“على المرء أن يُطلق النار على الأخلاق”. كفى احتماءً بالقيم. بدروس التفاؤل، بصلوات القديسين والأئمة. كفى تبشيراً بالفضائل والالتزام بالمبادئ والقوانين والمؤسسات. كفى كذباً وتدجيلاً بالسلام والمحبة والديموقراطية. كفى تعميماً لمنطق الرفق بالحيوان، لأنه يستحق أن يكون إنساناً!
إنه عالم موحش ومتوحش. وطبعاً، هناك شواذ. شواذ ضئيل جداً. معذبو الأرض هم الشواذ الصالح، بلا أفق، وحتى بلا غد.
الدليل: فلنبدأ من صباح الخير أيها العالم. نسأله: هل أنت على ما يرام؟ سيرد بكلام جاف: أهذا سؤال أم تعزية؟ تعتذر وتفتح قاموس الحياة. تجد في مطلعه: أعرب ما يلي: الحرب: فاتحة الوجود. القتل: وليمة السياسة. الخنادق: الممرات إلى الجحيم البشري. التعذيب: قبور مستدامة ووليمة المساجين (البرهان: إياكم أن تأتوا على ذِكر هذا أمام جواسيس الاستبداد العربي التام). الاحتلال: قانون الأقوياء. (“إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب”). الغارات: إبادات وتدمير “عالعمياني”. السماء: مرتع تعذيب. لا تصدّقوا أنها تحمل للإنسان بشارة الخلاص. السماء في أزمنة الحروب المتتالية هي أكثر عنفاً من الجحيم. السماء تستقبل الأشلاء. وتفسح زرقتها لغارات الإبادة، لنطق القنابل. لبعثرة أجساد النساء والأطفال وتدمير الآمال المتواضعة.
هذا عالم، نراه ونكتب عنه بطريقة مغلوطة. الإنسان البدائي لم يكن متوحشاً. كان نموذجاً للكد والتعاون والعمل. التوحش تربى وشبّ عندما بدأ الإنسان “يتحضر”. كل الحضارات نشأت في أحضان العنف. راجعوا تاريخ كل حضارة.. “السيف أصدق أنباءً من الكتب”.
ثم: إعرب أيضاً ما يلي: الجوع ليس فعلاً ماضيا. هو منذ الأزل إلى الأبد. الجوع إجرام إنساني وليس سماوياً أبداً. هو عقوبة شائنة لأنها من ابتكار الإنسان.
الفقر: نحن لا نولد فقراء. إنما نولد مع بطاقة إقامة إما في الفقر وإما في الثراء. والثراء هو الابن الشرعي للنهب والظلم والاستبداد والاستقواء. الدم، ماذا نقول عنه. الدم عبقرية العنف. هو نتيجة حتمية لمنطق: “إذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب”. وإذا كنت لا تصدّق ما تقرأه هنا، افتح على نشرات الأخبار. على إعلام يجيد تقديس “النجاح”، بمقدار والقنص والسرقة والاحتكار وإغراق الأسواق وإقفال الباب أمام الكادحين.
هذا عالم يقوم على ثوابت. هذا عالم عاث بالأديان فساداً. مبكٍ جداً قياس نصوص الأديان بفصول الإجرام المتمادية. “الظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم”. الظلم هو يومي. إنما، يجب ألا يقاس الكلام هنا، على ما هي عليه طبقة التخمة المالية، وهي الحاكمة والمتحكمة ورائدة “إذا لم تكن ذئبا”..
ماذا بعد؟ المجاعات مستترة ولكنها فاتكة. القتل رائج برغم ثكنات “الجيوش والدرك”. العدالة مثقوبة من الجهات الأربع، وقصور العدل في العالم، ترتكب الفحشاء “الحقوقية”، والزنى “القانوني”. القداسة والصلوات، رياء في رياء. المعابد، ليست للعبادة، بل للاستعباد. نيرون ما زال حياً. أحرق وسيحرق أكثر. وهو متوفر في الكثير من الديكتاتوريات والديموقراطيات البلقاء. مسكين نيرون، لم يتح له أن يتعرف على القنبلة الذرية، وطائرات الإبادة. ولو كان هنا، لكان كوفئ بجائزة نوبل للسلام. حتى هتلر، صار موديلاً قديماً. “إسرائيل”، هي الوريث الشرعي لفداحة “الهولوكوست”. الهولوكوست الفلسطيني في غزة، تفوّق على عبقرية الإبادة الهتلرية. علينا أن نترحم على جنكيزخان وتيمورلنك. قادة “إسرائيل” كلهم، من ذرية القتل.
