قيل بعد سقوط الاتحاد السوفياتي إنه نظام عالمي جديد بقطب واحد. هو في الحقيقة عالم جديد ـ قديم؛ فيه كل مظاهر الاستغلال الموروثة من النظام القديم وأكثر. وهو في الآن نفسه ذو قطب واحد لا اثنين أو أكثر. القطبية فيه طبقية. هي بين أقل من واحد بالمئة وأكثرية البشرية؛ بين الأغنياء من الطبقة العليا التي تجتمع، أو يجتمع ممثلوها في دافوس الآن، وبين أكثر البشرية من الطبقات الدنيا الذين لا يملكون شيئاً ويشكلون معظم البشرية. أما الطبقة الوسطى فهي شبه معدومة. ما يُحكى عن الأخلاق البورجوازية يكاد يختفي. ما يُحكى عن العقلانية وروح العمل عند البروتستانتية يكاد يزول. المداخيل في الثروات واضحة: أقل من 1% من سكان المعمورة يملكون أكثر ما يملكه نصف سكانها.
بمقدار ما يستشري الغنى كذلك يفعل الفقر. ولنتذكر دائماً أن الغنى يصنع الفقر. الغنى يصنع قيمه المتعلقة بالخير والحق والجمال ويصادرها. الفقر محكوم بالجهل والمرض والغباء. طبقتان عالميتان تتخطيان الحدود الجغرافيّة. واحدة لها الحرية كي تفعل ما تشاء. تتخطى الحدود. تبيّض العملة. تتهرّب من الضرائب. تراكم الثروة في ملاجىء تُسمى “أوفشور”. تهرّب المخدرات. تهرّب البشر. تستغلهم. تسترقهم. لا أحد منها يُحاكم أو يُشتبه به. ناهيك عن التجريم وتوجيه التهمة أو السجن. هذه الطبقة لها نوعان من “البيزنيس”: ما هو شرعي، وما هو غير شرعي. وهذا الأخير ربما شكّل نصف تجارة العالم. هذه الطبقة لديها دول؛ هي تدير دول الأرض. هي، أو بعض أفرادها، يمثلون الشعب في برلمانات العالم. قيل منذ أوائل التسعينات أن سقوط الاتحاد السوفياتي يؤذن بعصر الديمقراطية. صارت الديمقراطية تعم العالم تقريباً. حتى الطغاة ينتخبون، والسلطة المركزية تدعمهم لأسباب جيو ـ سياسية واقعية. عند الطبقة العليا واقعية سياسية. هي تحتاج الدول المتأخرة وأجهزتها الأمنية والقمعية لإبقاء الطبقات الفقيرة ضمن حدود التحرّك المقبول وإلا فإنّ القتل مصيرها. البلدان العريقة في ديمقراطيتها تفكك النقابات، وتقمع الكادحين، وتصوّب النار الى المحتجين، وتسقط القتلى منهم، وتسجن العديد من نشطائهم. يبدو أن 1% من سكان الولايات المتحدة هم في السجون بتهم مختلفة. معظمها موجه ضد الفقراء والسود واللاتين وجميع غير المرغوب فيهم لدى الإنسان الأبيض.
الفقراء معدومو الحيلة. لا ثروة لديهم. لا عمل أو مدخول يومي كافٍ. نصف سكان المعمورة لا يملكون شيئاً. البطالة مصيرهم الوحيد. تنعدم الفرص. يبلغ بهم اليأس الحد الأقصى. يحاولون الهجرة. يعبرون الحدود. الحدود في النظام العالمي الجديد ما زالت مغلقة. حرية المال والتجارة عبر الحدود مقدّسة. حرية حركة الناس حرام. ليس أمام الفقراء إلا الهجرة بأساليب غير شرعية. معظمهم يُسلبون مما لديهم. ويُتركون على سطح البحار للموت. تظهر أحياناً سفن الإغاثة من دول البلدان الغنية. عليها أن تتخذ مظهر البر والإحسان لتبرير وتسويغ الجريمة الكبرى التي تُركب، وهي الفقراء.
