التاريخ يقطر دماً. بشرية مدمنة على القتل. منذورة للتوحش. والغريب جداً، اننا لا نلتفت الى الماضي، إلا للتزود بعنفه.
العنف أصيل جداً. من زمان بعيد، وهو يحتل راهناً، يوميات الانسان، في كل مكان، حيث الدم سلعة لا أكثر.. برغم كل التوحش، لا تُذرف دمعة. يجلس المشاهد ليعرف، او ليبرهن على انحيازه، من خلال موقف مع هذا المعسكر القاتل، أو مع ذلك المعسكر المعادي- والعالم اليوم، منقسم. الدليل هو اصطفاف الاعلام العالمي والعربي والمحلي، والإقامة في هذا الخندق او في الخندق المعادي.
تحوّل الإعلام من نقل الخبر، الى تزويره. ما تقوله هذه، تنكره تلك. لا اعتبار للدماء، إلا إذا كانت تخصنا. دماء للعدو، نجاسة وكفر.. هذا هو العالم. وهكذا نحن، في هذه الادغال الالكترونية المنحازة الى معسكر موسكو، والى خصمه معسكر أوكرانيا التي قبلت ان تكون أراضيها ساحة معركة.
هذا كلام غير سياسي ابداً. السياسة تنافق. تزور. تبايع. تتبع. تفتن. ليست بحاجة الى ضمير وقيم. كل القوانين والمرجعيات الدولية، “سوبر ماركت” على امتداد الكرة الأرضية.
غريب، أن الإعلام العالمي، لا يعرف الشفقة.. أما الانسان، فهو خرقة، تمسح بها دموع التماسيح المسلحة بالقتل والإبادة.
قلما تنقل إلينا عاهرات الاعلام العالمي، البؤس الإنساني الحاف. الدم واحد. الجراح واحدة. البؤس واحد. الظلم واحد.. كل الجنود، من الطرفين، أدوات بيد قوى تقاتل بكبس الأزرار. من خلف جدران سميكة. يأمرون ويقتلون، وبلا أي حزن ابداً.
يتساوى المقتولون. من هنا ومن هناك. والحسرة للأمهات والعائلات .. من منهم يكفكف دمعاً.
الانحياز الى البربرية، بدعوى الواجب السياسي، او المصلحة الوطنية، او الاحترام الواجب للمواثيق، ليس سوى كذبة. حجج المعسكر الغربي، توازي الأسباب الروسية. هذا ينتهز وذاك يبتز. وأولئك يمسكون ذنب القافلة ويبذخون بكرم التسليم. هل كان بالإمكان تفادي الحرب؟ طبعاً انما من غير هذا العالم. هذا عالم يتقدم بسرعة الى مآسيه النهائية. البشرية في خطر. الدول النووية، تحتفظ بأزرار الفناء.
هذا الذي يحدث اليوم، ليس جديداً. في الحروب، علينا ان نحذف مسألة الحقوق. أحياناً، يكون الحق بائناً. ومع ذلك، تُشنُ عليه الحروب. وأصحاب الحقوق، يجازفون ويستبسلون، ويخسرون الدم والحقوق. من فاز في حروبه، كان زميلاً لعدوه. حتى الذين ساروا خلف الله، تسلحوا بالقتل، وليس بالآيات.
وكي لا يكون نصي من حبر فقط، أود ان أسأل من يتابع الإعلام الدولي والغربي والعربي. ألا تتعاطف مع الدماء، أياً كان نازفها؟ ألا ترى حجم المآسي العائلية! ألا تشعر بأن القاتل يقيم في قصوره بعيداً عن جبهة القتال؟ هل يستطيع أحد أن يُعلّمنا، كم زعيماً؛ قائداً؛ رئيساً.. “استشهد”. القادة يكرعون الويسكي والفودكا، والجنود يصوّبون ويصيبون من لم ولن يعرفوه. وأنه مثل عدوه، مساق، بعقيدة او مصلحة او قومية، الى نحر من يشبههه. عندي، في الحروب، الجنود، هنا وهناك، يتساوون، وهم ملزمون بالقتل وبالموت.
الخنادق والمواقع تملأها الجثث. يعوّضون أهل القتلى برتبة البطولة. رتبة رنانة تافهة. الشهيد، هو من يذهب بقرارة نفسه لينصر حقا بائناً، بعد فوات الحوار والحلول المتاحة.. الجنود براغٍ صمّاء، في حرب يُنفق عليها من الأموال، ما يُطعم قارة، ممهورة بالظلم والجوع والعوز والامراض.
الحرب قذرة. قذرة. قذرة. ويبدو ان لا مفر من هذا الطاعون.
