قبيل الظهر، يومياً، ندخل القاعة فنتخذ مقاعدنا متجاورين ويظل هو واقفا، وفي حين ننهمك في مناقشات مهنية ذات ظلال سياسية أو بالعكس، فإنه يظل صامتاً، مهيباً، يحملق فينا ويحضنا على الوصول إلى خلاصات وإلى خطة عمل أكثر جدية وأكثر حيوية وأكثر اتصالاً بهموم الناس ومطامحهم وشوقهم إلى تحقيق إنسانيتهم.
لا يقول »ناجي«، الذي يستقبلنا بشيء من العتب، ظهر كل يوم، ولكن نظراته الثابتة إلى الأفق المفتوح تختزن الكثير من العتاب: هل سقطتم، أنتم أيضاً، في الشباك؟! هل تهتم في التفاصيل عن أساس القضية؟!
هو كذلك دائماً: لا يعجبه أحد أو شيء ويطلب الكمال أوالاندفاع حتى النهاية!
هو كذلك دائما: يستدير معطيا ظهره لهؤلاء الذين يضلون أو يضللون أنفسهم فينتقلون بالجهل أو بالغرض إلى جبهة »العدو«، ويمشي نحو فجر جديد يعرف أنه سيأتي ولكنه يحتاج إلى مَن يطلبه ويفيد من نوره لاختراق الظلمة نحو غده.
كان وجهه، كأي مقاتل، إلى العدو، يقاتله في وجهه،
ولأنه ساذج فقد كانت كلمة »العدو« تختزل كل معطلي الفجر أو الذين يحاولون إطفاء نوره بأفواههم أو بنفطهم أو بطائراتهم المغيرة على كل مصدر للنور والأكل.
يا خوي، والله العيب فينا، نحن لا نريد أن نرى أو أن نعرف فنصبح مطالبين بالعمل والمواجهة. والله اننا قادرون ولكننا لا نريد، ونظل نمشي وراء هؤلاء الدجالين من قياداتنا أو نصمت في قهر الجلادين من حكامنا، لأننا صرنا ميالين إلى الدعة والراحة، لا نريد أن نتعب. خليكو مرتاحين، يا خوي!
* * *
ماذا يفعل هذا الشايب هنا؟! أطلقوه حتى لا يحسب علينا رجلاً!
كان المعتقلون كثراً، ومن كل الأعمار، وقد جمعوا عند مدخل صيدا، قريبا من مصب الأولي، وفي فسحة ظليلة الشجر تتشكل كشبه جزيرة بين الماءين: النهر الآتي من قريب والبحر الذاهب إلى البعيد.
شقت الكلمات المدببة للضابط الإسرائيلي طريقها كالسكين في صدر »ناجي«، وشعر بعرق المهانة ينبثق غزيرا فيغطي جبينه ووجهه وتحت العنق وعلى امتداد الذراعين النحيلين، وفكر كيف يرد الإهانة لكنه لم يكن »فصيحا« بما فيه الكفاية، وخشي أن يتأتئ إن هو نطق فكظم غيظه وعقد ذراعيه خلف ظهره على طريقة »حنظلة«، وهو يصدع لأمر الجندي الفظ بأن »روخ إلى بيتك، واخد شايب خمار… يللا روخ«!
برغم مرور الأيام، المثقلة بالإهانات والحافلة بضروب الإذلال التي تعرض لها اللبنانيون والفلسطينيون (وسائر العرب) خلال الاجتياح الاسرائيلي للبنان في العام 1982 (وقبله وبعده)، فقد ظل وجه ناجي العلي ينقبض ويستحيل اكمداده سوادا كلما »عيّره« أحد ممازحا بأن جيش الاحتلال الإسرائيلي لم »يتكرّم« عليه ولو… بالاعتقال!
بعض أصدقائه الخبثاء كان يتهمه بأنه قد رشا »المقنع« وهو المخبر العميل الذي كان يرشد الإسرائيليين إلى من تبقى من »الفدائيين« أو الوطنيين عموماً المصنفين خطراً على الاحتلال وأمنه.
لكن، وبعد شيء من التفكير، اهتدى ناجي إلى تحليل منطقي مفاده ان الإسرائيليين أغبى مما يتصور العرب، فهم لا يعرفون من هو مصدر الخطر الحقيقي عليهم، وعلى احتلالهم استطرادا، وانهم يندفعون إلى مطاردة البنادق ويهملون الأفكار في حين أن الفكر هو الذي يربط الناس بقضاياهم وهو الذي يعزز إيمانهم بحقهم وبالتالي يبرّر حملهم السلاح دفاعا عن أرضهم وانتمائهم ومصيرهم.