أصبح الكثير من الفقراء فرقاً انتحارية. تخضع لعشوائية عصابات المهربين. نتائج عشوائية الهجرة عبر البحار والحدود لا تقل عن عشوائية الفرق الدينية المتطرفة التي ترتكب الانتحاريات البغيضة. تعددت الأسباب والموت واحد. الذين يموتون جراء عشوائيات الهجرة لا يقلون، ربما كانوا أكثر، عن أولئك الذين يموتون جراء عشوائيات وانتحاريات التكفيريين. ربما كان الأولون أكثر بكثير من غيرهم. المافيات التي ترتكب عشوائيات الهجرة لا يمسها شيء. كما أن الرأسماليات التي تهرّب أموالها الى الجزر الملاجىء الضريبية لا يمسها شيء. الموت للضحايا. وكأن سفن نقل المهاجرين محاكم عسكرية عرفية. يموت الضحايا كالانتحاريين الدينيين على الموقع. مظاهر البر والإحسان لا تخفي شيئاً. هو النظام العالمي الذي لم يعد جديداً، لكنه يسبب كل هذه الآلام.
ما من دولة في الأرض إلا وقامت على الهجرة، منها وإليها. هجرات تمجّد في الأساطير القومية، وتُعتبر تأسيسية لدول تدعي العراقة أكثر من غيرها في تاريخ ما يُسمى الحضارة. هجرة الفقراء ممنوعة. هؤلاء الكثرة من البشرية، الذين ضاقت سبل عيشهم في بلادهم، مكتوب لهم أن يبقوا حيث هم. حيث ولدوا. حيث يضطهدون ويُسلبون وتُصادر منهم وسائل الحياة. على البشرية أن تتقيّد بتعليمات وأساليب الرأسمالية.
تاريخ المسلمين يبدأ رسمياً بالهجرة. أول الهجرة في ما قبل التاريخ بدأت من شرق أفريقيا: تأسست أوروبا الحديثة على هجرة شعوب الشمال. يُقال أنّ الغال (السلتيك) أسستهم هجرة السلتيك من اسكتلندا وايرلندا. الصين الجنوبية انضمت منذ القدم بتأثير هجرة الصينيين الشماليين. الولايات المتحدة تأسست على الهجرة. أُبيد السكان الأصليون (الهنود الحمر أولاً). وهاجر الكاثوليك ثم البروتستانت بعدهم. يصير المهاجرون سكاناً أصليين وتنشأ عندهم ردات فعل وقتل ضد المهاجرين الجدد. السود الأميركيون يستوردون للعمل كعبيد في أميركا الشمالية والجنوبية. معظم عواصم أوروبا الوسطى والشرقية كان من غير أكثرية الأمم التي تأسست. ثم هُجّروا بعد نشوء الدول القومية. الهجرات في القرن العشرين لا تُعد ولا تُحصى في أوروبا كلها. هجرة المسلمين من الهند الى باكستان حين تأسست هذه في 1947 أدت الى ملايين القتلى. هجرة بني سليم وبني هلال في القرن الحادي عشر الى المغرب افتُعِلت ضد القبائل هناك. سنغافورة أكثرية سكانها مهاجرون صينيون استجلبهم الانجليز للعمل في المناجم. كثير من المهاجرين الأوروبيين الى أميركا الشمالية في القرن التاسع عشر كانوا بموجب عقود عمل استرقاقية، ثم يحررون بعدها. هجرة الشعوب الأوروبية-الهندية معروفة الى الهند وإيران. وربما كانت أسطورية.
