»قصر القنطاري«..
تأخر الموعد أربعين عاماً، على وجه التقريب.. ويوم أن تيسر لنا الدخول إلى حرمه الذي كان محرماً، تسللنا إليه، مع الليل من باب الخدم او الحرس او زوار الخلسة.
كنت في بداياتي مع مهنة الصحافة. وكانت مجلة »الحوادث« الحديثة الصدور والتي جاءت بي المصادفات إلى العمل فيها، تقبع في شقة من عمارة تقع بين القصرين: قصر هنري فرعون، والقصر الجمهوري آنذاك »القنطاري«، الذي مارس منه كميل شمعون الحكم بعد »خلع« سلفه ورئيس كتلته الدستورية من سدة رئاسة الجمهورية: الشيخ بشارة الخوري.
كانت غيوم النقمة والاعتراض تتكاثف في جو البلاد، آنذاك (في العام 1957)، وحين هبت عليها عاصفة الانتخابات النيابية بعد تقطيع الدوائر استنسابياً بحيث يمتنع الفوز على اقطاب المعارضة (صائب سلام، احمد الاسعد، كمال جنبلاط الخ)، بات الانفجار متوقعاً في اي لحظة.
ذات صباح من أيار 1958 اغتيل شهيد الصحافة وأحد انصع اقلام الحركة الشعبية نسيب المتني (صاحب جريدة التلغراف ومحررها).
كانت تلك الرصاصة الاولى، وبعدها انهمر الرصاص غزيراً فغطى لبنان بنيران حرب أهلية امتدت حتى رحيل كميل شمعون في خريف 1958.
انقسم اللبنانيون حزبين كبيرين لكل منهما جذره الطائفي: الاول غربي يتخذ من كميل شمعون، الذي اضفُيت عليه هالة البطولة، رمزاً وقيادة، والثاني عربي يرى في جمال عبد الناصر قائداً للأمة ويطالب بأن ينسجم الحكم في لبنان مع السياسة التحررية المعتمدة والتي كانت قد اثمرت أول دولة للوحدة العربية: الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا).
صار قصر القنطاري في نظر الحزب الاول »حصن الصمود« في وجه التيار القومي، وأكسبته الحدة الطائفية شيئاً من »القداسة«، ورُويت عنه وعن شاغله الأساطير، وبينها ان كميل شمعون كان يصعد ومعه بندقيته إلى السطح فيطلق النار على مهاجميه (المزعومين) ويردهم مدحورين!.
أما بالنسبة إلى الحزب »العربي« فقد صار القصر مقراً للشر وولادة للفتنة، وإن كان لم يخطر ببال احد التفكير باقتحامه، ولا سيما ان الجيش بقيادة فؤاد شهاب كان قد اتخذ موقفاً معتدلاً: مع »الشرعية« حتى انتهاء ولاية شمعون، ومع المعارضة في منع التجديد له.. (وهو موقف اوصل اللواء الحكيم إلى الرئاسة في أيلول من ذلك العام).
أما أنا فقد كنت المتضرر الاكبر من »جيرة« القنطاري.
كنت وقد خلت »الحوادث« من صاحبها ومحرريها، باستثناء زميلنا الكبير شفيق الحوت، مكلفاً بكتابة ثلث صفحاتها وتصحيح جميع الصفحات، والإشراف على التركيب والطباعة في مطبعة دار الغد في الخندق الغميق.
وكان عليّ ان اقطع الطريق، مشياً على الأقدام، مرتين او ثلاثاً يومياً، وأحياناً في الليل.
كانت حواجز »الثوار« تنتهي بواحد عند الباشورة، وآخر في أعلى الخندق الغميق، أما حواجز الجيش فتمتد بين ساحة رياض الصلح والسراي ومحيط قصر القنطاري.
»قف! من انت؟ تقدم مرفوع اليدين. أهذا أنت؟ عجل، اركض، هيا«.
وسط الاشباح التي يستولدها الخوف وغموض الوضع، كانت اسطورة شمعون الواقف على سطح قصره بالبندقية لتصيد خصومه، تتمدد وتنتشر.. فلما جاء صوت الرصاص من جهة القنطاري صاح احد مناصريه عند حاجز الجيش: »يعيش فخامة الرئيس القناص. هكذا تكون الرجال«، ثم اطلق زخة من رصاص بندقيته في الهواء، فوق رأسي أنا العائد منهكاً لكي انام على كرسيين متقاربين في المكتب شبه المهجور.
قلت في سري: غداً سنأخذ قصر القنطاري، وربما سنجعل من أقبيته سجناً لهؤلاء الذين يقاتلون ضد التاريخ.
***
مع الليل دخلنا من باب جانبي، واجتزنا الحديقة الخربة التي تتنزه فيها الجرذان والخفافيش والقطط التي لا بيوت تؤويها.
