رسالة إلى حلم بحاجة إلى لغة: نحن في ضيافة القتلة. الموت كالمطر. الموت ينام في عيوننا. ننتظر السماء. الرصاص غزير ونؤمن بطهارة دمنا، وأننا ما زلنا أحياء جداً. لن نصل أبداً إلى الخطوة الأخيرة. أفدح ما عرفناه، أن الخيانات صارت شعاراً. سأتلو عليك أيها الحلم، المسلسل الدائم للارتكاب.
نُطمئنك أن الألم احتفال يومي بالدموع والأنين. عيون الشهداء الأطفال آيات لإيقاظ الضمائر. خانتنا الضمائر. “إسرائيل” ترفع شعاراتها الكاذبة. مؤسف ومؤلم وحقارة، أن يصبح الإعلام، حذاء في صبابيط القتلة. إنها تمحو جرائمها بجرائم أكثر فداحة. يستقبلها ساسة الغرب كهدية. وعليه، صرنا نكره اللغة. فإياك أن تتلفظ أمامنا بكلمة “الضمير”.
أيها الحلم المنتظر في صبر الآلام الفلسطينية، لا تستمع إلى منظومة الحقوق الببغائية. “حقوق الإنسان”. إنسَ. هذا قتل على الملأ. “حقوق الإنسان”: ورقة توت لسد عورة القتل والإبادة. إياك أن تصدق “العدالة الدولية”. إنها سوق نخاسة. الأمم المتحدة: حظيرة حيوانات سافلة. “الديموقراطيات” الغربية: كارثة من نفاق وعهر. “المحكمة الدولية”: اتهام البريء وإلباسه الجرائم. “العدالة”: إياك أن تصدق أي حرف من حروفها. هناك أمر سائد: القتل الدولي. “السلام”: براءة سياسية للقتل المستدام، كأن السلام، كي يحظر ذات زمن، بحاجة إلى طريق معبدة بالدماء. “التنمية”: إخرس. هذه معركة صامتة بهدف النهب والسيطرة. “القروض”: هي قيود لتكبيل المستقبل وإهدائه راهناً إلى اضبارات المؤسسات المانحة بشروط السلاسل: “الحرية”: إخرس قليلا: الحرية محروسة بدكتاتوريات عالمية ومحلية. “الاستقلال”: الأمر ليس لك. لا تدّعي أبداً بأنك حرّ. حريتك مشوهة. “النظام الدولي”: فبركة حروب. عدد الحروب راهناً، 43 حرباً. القرن العشرون، لم يعرف عاماً واحداً، بلا حروب المنظمات وأخواتها من الـ NJO، يا حرام. هذا حصرم رأيته في حلب، يقطر عهراً.
عُد أيها الحلم إلى مناماتك. نحن نقرأ العالم بدمنا وجراحنا. لسنا أغبياء ولا ضعفاء. غزة الصغرى جداً، الممنوعة دائماً، تقتات من شهدائها، وهم عند شعبهم يرزقون. إننا نقرأ العالم كما هو:
فضحت غزة أناقة ونظافة ورهافة وأزياء أنظمة الإملاء الغربي. تسلّلت إلى المخادع العربية. شعوب ممنوعة عن الكلام، عن الإشارة، عن لبس الكوفية الفلسطينية، عما يجري في ميادين المواجهة. مدنٌ عربيةٌ معتقلةٌ ومقفلةٌ أفواه شعبها. مدنٌ عربيةٌ بأداء عبري قهري. لا غناء البتة. “يا قدس”: صلاة فيروز ممنوعة… “جسر العودة”: صار باتجاه الخارج. “عيده العيد برشاش”: ممنوع الاستماع إلى إيقاع الرصاص. القرار الأممي: اتركوا غزة لتنال عقوبتها. لا تستعمل كثيراً لفظة الأرض لا تأت على ذكر السلاح. لا توقظ حنجرتك لتقول: “بلادي. بلادي. بلادي… لك حبي وفؤادي”. اخرس. ادخل إلى رحابة الإقامة داخل سياج الممنوعات، وعليه، خذ القاموس، واحذف منه كل ما له علاقة بالحب والكرامة والبسالة والحقائق والجمال. داوم على العبارات التي تتصدرها الفاتحة: “إياك ثم إياك”.. وإلا..
أيها الحلم، أنت خلاصنا. لك ماض صادق. منذ اندلاع الحقد الصهيوني، وانزياح الدول الديموقراطية عن “الشرعة الدولية”، واختراع اللصوصية الأنيقة والعصا الغليظة، وفلسطين تنفق من دمها كي لا تنحني، وتصير أرضاً من يباب، وأمامنا علامة استفهام عن غد معتقل بالعنف.