الرق موجود منذ أقدم العصور. خدموا في معظم الجيوش القديمة الاغريقية، والفارسية، والعربية، الخ… تحوّل الأمر مع الرأسمالية والعلوم الحديثة الى عنصرية. ربما كان معظم العبيد في التاريخ هم من البيض. لكن كلمة عبد تساوي زنجي عند المهاجرين العرب في أميركا الرأسمالية؛ وعند البعض من غير العرب.
العنصرية الحقيقية وُجدت مع ازدهار الرأسمالية. احتكرت الرأسمالية الثروة واحتكرت معها الثقافة، والحق بالخير، والحق بالجمال. واعتبرت أن ذلك لا يعود الى أحوال ظرفية، بل الى سمات جوهرية صارت جينية بعد تطوير نظرية النشوء والارتقاء على يد داروين. تحوّل العلم الى ايديولوجيا والى بيولوجيا. وصار للبيولوجيا أصول متعلقة بالرأسمال. وصار تراكم الرأسمال نتيجة للتمايز البيولوجي، ولسمات بيولوجية مختصة بطبقة دون أخرى.
تستمد الطبقات الشعبية (المتوسطة والدنيا) عنصريتها من الطبقة العليا (التي تشكّل أقل من 1%)، فتعتقد أنها متفوقة بطبيعتها الجينية، وأن دخول المهاجرين سوف يؤدي الى منافستها في وظائفها، وأنّ هذه المنافسة غير متكافئة لأنّ الوافدين يتلقون أجوراً أقل لنفس الوظائف، بينما هم معتبرون أدنى بالطبيعة في سلّم الكفاءة المهنية. تنشأ الشعبوية من شيوع هذه الاعتقادات. يصير المهاجرون غير مرحّب بهم. تعود العنصرية الى الظهور بشكل واسع يكاد يهدد النظام السياسي ومعاييره المزدوجة. مهربو المهاجرين والمتاجرون بهم هم من البنية الاقتصادية الرأسمالية الغربية، كما هي تجارة المخدرات، والملاذات الضريبية، وتبييض العملات. هم من رواد التجارة الدولية الموازية. ليسوا أبرياء من الاتجار بالمهاجرين. تتصاعد موجات رد الفعل الشعبي ضد المهاجرين. هؤلاء الذين ما عادوا يأتون للوظائف الخشنة كالعتالة وتنظيف المراحيض. بل أنّ معظمهم يحمل شهادات عليا أو من ذوي الكفاءات التقنية. فيشكلون تهديداً للطبقات الوسطى في بلدان المركز؛ هذه الطبقات الوسطى أصبحت مهددة منذ عقود بسبب تطورات النظام الراسمالي.
لا بد من الاعتراف أن الهجرة، خاصة عبر افريقيا الشمالية (المغارب العربية) تديرها مافيات منظمة تشكّل جزءاً من بنية الاقتصاد الرأسمالي العالمي. ولا بدّ من الاعتراف أيضاً بأن كون المنطقة التي تُعبر هي عربية فذلك يشكّل وصمة بحق العرب لمجرد أن هذه التجارة تمر بأرضهم التي لا يسيطرون عليها. بذل الغرب جهداً عبر عقود من السنين لوصم العرب دون غيرهم بتجارة العبيد السود؛ وهم يدفعون ثمن ما لم يرتكبوا، أو ما ارتكبوا جزءاً منه بكونهم عملاء صغارا لمنظمات عالمية أكبر وأكثر شمولاً. الحملة على المهاجرين لا تطالهم وحدهم، بل تطال العرب بشكل أعمق. في نظرية صراع الحضارات تضاف تجارة المهاجرين الى تجارة العبيد الى الإرهاب ليصير العرب مركز ما يهدد بنية النظام العالمي. لذلك لا بدّ من الاستنتاج بنظر الغرب أن هذه المنطقة تستحق الحرب العالمية ضدها، وأنّ شعوبها تستحق الإبادة.
تقسيم العمل في هذا النظام العالمي يخصص للعرب مهمة يستحقون العقاب عليها.
تنشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق