أشعر منذ فترة، وربما ترافق ذلك مع مأساة غزة وبعض الأحزان الشخصية، أن اللغة وهي عشقي وهويتي، قوتي وزادي، لاتلبي حاجة التعبير عما يجري.
لكن اليوم، وعندما كنت أتحدث مع زميلي في العمل وهو فرنسي من أصل أرمني، التفتُّ إلى تفصيل هام:
كان يحدثني عن تاريخ عائلته التي هاجرت إلى حلب في فترة المجازر التي تعرض لها الأرمن على يد الأتراك بداية القرن الماضي معتبراً أن أحد مشاكل تركيا هي أنها غيرت حروف اللغة التركية من الأحرف العربية إلى اللاتينية في فترة حكم أتاتورك، مما يعني حسبما يعتقد، أن الأجيال الجديدة التي لم تتعلم سوى الأحرف اللاتينية قد فقدت اتصالها مع ماضيها لأنها لاتستطيع أن تقرأ مباشرة كل ماكتب بالأحرف العربية مما يشكل قطيعة جذرية مع الماضي. أضاف أن أتاتورك تقصد ذلك كي يفتح صفحة جديدة وأن يبدأ التاريخ حيثما أراد.
لا أعرف مدى دقة هذا الطرح، والسؤال مفتوح حتماً، لكني انتبهت فجأة أننا، أولاد هذه المنطقة، لازلنا نحافظ على لغتنا حتى وإن أسأنا إليها عن حسن أو سوء نية. يمكن لأي كان العودة إلى أبو العلاء المعري وأبو حيان التوحيدي وابن عربي وامرؤ القيس. ويمكن مع بعض التركيز فهم النصوص المستعصية والاستمتاع بها.
اللغة ذاكرة، والذاكرة صناعة مستمرة، وجزء من ذاكرتنا جميعاً يُصنع اليوم في غزة. صحيح أنها تُصنع بالدم المُراق والظلم والخذلان، لكنها تُصنع أيضاً بما يليق بالإنسان. هناك حيث يدفن الأب ابنه ثم يتابع انتشال العالقين تحت الردم. هناك حيث ينقل الصحافي نبأ موت أهله ثم يتابع نقل الحدث كي يرى من شاء مدى قبح الاحتلال وجوره. هناك حيث يداوي الطبيب كي ينقذ حياة الجريح قبل أن يُقتل هو ذاته بقذيفةٍ عدوة.
ليس عجزاً كل ذلك رغم ما لا يُطاق وما لا يُصدقْ من انفلات الوحوش.
من الطبيعي ألا تسعفنا اللغة دائماً وأن نعجز أمام الهول عن اختراع المفردات، بل لربما نخجل من الكلام السهل طالما أن الفعل مقيد وحبيس، لكن اللغة ستعود حتماً شفافةً في الروح وصارمةً في التوصيف، تسكننا كما نسكنها، لأن “كل شيء بعض شيء” كما انبأنا شيخ الصوفية ابن عربي. سيأتي اليوم الذي سنمسك بمقودها من جديد لنقول ولنشهد ولننتصر للحياة وبها، ولنستبط ألفاظاً ومعانٍ جديدة.
لاوعود ولا مزاودات على مستقبل معتم، لكنها الإرادة، تنبت تحت التراب المعجون بأهله لتقول بأبسط الكلمات وأصدقها أننا بشرٌ يحتالون على كل أنواع الموت بابتسامة وضحكة وأغنية، ولأن هناك من البشر من نرفع الرأس لأننا منهم ولأنهم منا.
جلَّ جلالك فلسطين