هذا العرض الاتهامي، لا يصيب الغرب المدجج بالأخلاق العسكرية. إن خيانتنا للغرب فضيلة. كما أن خيانتنا لسلطتنا وسلاطيننا وأصحاب الجزمات الحاكمة والملايين المرصودة والمفتونة والفاتنة، هي أرقى الفضائل: “خوّنوهم ليلاً نهاراً. ادعوا عليهم بالكسر فيما تقبلون أكمام أياديهم. هؤلاء، ذرية عبقرية، استطاعت أن تلم وتحكم وتتحكم وتدعي الحكمة، بكثير من العطاء، للمتسولين المختصين القادمين من أرقى الجامعات”. إنما ممنوع الحديث أو النطق بما يلي: الحرية. هذه لعنة، يلزم إبادتها. الطاعة هي أرقى “الفضائل”، وممارستها، أمان واطمئنان و.. “قتل الضمير”. المال: إله معبود، ليلاً نهاراً، ومن “زمان كثير”، إلى دهر الداهرين. على “اللاجئ”، برغم شهاداته وعبقريته أن يكون مطيعاً وإلا..
هذا كلام لا يخص بنية سياسية ما. يعني، لا ضرورة للتبرؤ من خارطتنا “العربية”، التي أنجبت “حضارة” للاستهلاك الفائق والفاجر. من دون أن يرف جفن لمعالجة “وباء الفقر”، وهم مسؤولون عن انتشاره في الأحياء الفقيرة، في البلدان المحرومة.. ولا أستثني أحداً، النفط العربي متوفر ومتواتر في كثير من صحاري ورمال العرب. إنما، يصح ما قاله عبدالله القصيمي: “يا نفطنا، يا عارنا، يا ذلنا، يا كل شيء ضدنا”.
ما علاقة هذه الكتابة بغزة الفلسطينية. بالشعوب التي خرجت من بيت الطاعة السياسي في العالم كله، باستثناء “بلاد العرب أوطاني”. يا حيف. أظن، لا بد من تصفية هذه البيعة. العرب ينافسون الفرنجة، في طلاقهم الحتمي، مع “القيم الدنيا”، وليس “القيم العالية الرتبة والمقام”.
مؤلمة هذه السخرية: “تعب كلها الحياة، فما أعجب إلا من راغب في ازدياد”. يقول نيتشه: “لقد كان لأحكم الحكماء جميعاً عبر العصور كلها حكم واحد على الحياة: إنها لا تساوي شيئا”. هذا يقود حتماً، إلى مقاومة ضد الحياة. سقراط أيضاً، شكا من هذه الحياة. قتلوه بالسم. السلطة تقتل، تفتك، تكذب، ترتكب، تتاجر، تتبجح. (تابعوا التوصيف قليلاً). لذا، كانت الكآبة الخبز اليومي للفلاسفة المؤمنين بالحب والحياة والإنسان. أنظمة اليوم وسابقاً، ضد الحياة الحرة. هي مع الحد الأدنى من الحياة. وإن لم يكن ذلك كذلك، فكيف نفسّر برغم التخمة المالية، ان أكثر من مليار بشري هم في حالة مجاعة. كيف نفسر أن افريقيا، ذات الرحم الخصيب، منقسمة إلى اثنين: أحياء الفقراء على الأطراف مع البؤس والمرض والعنف.. وأحياء الأثرياء جداً، وهم شركاء النهابين من الأفارقة.. سماء وجحيم تحت سقف واحد. ماذا يقول سقراط: “الحياة، هي أن تظل مريضاً لفترة طويلة من الزمن”. لذا، ملَّ سقراط من الحياة. الحياة راهنا إرهاب بوجوه متعددة.
حرام.. العقل راهناً مطعون بالعقل.
العقل المبدع تحوَّل إلى طاغية.
أين العلاج؟
غير متوفر.. منذ بدء الخليقة. الفلسفات ليست علاجاً. الأديان كذلك. نحن عبيد عبادة. وكي نعيش، علينا أن ندفع أثمان الحرية والعدالة والقيم والمبادئ، ولو كان ذلك الثمن مستداماًد.. لا مفر من الصراع، وعليك أن تختار بين عبوديتك وتنازلك، وبين إيمانك المستدام بالحرية والقيم.