقدس، غزة تستحق أن يُخلّدها كتاب وشعراء ومسرحيون وفنانون و..
علينا ألا نركن إلى نعاس الذاكرة، إلى سهولة النسيان، إلى خطيئة التحلي بالصر. مذاق هذا الزمن تراب ودم.
كي لا يفاجئنا النسيان، علينا أن نبدأ من الآن. ولتكن الفصول الأربعة مهداة إلى فلسطين. ولا تتركونا مشردين، نرصف الكلام. علينا أن نُصرَّ على التحديق دائماً بالمستحيل.
علينا أن نرفع شعاراً وجودياً: “ما زلنا أحياء وسنحرس الحياة بالعطاء والحرية والفداء”.
هل هذا مستحيل؟
ليت لا.