لكن الحكام العرب كانوا من »الذكاء« بحيث »فهموا« خطر ناجي العلي، الذي لم يشرِّف أياً منهم بأن يرسم وجهه، ولكنه حين لخصهم جميعا في شكل واحد يتراوح بين البرميل والخنزير فقد أصاب الكل فانتبهوا إلى انه يعنيهم برميلا برميلا وخنزيرا خنزيرا و»قوادا« »قوادا« للاحتلال الإسرائيلي والهيمنة الأميركية كما للثري النفطي منتهك أعراضهم ومبادئ إيمانهم.
السذاجة جارحة في شفافيتها، وهي أقصر طريق إلى الحقيقة،
وربما لأن ناجي العلي كان خلاصة السذاجة فإنه كان يصل الى الناس مباشرة ويوصل إليهم ما يعجزون عن التعبير عنه أو ما يتعثرون وقد تتوه بهم الطريق وهم يحاولون.
لأنه ساذج فقد رأى في فلسطين كل العرب: الرجال والنساء والأطفال، المناضلين والمقموعين، الأرض الضائعة والثروة المضيعة، الأبطال الذين حولناهم إلى أصنام والأصنام الذين حولناهم إلى أبطال، ثم تلك الجموع الفقيرة والتي لا حدود لصبرها ولا لقدرتها على العطاء.
ولأنه ساذج فقد رأى. في إسرائيل أعداء العرب مجتمعين: الاحتلال، الاستيطان، القمع، الجوع، القهر، الطائفية، المحسوبية واستغلال النفوذ، وإنكار إنسانية المواطن وحقوقه الطبيعية في أرضه وفي التعبير عن نفسه بحرية، بما في ذلك حريته في الاستشهاد من أجل غد أفضل.
فالحاكم الفاسد »إسرائيلي« الهوى والمصلحة، وأجهزة القمع الداخلي إسرائيلية المهمة، واضطهاد المرأة يزيد من قوة إسرائيل في وجه مجتمع متصدع يفتقر إلى وحدة داخلية والى اعتراف بعناصره واحترام لإنسانية ناسه جميعا.
وفلسطين هي الوطن بالمطلق، الوطن العربي الكبير كما هي الوطن اللبناني والوطن المصري والوطن المغربي والوطن اليمني، أرضها كل الأرض العربية وإنسانها كل إنسان عربي، والعمل لتحريرها هو جهد لتحرير الانسان العربي من التبعية والظلم والقهر وانسحاق الشخصية تحت ضغط القمع الداخلي والهيمنة الخارجية (وهما متلازمان)..
السذاجة لا تحتاج إلى التعقيد والكلام الكثير: خط واحد، خطان، ربما ثلاثة تكفي لتخليص الوضع بتجريده ليعود إلى صيغته الأصلية الجارحة بصدقها والتي لا يحتاج إلى شرحها إلا من يريد تمييع القضية.
الأبيض أبيض والأسود أسود: فلسطين هي فلسطين وإسرائيل هي إسرائيل، السلام في ظل الاحتلال استسلام، الطائفية لا تحمي الأوطان بل تهدمها، هدر ثروة البلاد أو احتكارها أو التخلي عنها للمهيمن الخارجي لا يقل بدلالاته خيانة عن الصمت في مواجهة الظلم الداخلي…
»حنظلة« الذي لم يكشف وجهه إلا مرة واحدة فرحا بانتصار يتيم كان يقول كل ذلك بصمته، باستنكافه، بظهره، وبإصراره الدائم على النظر الى الأمام.
خط، خطان، ثلاثة خطوط وينتهي زمن الكلام،
رصاصة، رصاصتان، ثلاث رصاصات وتسقط الريشة،
لكن »حنظلة« يستمر في صمته المدوي يتوجه نحو الذي افترض انه إنما يقتل فلسطين في ناجي طالما أنه عجز عن قتل ناجي في فلسطين،
وهكذا صار »ناجي«، حقيقة، فلسطين، بعدما كان لاجئا خارجها، وصار »العربي« بعدما كان شريدا خارج دنياهم الفسيحة.
وناجي يشاركنا اجتماعات التحرير بصمته الذي يقول ما لا نجرؤ على قوله، ويتعجل أن يكبر »حنظلة« فينجز ما عجزنا عنه.
خط، خطان، ثلاثة، ويصل »حنظلة«.
»النبي« في بوسطن و»أنبياء« بيروت..
في بوسطن، وأمام واحدة من أعتق الكاتدرائيات فيها، التقينا مصادفة جبران خليل جبران.
أخذنا العجب بداية لما نحفظه عن مشكلة الكنيسة مع جبران، وقد حرمته، ثم لاهتمام تلك المدينة الأميركية »الأرستقراطية« بهذا الداعية للعدل الاجتماعي، والذي تحفل كتاباته المبكرة بنقد صارم للرأسمالية والرأسماليين يكاد يصل الى التحريض على الثورة الشعبية الشاملة.
