قبل قرن من الزمان، جاء الاستعمار الغربي، ممثلاً ببريطانيا العظمى وفرنسا إلى المشرق العربي فتقاسمتا أقطاره وفق معاهدة سايكس ـ بيكو، باعتبارهما المنتصرين في الحرب العالمية الأولى: لبنان وسوريا (التي اقتطعت منها الضفة الشرقية امارة للأمير عبدالله ابن الشريف حسين الهاشمي)، في حين أبقيت فلسطين ومعها الاردن والعراق لبريطانيا.. علما بأن اللورد بلفور كان قد أعطى “وعده” للحركة الصهيونية بقيادة هرتزل بأن تكون فلسطين هي “ارض الميعاد” وبالتالي “الوطن القومي ليهود العالم”..
اليوم، وبعد قرن من الزمان، ها هي المنطقة قد فقدت اسمها الاصلي “المشرق العربي” وبات لها اسم جديد يلغي هويتها العربية، فجعلها “الشرق الاوسط”، بعدما تلقى الكيان الاسرائيلي من الدعم المفتوح بالرجال والسلاح والمال ما جعلها الدولة الاقوى عسكريا واقتصادياً من مجموع الدول العربية المحيطة بها.
ثم أن “دولة اسرائيل” التي اقيمت بالاحتلال البريطاني والاعتداءات المفتوحة، على مصر خاصة (في العام 1954)، ثم خلال العدوان الثلاثي مع بريطانيا وفرنسا (في العام 1956) ثم خلال حرب 5 حزيران (يونيه) 1967 على مصر وسوريا، ثم خلال حرب رمضان (6 تشرين الاول 1973)، ودائما على مصر وسوريا.. هذه الدولة العادية والمستعدية نجحت ـ بالضغط الاميركي المفتوح ـ في استدراج بعض العرب إلى معاهدة صلح مفتوح مع مصر انور السادات في كامب ديفيد وتحت رعاية الرئيس الاميركي جيمي كارتر في 17 ايلول (سبتمبر) عام 1978.. ثم تبعها ملك الاردن الذي كان السباق دائماً إلى مثل هذه “الانجازات”.
ها هي اسرائيل “امبراطورية الشرق الاوسط” يطوف رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو في ارجائها من ادناها (الاردن) إلى اقصاها (سلطنة عُمان) مع محطة بين الحين والآخر في القاهرة، وعلاقات شبه علنية مع المغرب، وتصفية تدريجية للقضية المقدسة، فلسطين، عبر مخادعات ومناورات حولت “السلطة الفلسطينية” إلى هيكل فارغ لا شيء فيه الا قوة خاصة في الضفة الغربية لقمع المعترضين على إضاعة وطنهم والتسليم بالاحتلال الاسرائيلي كقدر..
..وها هي الولايات المتحدة الاميركية بقيادة دونالد ترامب تروج لصفقة القرن التي تستهدف، أولاً، تصفية القضية الفلسطينية ومن ثم إعادة رسم خريطة هذه المنطقة العربية بما يلائم المخطط الاميركي الصهيوني لإخضاع العرب، جميعاً للهيمنة الاسرائيلية بالغطاء الاميركي.
الكل الآن يتحدث عن “صفقة القرن”، ابطالها وضحاياها:
فأما دونالد ترامب الذي “تشّرف” بأنه كان الأول في الاشارة اليها، فانه يتباهى بأنه انما يكتب “التاريخ العالمي الجديد”، بدءا من ارض الانبياء: الشرق الاوسط..
وأما نتنياهو فعاجز عن اخفاء سعادته بهذه الشراكة التاريخية مع “رئيس الكون” في تقاسم “العالم القديم” وإعادة بعث هيكل سليمان في اورشليم.. الجديدة.
وأما الدول العربية فتتوزع بين “متواطئ” ومساند لمشروع “الشرق الاوسط الجديد”، واما صامتة بالعجز، وأما قلقة على مصيرها بعد هذه المؤامرة الدولية الخطيرة.
ذلك أن الدول العربية تتوزع بين ثلاثة انواع:
1 ـ فقيرة يجبرها فقرها على الصمت، وتعجز نتيجة له عن اتخاذ موقف، لا سيما الموقف المطلوب من “الاشقاء الاغنياء” فكيف بـ”سيد الكون”.
2 ـ غنية أكثر مما يجب، لكن ثروتها الاسطورية مرتهنة للأجنبي، وهو الاميركي اساسا، المتحكم بأسعار النفط، وصاحب الاساطيل الحربية التي تجوب البحار، والطيران الحربي الذي يغطي الآفاق بكثافة ملفته، يهدد من يرى فيه خطراً على استقرار هذه المنطقة الاستراتيجية (إيران) على وجه التحديد، ويحذر تركيا من استعادة امجاد السلطنة، ويشتري صمت دول الجزيرة والخليج بقواعده فيها وبقدرته على اللعب بعوامل استقرارها بدءاً بالنفط، مروراً “بالخطر الايراني” وانتهاء بقدرته على التحكم بأسعار النفط.