سار امامنا دليل إلى ذلك القبو الذي صار استديو للتصوير التلفزيوني.
كان التاريخ قد انسحب كلية من المكان، ولم يتبق منه اي أثر.
المكان لا يصنع التاريخ. الناس يعطون الأمكنة تاريخها، ويعطون التاريخ مساره.
جلسنا تحت الضوء، في قلب البرد ونثار الدهان الجديد والهواء المضغوط، نثرثر ونستذكر الايام الخوالي.
قمت فتجولت في بعض اجنحته فلم ألمح اي طيف لا لبشارة الخوري ولا لكميل شمعون.
وحين خرجنا انتبهت الى ان سطح القصر من القرميد، فسقط عليّ السؤال كنكتة قديمة: أين، اذاً، كان يقف الرئيس القناص وهو يطلق رصاصه الشجاع على المهاجمين الموهومين من ثوار ذلك الزمان؟
وابتعدنا عن بيت الاشباح الذي غدا مثل ارملة شمطاء ذهب عنها جمالها وانفض عنها ذووها والناس بعد رحيل »سيدها« سيدهم، صاحب الجاه والسلطان، يتجنبها الجميع وينكرها اقربهم نسباً فيتبرأون منها.
ليسقط القنطاري! لتعش سوليدير!.
اللعبة.. والحواس
لم يتبدد الشعور بأنك أمام تمثال حتى عندما نَطَقَتْ..
قلت: لعلها واحدة من »الألعاب« الجديدة التي حرمها المشايخ في ايران واستمتع بها غيرهم في انحاء عديدة من العالم!
جلست فصارت تمثالاً للمرأة الجالسة.
التفتت، فدرت ابحث عن زر التوجيه.
كانت الملامح قد اختفت تحت اثقال الماكياج الذي حوَّر شكل العينين، والحاجبين والاهداب، ولعله بدل لون الحدقتين، وأخفى ثغرة الذقن وخفف اثر الغمازتين ومد العنق المكشوف بشيء من الطول الوهمي.
العطر نفاذ، لكنه لا يبعث الحياة في الشعر المسرح بعناية ليكمل اللوحة المشغولة بعناية لتأتي مطابقة للموديل المقصود.
افلتت خصلة واحدة من قيد الانضباط المفروض فإذا باليد البوليسية تعيدها إلى موقعها بقسوة.
بين فينة واخرى، كانت يمناها تمتد بحركة شبه آلية لتشد طرف التنورة القصيرة. كانت توحي بأنها تريد ان تحجب ما لبست له هذه التنورة بالذات لكي يظهر: ترى هل هذا لحم طبيعي أم بعض الشمع المقوى؟
جاءت الكلمات منضبطة، متوالية، تؤلف جملاً مفيدة ولكنها تصطدم بجدار الأذن فتجرحه وتتهاوى خارجها.
وقف التمثال فوقفت. مدت يدها فمددت يدي. افترت الشفتان عن ابتسامة بلاستيكية فوجدت نفسي اقلدها. مشيت كقطار فوق قضيبين فاتبعت الخط حتى محطة المصعد.. وحين هبط ظلها فغاب عن عيني وجدتني اهز رأسي بعنف، فيتساقط مني الكثير من الغبار والكلس والتراب والعفن.
ودخلت فغسلت رأسي وعيني ثم تقافزت ومشيت على يدي شاكراً لله نعمته على سلامة الحواس.
خارج كتاب »الحرير«.. داخل الشرنقة
كانوا مجموعة من الصبيان والبنات، والدنيا ملعب والمشاعر بكر تتكاثف مع النمو المطرد للأجساد الطرية التي اخذ اصحابها يكتشفونها بانبهار يخالطه شيء من الخوف.
وكان وحده »الغريب«.
ربما لهذا كان معظمهم يأنس إليه فيستودعه اسراره العائلية الصغيرة، وكان أقلهم ينفر منه ويعايره بغربته ويجهد لنبذه او يستفرده ليضطهده مستنفراً عصبية الباقين.
لم يعرف متى وكيف وجدها تنحاز إليه متحدية بعض اقاربها المباشرين، وتباهي به باعتباره الأذكى والمتقدم عليهم جميعاً دراسة واجتهاداً ومرتبة في الصف.. ولكنه يعرف انه منذ تلك اللحظة بات ايضاً »الأشجع« والأكثر استعداداً لاقتحام الصعاب: قفزاً وركضاً وتسلقاً للصخور وابتداعاً للمخابئ في لعبة »الغميضة«.