ثم التفتنا بإعجاب الى الاطار البسيط الذي أعطي لتخليد ذكرى إقامة جبران في بوسطن، والمكان المبهج الذي اختير لهذه الغاية.
ففي الحديقة التي تسورها أشجار السنديان العريقة، وتتوسطها نافورة، وتتوزع في جنباتها المقاعد الجماعية، يلتقي مساء كل يوم مئات من الشبان والفتيات في الهواء الطلق، لكي يرقصوا على إيقاع معزوفات شائعة تؤديها فرق موسيقية »عابرة« أو من الهواة، ويستمتعوا بالصحبة والسمر في ضوء القمر أو تحت زخ المطر المباغت.
اللوحة بسيطة، شكلاً ومضموناً، تحمل رسما صغيرا لجبران وهو يتأبط تحفة إنتاجه، كتابه »النبي«، مع تعريف به: »خليل جبران، ولد في بشري بلبنان، وغاب بعد أن أعطى من فكره وقلمه ما ينفع الناس«.
إلى جانب التعريف جملة مختارة من كتابات جبران تفيد »بضرورة« أن تعطي الآخرين لأنك مهما أعطيت فإنك إنما تأخذ منهم أكثر«.
بقينا تحت المفاجأة اللطيفة زمنا، مقدرين لأهل تلك المدينة الأميركية العريقة (نسبيا، وليس بالقياس إلى عواصمنا العربية العتيقة عتق التاريخ) تقديرهم لكاتبنا العظيم الذي طالما لاقى الإهمال والاضطهاد والتجاهل في وطنه الأم، والذي لا يحظى حتى في أيامنا هذه بما يستحق من الاهتمام، والذي لا تسمع به أجيالنا الجديدة إلا عبر الصراع الموسمي على تشكيل لجنة تخليد جبران في بشري ورئاستها الفخرية.
ولأن بوسطن مدينة جامعية فسيحة الأرجاء، إضافة إلى كونها عاصمة المال والشركات الكبرى، ومركز ثقل أولئك المتحدرين من أصل ايرلندي (وبريطاني) والذين يعتبرون أنفسهم »الطائفة العظمى« في الولايات المتحدة الأميركية، فإن إقامة مثل هذا النصب التذكاري المتواضع في مركز تجمع الشباب يعني الكثير.
وتتباهى بوسطن بأنها »تستضيف« أكثر من ربع مليون طالب من مختلف الجنسيات، يتوزعون على جامعاتها العديدة (وبينها الأشهر أ. آي. تي، وهارفارد، وجامعة بوسطن) ومعاهدها المنتشرة في مختلف أنحائها، مع الاشارة الى انها تستقبل كل سنة 26 ألف طالب جديد.
ومع أن الحكم في بيروت قد تبدل مرات عدة، تارة بالثورة وطورا بالحرب، ونادرا بالديموقراطية اللبنانية ذائعة الصيت والتي غالبا ما تعززها وتؤكدها البندقية الطائفية، فإننا لم نجد حكومة واحدة، أو مسؤولاً واحدا تذكر جبران واهتم بتكريم نفسه عبر إحياء ذكراه.
ومع أن الجامعات في لبنان عديدة، بغض النظر عن جنسياتها وعن أهدافها المعلنة، فإننا لم نجد جامعة واحدة أعطت لهذا المبدع اللبناني الكبير ما يستحقه من مكانة وتقدير، يزيد من رصيدها ويسهم في تبرير دورها الثقافي، بالمعنى الوطني العربي للكلمة.
في بوسطن نصب تذكاري لجبران،
وفي واشنطن لوحة تخلد ذكرى جبران،
أما في لبنان فبالكاد تفادينا فتنة أثارها مجرد التفكير باستبدال اسم كان على المدينة الرياضية، لواحد من السياسيين المختلف على دورهم، بواحد آخر..
وشوارعنا الأساسية لا تحمل إلا أسماءرجال معظمهم لم يقرأ كتابا واحدا، ولم ينجز ما يمكن المفاخرة به، أقله على المستوى »التاريخي«، علما بأن كلاً منهم ينظر إلى نفسه فيرى أنه أهم من »نبي« جبران خليل جبران بما لا يقاس.
كيف يكون ثمة مستقبل لبلد فيها كل هذا العدد اللجب من أدعياء النبوة؟!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لا تعرف له مهنة إلا الحب:
للحب عينان نفاذتان. اشنه ليس بأعمى كما يصفه من لا يعرفه. المراهقة المتأخرة مثل المراهقة المبكرة تظل خارج نعيم الحب ولا يمكن نسبتها إليه. المحبون مبصرون، وهم يحمون بوعيهم حبهم حين يجعلونه المستقبل بما هو الارتقاء نحو الأفضل.
لا يتهم الحب بالعمى إلا ذلك المراهق الذي تفتنه النظرة الأولى فلا ينتبه إلى هدف النظرة الثانية.