3 ـ متحررة بحدود، تحاول بناء اسباب قوتها عبر الافادة من التناقضات الحتمية القائمة بين المعسكر الغربي بالقيادة الاميركية وبين روسيا ومعها الصين وبعض دول “عدم الانحياز” الثابتة على عهدها، وبينها دول اميركا اللاتينية وبعض الدول العربية المهددة في استقرارها (الجزائر، سوريا والسودان وحتى تونس الخ..)
فأما الدول الفقيرة فأعجز من أن تعترض، علماً أن اعتراضاتها لا تغير في واقع الامر شيئاً..
وأما الدول الغنية بالنفط والغاز فهي لا تملك قرارها، لأن اسعار نفطها او غازها ليست في يدها بل هي تخضع لقرار الدول الكبرى بالعنوان الاميركي، مع استثناءات محدودة خاصة بالصين واليابان وبعض دول شرقي اسيا.
وهكذا يظل القرار الاميركي هو المهيمن على اسعار النفط والغاز، وبالتالي على اقتصاد دول الخليج العربي (السعودية والامارات وقطر) وان استمرت إيران خارج هذا “الكارتل”، تخضع لحصار شديد من قبل الولايات المتحدة الاميركية ومن معها من الدول الخاضعة لنفوذها، بل املاءاتها.
إن “صفقة القرن” تعني أن الاستعمار الجديد بقيادة الولايات المتحدة الاميركية ومعها اسرائيل يتقدم في اتجاه السيطرة الكاملة على منطقة “الشرق الاوسط”، بعد استرضاء مصر بحل جزئي للموضوع الفلسطيني بعنوان غزة، و”التفاهم” مع تركيا وروسيا على وجود عسكري محدد في سوريا، وتوظيف التحرش الاسرائيلي (المحدود، حتى الساعة) بلبنان.
لقد حاولت واشنطن تحييد القاهرة، عبر القروض والمساعدات والمساهمة في “حل” مجتزأ ومحدود لقضية فلسطين عبر إعطاء غزة وبعض النقب وبعض الضفة الغربية لكيان فلسطين أعزل ومحاصر بالقوة الاسرائيلية من جهاته جميعاً وخاضع لأسر الولايات المتحدة الاميركية التي تتكفل بأسباب معيشته بالقروض والهبات والمساعدة اللاغية “استقلاله”..
ثم أن سوريا محاصرة بالحرب فيها وعليها وقدرتها على الاعتراض محدودة..
فأما العراق فان القوات الاميركية (والحليفة) ما تزال فيه، تحتل بعض انحائه، وتجتهد في توظيف “السنة” ضد “الهيمنة الايرانية” وتحرض ـ بالمقابل ـ الشيعة على تعويض استبعادهم عن السلطة طوال ثمانين عاماً من الحكم الملكي و”الهيمنة السنية” للحفاظ على جمر الفتنة في ارض الرافدين..
في تقدير واشنطن أن دول المشرق العربي فئتان:
ـ الأولى ضالعة في المؤامرة ومتواطئة لتحمي بالسلاح الاميركي (والاسرائيلي) ثرواتها بعيداً عن الطامعين من “الاخوة الفقراء”.
ـ والثانية عاجزة عن وقف الخطة، لا تملك غير بيانات الشجب وتصريحات الغضب التي يذهب ضجيجها قبل ساعات الصباح..
وأما دول الغرب (بريطانيا وفرنسا اساسا) فهي في موقع الشريك بالاضطرار، وبالتالي فموقفها ضعيف، بحيث انها ترضى بما يقسم لها من “الحصة”.
وأما دول الشرق الشيوعي (سابقا) أي روسيا والصين فلا تملك خيار الرفض، بل هي سترضى بما تتنازل عنه الولايات المتحدة من تفاصيل صفقة القرن لتكون حصتها..
لقد شطبت الولايات المتحدة “العرب” من التاريخ، واعتبرت ارضهم مفتوحة امام احتلالها او تدخلها او هيمنتها..
وها هي ترتب قواعد شراكتها مع الكيان الاسرائيلي لإعلان قيام “الشرق الاوسط الجديد” في “صفقة القرن” التي يزهو الرئيس الاميركي ـ الطاووس دونالد ترامب بإعلان المباشرة بتنفيذها..
ولعل في الجزائر والسودان بدايات لتاريخ عربي جديد يقبر “صفقة القرن” في مهدها، ايذانا بانبلاج فجر الغد العربي الموعود.
تنشر بالتزامن مع جريدتي “الشروق” المصرية و”القدس” الفلسطينية