هل كان الانسان همجياً منذ نشوئه. لا أحد يعرف. لم ينقل الينا شيء عن انسان ما قبل الاجتماع البشري. بدأ التاريخ الأسطوري مع آدم بدايات سحرية متخيلة. لا يهمنا ذلك، انه ضرب من التبصير. لكن، ما هو ثابت، ان الانسان الاجتماعي، كان انسان نزاع. الحاجات تُيسَّر بالقوة، وحراسة الممتلكات. انحياز الانسان الى مرتبة الارتقاء، كان هاجساً ملازماً باستمرار، عبر آلاف القرون، الى ان بلغ في القرن العشرين، مرتبة الجنون. ارتكب الإنسان حربين عالميتين، ونفذ حروباً سنوية على امتداد عمر البشرية.
والحروب، عقيدة ملازمة للإنسان. يذكي الحروب، الطمع، السطو، العنصرية، والكراهية. الحروب قاتلة ولا يربح فيها إلا الأقوياء بغيرهم. الحرب مصيدة أرباح، الإنسان وظّف الله عنده. صار جندياً مقاتلاً وآمراً في معارك متناسلة. الله، أسبغ على الحروب نعمة القداسة. ومن سفاهة التاريخ، ان أطلق على الفائز بالقتل، صفة البطولة. القاتل بطل. أمر فظيع. أليس كذلك؟ أمر مستنكر، ان يُكرّم المجرم وتُقدَّس الهمجية، وابادة الاجناس، واحراق المدن، وتشييع الملايين، خلف ملايين دهرية، وبناء “حضارات” مفترسة، إلهها الرأسمال، وعقيدتها النهب وأفقها المزيد من البطر والمزيد من الخراب الوجودي. انسان اليوم مجرد رقم.
هل للبنان، راهناً، علاقة بما جاء أعلاه؟
لم يكن متوقعاً، ان يكون لبنان الكبير، بهذا الصغر الجغرافي والسكاني. إلا انه رسا على قواعد رجراجة. كلما زاح طرف عن الزيح، يرتج الكيان. الحكم سام ومسموم. قادته يتعاطون مع الشعب كرعيان. الأعداء جداً، يتسامرون سياسياً، ثم يتقاتلون ميدانيا. والضحايا، قتلى منسيين حتى من أهلهم. قتلى ومخطوفو لبنان في حروبه، مجهولون. وحدهم القتلة معروفون ومباركون وأزليون.
ليست الحروب وحدها ضد الانسان، بيد الانسان نفسه. التسلط الدائم، الاستعباد، القمع، الاعتقال، الاعتداء، سرقة عرق الانسان وعمله، التعاطي معه كخرقة أو “شحاطة”، تحويله الى سلعة، الخ.. أليس هذا هو الانسان العربي، واللبناني أيضاً، الذي ظنّ انه كائن حر، ولكنه مقيد بالتبعية. لا توظيف إلا بسفك كرامته على أبواب المتسلطين التافهين، المدعومين من مرجعيات دينية متسلسلة، بفجور واضح وبلا خجل. اليس لذلك كله، قامت انتفاضة، ثم اسكنتها وبدّدتها زعامات، تُباس اياديها وتدعى عليها بالكسر؟
العسكريتاريا تحول الاسنان الى فوهة بندقية، او الى هدف للبندقية. لبنان، حوّل الانسان الى سلعة. غضبه مشوش وغير هادف. صراخه بات عواءً. كرامته معلقة في سيلة زعيم. أفدح ما أصيب به اللبناني، انه يتسول ماله، رصيده، ثمن تعبه. لم يكن الأبناء الطيبون يتوقعون ان يروا آباءهم مطأطئي الرؤوس، على عتبات مصرف. الأب يتسول عرق جبينه الثمين. كأن شيئاً فيه قد مات. بل، موته يسير معه. انه موت في كل الجهات. يعيش موته اليابس. يتنفس ألماً ويذرف نومه دموعاً. فقد قبضته. انه ميت يسير على قدميه. انطفأ. ما حوله موت بمساحة شعب.
آخرة القمع والاضطهاد والاستلاب واللا جدوى، هي الاستسلام. الحرية، المساواة، الديمقراطية، التنمية، العدالة، الحقوق، الحرية.. الى آخره، كذبة بلقاء. لنعترف بذنبنا، ولنجرؤ على تمزيق الوهم. الحقيقة بعيدة المنال. الانسان اللبناني غير موجود، إلا لدى قلة طيبة ومرذولة وممنوعة.
بعد كل هذا الطواف، وبعد بلوغ ما دون الهاوية، علينا ان نعترف بأن خيانة هذا المسار فضيلة نضالية.
فلتكن الخيانة شعارنا. من لا يخون هذا الواقع، مساهم في تأييده، انسانياً ولبنانياً.
كي يعود لبنان الى اللبنانيين، عليهم ان يصرخوا. لكن حناجرهم اعتادت على “النعم”. والبشرية كلها، بانتظار استعادة الانسان، ومواجهته قوى المال والأديان والعصبيات.
متى يتغير هذا العالم؟
مستحيل.