في تلك »المخابئ« اكتسبت العلاقة حرارة الأنفاس اللاهثة وانطلقت تجوس بهما افق الشباب المبكر، فترق اصواتهما وتتلامس أيديهما، وتسبح العين في العين، ويخطف الخد الشفة خطفاً، ثم يلوي كل منهما عنقه كأنما باعتذار عن التسرع او ربما عن عدم الإكمال.
قالت فجأة: هل تعرف دود القز وكيف ينسج الحرير؟!
لم يكن في بلدته توت ولا دود قز ولم يكن في بيته حرير.
وشدته من يده الى باب القبو القريب. فتحت الباب على مهل فرسم لهما النور المتدفق من الخارج الطريق. كانت اطباق القصب المغطاة ارضيتها بورق التوت مرتعاً لمواكب الديدان البيضاء التي تدور ملتهمة الاخضر، فإذا ما شبعت وهي لن تشبع تسلقت جذوع الوزال النحيفة لتتخذ من عقدها مهاجع للشرنقة الموعودة.
اخذت تشرح له الدورة: من بذرة الى دودة تنسج قبرها، فإلى »زيز« فإلى فراشة.. لكن الشرنقة أغلى من ان تهدر، بذريعة منح الحرية للفراشة الحبيس، وهكذا تغطس الشرانق في »المخنق« حتى يستحيل على »الزيز« ان يستكمل سيرورته فراشة بأجنحة قادرة على اختراق شرنقتها الى فضاء الحرية الرحب.
قالت: أحبك ان تكون شرنقتي.
انتفض مذعوراً من شبح »المخنق«، وقال بسرعة: ولكنك الحرير. كفّاك حرير، خداك حرير، عنقك حرير، صدرك.
أطبقت فمه بكفها ولفت ذراعها على رقبته: ما اسرع ما عرفت الحرير الذي لم يدخل بيتكم. تعال اعلمك كيف تكر من الشرنقة خيوط الحرير!
أغاظه تباهيها بعلم لا يعرف عنه شيئاً، قال:
بل أنا من يعلمك!
احتضنها بكل ما في ذراعيه من عزم، فتأوهت من ألم اللذة: أين كنت تخفي كل هذه القسوة، رفقاً بالحرير!
سقطت دودة قز على رأسه، فانفلتت من طوقه، وبينما هو يترنح، قربت كفيها فاحتضنت دودة الحرير ووضعتها بين كفيه وهي تقول: علّميه كيف يحتضن منبع الجمال!
خجل من نفسه، فهرب بعينه منها، ثم رفع الدودة برفق الى الطبق المصنوع من القصب، وفي عز انهماكه لسعت شفتاها عنقه من الخلف فارتبك ولوّح بذراعيه فأوقع مجموعة من الأطباق وغرق تحتها في بحر من الوزال وورق التوت ودود الحرير والقهقهات الناعمة التي كانت تدلّه على موقعها في الزاوية المعتمة وتجذبه اليها لينضوي فيها: أليست شرنقته؟!
آخر الكلام
} لا تترك لي عيناك مساحة للجلوس!
غضي الطرف قليلاً لكي استطيع الوصول اليك.
} خففي الوطء وانت تدوسين أوراق الخريف. انها تحمل سطوراً من سفر الحب… وعلى صفحتها الاخرى بعض من ملامحك حين نفترق.
} لم ألمحك اليوم، فذهبت الى طبيب العيون.
} لكم انت متعبة! لماذا لا تأتين دفعة واحدة؟! يتمطى صوتك في الجو فيشغله جميعاً، فإذا ما انطوى في قلب الصمت، أطل وجهك فاحتل الهواء والنور ونقش ذاته في السقف يحصي عليّ انفاسي.
} معلق بحبل الصمت بين ثرثرتين تفسدان متعة النغم.
اذب الصوت الخشن عن اذنيّ، فيدور حولي، يحاصرني ويلغي حواسي. تغشي عينيّ سحابة فلا ارى، وتصطدم اصابعي بالاشياء فلا احسها. اشم فقط رائحة العراك الذي لن ينتهي.
أنسل بهدوء، متّبعاًً اثر الليل لآخذه الى النوم.
} الليل بوابة النعيم: دع النهار يأتِ على مهل. لماذا تتعجل الطرد الجديد من الجنة؟!
} تجيئين من اللقاء الى اللقاء، وأذهب من الغياب الى الغياب.
ألم يتعبك الركض في صحراء الضجر؟!
ولكنني أتريض. لا انت مقصدي ولا انا مرادك. هي مسافرة بين رفيقي سفر، لا فرق إن تحملني فيها او احملك!
سأدور ابحث عن صحراء ثانية. أجمل منك السراب!
} اذا احتسبنا الغياب، اشتعل فينا الحضور.
} تأتين من الصمت. أفٍ، لكم هو ولود هذا الصمت!