لم نكن جبناء. لم نستسلم أبداً. ارتكبنا أخطاء بحقنا. الأعداء الكثر، مارسوا الفتك، علماً، أننا تاريخياً، كنا فسحة من أرض احتضنت أدياناً وشعراً وأدباً وآلهة ورسلاً وحضارة… لم نتسوّل أبداً. يدنا ممدودة للبناء والحرية. قطعوها مراراً. إنما، كل يد في ما بعد أطلقت عنفها كي تستعيد حياتها. حياتها فقط. ففلسطين، لم تعتدِ على أحد. هل أعد الاعتداءات الغربية؟ يصعب ذلك. الغرب “المثالي” و”الحثالي” أفلت وحوشه واحتل بلاداً من المشرق إلى المغرب.. نحن لم نوجه لطمة صغيرة، لأي دولة من الغرب الاستعماري البشع والحاقد… والله، لم نصفع أحداً بلطمة. عندما انتهت الحرب العالمية الأولى، شنّت دول الغرب ببراثنها حرب إبادة سياسية وقومية واجتماعية. عاملونا بالرسن. شدّوه على رقابنا… والأكثر فجوراً، كانوا يرتكبون الجرائم والحرائق والإبادات، ونعاقب لأننا لم نشكرهم على ارتكابهم.
الغرب هذا، أنيق جداً، وبربري حتى الرمق الأخير. أصحاب الكرافاتات والعطور، أقذر خلق العالم. حاول المتعطشون إلى الحرية أن ينتظموا في قوافل القرن العشرين. قيل لهم: ممنوع. قفوا في الصف. أطيعوا تسلموا. ثم: فلتكن “إسرائيل” بديلاً عن فلسطين. “إسرائيل” وُلدت من البطن الغربي الاستعماري. وسأتجرأ أكثر: الدول والكيانات، تم رسمها بسكاكين الغرب. لكل جزّار حصته. تقاسمونا وحرّضونا على بعضنا. فرنسا مُرتكبة مجازر ومُذلة شعوب. يكفي ما اقترفته في الجزائر.. وحتى الآن لم تعتذر. بريطانيا، “فطحل” الاستعمار والإبادات. مملكة صغيرة، احتلت الهند الكبرى. الجزيرة الصغيرة وصلت إلى المحيطات. ارتكبت إبادات. مارست قانون العقوبات بسبب براءتنا. كنا نطالب بالوجود العادي. الحر. الكريم… ممنوع. عليك أن تجيد الإملاء… وها نحن في بلادنا العربية، نتقن فن الإملاء. الإنشاء رجس سياسي فاجتنبوه…
وعليه، فإن العالم في معظمه محتل، وأسوأ الاحتلالات، تلك التي أجلت شعبنا من فلسطين، وأقامت منصة عنف، و”ما على المقيمين إلا الطاعة… وإلا”.
هذا نص معتم جداً. أليس كذلك؟
هذا نص يفرض على العاقل أن لا يرتكب أبداً التشاؤم. شاهدنا سطوع شمس من الغرب. عادة، تشرق الشمس في الشرق. الغرب فتح هذه المرة لشعوبه أبواب الحياة والحرية والإنسانية. كانت المعجزة مذهلة. كانت مفاجأة سريعة. شعوب البلاد الغربية، صارت فلسطينية، صوتا وموقفا وغناء وصراخاً وصداماً و.. كوفية. آلاف. عشرات الآلاف… وقيل ملايين. يا الله… كم ان الشعراء الذين في كل واد يهيمون صادقون: “حاصر حصارك لا مفر… اضرب عدوك لا مفر”، إلى آخر الملحمة الإنسانية.
إلا أنني أصاب بدوار حقيقي. أتساءل أيها الحلم، لماذا تخلت الأديان عن فلسطين. فلسطين الحاملة من إرث الألوهة تاريخاً جليلا وجميلا… عيب وألف عيب. انما نقول: “معليش”. لقد انكشفوا. ولا أوفر دينا او طائفة او مذهباً… الذين امتشقوا أجسادهم في العالم، بطرحتهم الفلسطينية، وقبضاتهم العارية وبؤسهم المثالي. وصرخوا حتى بلغت أناشيدهم آذان الله وملائكته. لقد كانوا المصابيح المضاءة، في عتمة التوحش الدولي.
المؤسف أكثر، وقد اعتدنا عليه، هذا الانقسام الإسلامي الحاد. بين سنة وشيعة. يا إلهي. أين أنت؟ انهم يدرون ما يفعلون، وما يفعلونه لا يجد طريقه إلى نص أو إلى آية… إنهم بكل أسف في كل واد يهيمون. أما الفاتيكان، فلا أعرف أنه قد تعرف إلى فلسطين. أشعر انه على قرابة وثيقة بالإبراهيمية، وفهمكم كفاية.
هل أنا متفائل؟
جداً. جداً. جداً، برغم السيرة الدامية والأطفال المطعونة والأمهات الثكلى، والأرض الإلهية… ثمة جرأة على امتشاق الأمل. غداً، وبعد غد… ولو طال الزمن.
أختم هذا النص أيها الحلم، بشعر لجورج شحاده:
“على قدمي الصليب
عندما الظل يضيء نجوم السماء
أيتها النساء الملائكيات المتشحات بالسواد
أثقبن قلوبكم بإصبعكن”.
سأظل أبحث عن ثقب أصيبه بروحي.