هل تعيش أجيالنا الجديدة الأحلام التي عاش فيها ولها أهلهم، ونجحوا في تحقيق بعضها ثم أخفقوا في حمايتها مما نشر مناخ الخيبة في صفوف اجيالنا الجديدة التي تحاول النهوض الآن، مجدداً، لإكمال مهمتها في استنقاذ الغد الافضل؟!
وهل هذه “الهبة” او الانتفاضة التي ترج الدنيا العربية الواسعة، من تونس إلى الجزائر، مروراً بالسودان ولبنان وانتهاء بالعراق، مجرد أحلام ام أن شعوب هذه الاقطار تعيش حالة ثورية عارمة ضد واقعها الرديء، طلباً للتغيير واستعادة الانسان العربي حقوقه في بلاده ومعها كرامته؟.
إن شعار “الشعب يريد اسقاط النظام” يتردد الآن، بأصوات الاجيال الجديدة، على مدى الوطن العربي بمشرقه ومغربه… ولا يمكن أن تكون الملايين التي تردده في اربع رياح الارض العربية ساذجة او مضللة او ظالمة ومتجنية على الطبقة الحاكمة في مختلف هذه الاقطار..
لم يتوقف “الشعب” امام “شخص” الحاكم هنا أو هناك بل حدد “خصمه” او عدوه بوضوح قاطع: إنه النظام كله، بمؤسسات الفساد والمحسوبية والتبعية والعداء المقيم لأهداف الشعب ومطالبه في الحرية والعدالة والتخلص من حال الفقر والعوز التي يعيشها في ظل نظام فاسد مفسد وظالم إلى حد التوحش في معاداة الشعب.
لندخل في التفاصيل، ولتكن البداية من لبنان بطبيعته الخلابة، وشعبه النشيط، متعدد المواهب، بحقائبه الجاهزة للسفر إلى أي مكان يوفر له دخلاً معقولاً… تاركاً تحزبه السياسي وعصبيته الطائفية والمذهبية في وطنه المنهك بهذه الآفة التي تضرب وحدة الشعب، مع كونه يعيش المحنة الاقتصادية ذاتها ويفتقد فرص العمل في وطن الارز…وهكذا فان جزءاً اساسياً من نخبه وطاقته المنتجة قد انتشر في اربع جهات الارض، من الاميركيتين شمالاً وجنوباً، إلى استراليا.. فضلاً عن السعودية واقطار الخليج، وبلاد افريقيا البعيدة.
على أن نظامه الطوائفي كان يستنزف جهده وفكره ويحرمه من حقوقه الطبيعية في أن يجد وظيفة او فرصة عمل تتناسب مع كفاءته، بغير شفاعة من زعيم او بطاقة توصية من متنفذ (وفي العادة يجب أن يكون، حصراً، في مرجعيته الطائفية او المذهبية).
وحالة الانفجار التي يعيشها لبنان اليوم، وتدفع شعبه إلى الساحات والشوارع في عاصمته ـ الاميرة بيروت، كما في طرابلس النوارة، وصيدا الشهيد معروف سعد، ونبطية العالم الشهيد حسن كامل الصباح، وجونية وجبيل، وبلدات الاصطياف والسياحة في جبل لبنان، كما في انحاء عكار وبعلبك ـ الهرمل وسائر انحاء المناطق الساقطة من ذاكرة الدولة..
إن حالة الانفجار هذه ناجمة عن تنبه “اللبنانيين” على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم إلى أن خرافة الاقتصاد الحر الذي يجلب الازدهار، وفلسفة “دعه يعبر، دعه يمر”، وتقسيم المناصب في الادارات الرسمية على الطوائف فلا يدخلها الا “المدعوم من زعيم الطائفة”، حتى لو كان ترتيبه الاول في الامتحان الرسمي… حتى وظيفة الحاجب والبواب تخضع لهذا “التوازن الظالم” بل اللاغي كرامة الانسان.
إن شعباً قاتل العدو الاسرائيلي اكثر من عشر سنوات مقدماً آلاف الشهداء على مذبح التحرير حتى تم له النصر المؤزر في 25 ايار (مايو) 2000.
… ثم تصدى للغزو الاسرائيلي في صيف 2006 (12 تموز / يوليو حتى 13 آب / اغسطس) وألحق به هزيمة مذلة، متجاوزاً التدمير بالقنابل الحارقة وقصف الطيران والدبابات التي لحق بعاصمته بيروت بعنوان الضاحية النوارة ومدن الجنوب، وبلداته التي دخلت بصمودها التاريخ (بنت جبيل، عيترون، صور وصيدا والخيام) الخ.
ولقد فشل العدوان الاسرائيلي في حربه هذه، وخرج لبنان بشعبه ومقاومته، رافعاً اعلام النصر.. مسجلاً، مرة أخرى، إن إرادة الشعب أقوى من هذا العدو العنصري والمعزز بأقوى الاسلحة وأفعلها في التدمير والابادة ومحاولة مسح التاريخ.
ولنتجاوز سوريا الغارقة في دمها نتيجة قصور النظام في معالجة الازمة الاقتصادية ـ الاجتماعية (والسياسية نتيجة عدم قدرة الحكم على التنبه لما يدبر له من خلال استغلال قصوره او غفلته..)
لنتجاوزر سوريا إلى العراق الذي يعيش محنة قاسية دمرت دولته وفرضت عليه الاحتلال الاميركي في اوائل العام 2003 بإسقاط نظام صدام حسين، وأعاد إحياء الفتنة المذهبية والعنصرية لتضرب وحدة الشعب واشغاله عن الاحتلال..
لقد دمر الاحتلال الاميركي البنية التحتية في العراق ونهب خيراته وكنوز متاحفه، وزرع الفتنة بين أهله.. وفي الوقت ذاته فقد شجع من كانوا بين الهاربين من نظام صدام إلى المهاجر البعيدة، او إلى سوريا ولبنان، على العودة وولاهم الحكم بصيغة انتقامية، وليتبدى وكأن “الشيعة” يتعمدون الانتقام من “السنة”.. وينهبون شعبهم ودولتهم.
ولقد أسقطت حكومات عديدة، وجيء بغيرها، وأجريت انتخابات نيابية حكمتها العصبيات، طائفية وعنصرية.
ونتيجة للنهب المنظم، اميركيا في البداية، ثم من طرف اركان الطبقة الحاكمة المغطاة بالعصبية الطائفية، تردت الاوضاع الاقتصادية وتم افقار الشعب إلى حد تجويعه… وكان لا بد من الانفجار.
ها هي بغداد وقد احتلتها الجماهير الثائرة، وكذلك البصرة وكربلاء والناصرية وسائر مدن الجنوب، في الشارع، تستفيد من “التجربة اللبنانية” في الاعتراض والتظاهر المفتوح تحت شعار “الشعب يريد اسقاط النظام”.
والأمل أن يتجنب العراقيون الفتنة والانشقاق، فينتصروا بالثورة ومعها.
إننا نشهد بدايات لزمن عربي جديد..
حمى الله الشعوب التي تحركت اخيراً لتحقيق آمالها في غدٍ عربي أفضل.
تنشر بالتزامن مع جريدتي “الشروق” المصرية و”القدس” الفلسطينية