خسائرنا جسيمة. كأن لم يعد لدينا ما نخسره. في حالة نقصان نحن. الأمكنة فقدت ساحاتها. نحن فيها منفيون. فقط ظلالنا لنا. لقد انتهى امرنا. شيء يشبه الموت. أطلقنا الرصاص ولم نصب الا أقدامنا. الطرقات العربية يتيمة.
انما، كان يا ما كان، منذ قرن من الزمان، أحلام تتسع لأمة تبحث عن مكانة لها تحت الشمس. قرن كامل من الزمن بدّدناه. اخذتنا غفلة الحروب. خضناها ضدنا. استحضرنا الهزيمة بعزائمنا. قتلنا الوحدة في عز طفولتها. تشردنا في كيانات. لقطاء الدول كنا. الانظمة تدبرت حتفنا، ونحن تهنا في القضية واختبأنا في عتمة الآيات السود.
مسرحية الاثم العربي نحن. حكامنا اقزام امجاد. مجد الحاكم في جزمته العسكرية. سطوة الحاكم في اتساع السجون، ثقافة الحاكم ثروة واغتصاب. حروب الحاكم ضدنا فقط. أمة مطعونة تسير على جبهتها.
حصاد خسائرنا: دول دالت. ممالك انفقت. انظمة قريبة من الحثالات، سياسات لينة ازاء الاعداء، مجرمة ازاء الشعب. لم نكسب معركة. لم ننتصر لفكرة، ففيما كانت شعوب أخرى تولد من ركام وتنهض من كوابيس وتثور على انظمة، كنا نستغرق “بعدالة” القتل والظلم والحذف والسحق. ولما جاءنا “الربيع” كانت زيارته قصيرة. جُنت ابالسة المال والسلطة والدين. أعدموا الربيع في يومه الأول… فمن نكون بعد ذلك غير شعوب منكوبة بالخسارة؟
تواعدنا مراراً مع الديموقراطية. نحن هراطقة السياسة. الديموقراطية رجس من لون الغرب فاقتلعوه. البديل عن الديموقراطية اثنان: الاستبداد والارهاب. هكذا كانت مكافأتنا… تواعدنا مع قليل من المواطنة. المواطن لغم حضاري مرفوض. البديل عن المواطنة، الطائفية والمذهبية، ولقد افلحنا في ذلك، فالأمة اليوم فسطاطان مذهبيان من المحيط إلى الخليج، نحن العروبة البائدة والقومية السائبة.
ترى من نحن ومن نكون؟
فلنصمت قليلاً. لنفتح الذاكرة لمحاكمتنا. فلسطين، نحن خسرناها قبل أن تربحها اسرائيل. مئة عام على وعد بلفور ولم نفز الا باسلو. ذروة الخديعة بفائق الفجيعة. القدس: ما بها اليوم؟ هي محتلة من زمن النكسة. خمسون سنة؟ ماذا تبقى منها: صدفة ممتازة. عهد التميمي. أعطتنا فرصة مواكبتها من بعيد. ابكتنا. اقنعتنا. استفزتنا. واكبناها صورة وصوتا. شهدنا على عظمتها وعظمة زميلاتها وزملائها، ثم… عدنا إلى مصافحة خيباتنا ومعاقرة عجزنا… عهد التميمي لم تفضح اسرائيل، بل نحن من فضحت. يا لنا من اقزام بفضيلة القليل من اليقظة، فماذا بعد؟ القدس التي لنا، ليست. فلسطين التي لنا، ليست. والسبب، أن الامة التي لنا، ليست، وان القضية التي لنا، ليست. وليس عندنا، الا ممالك طاعنة في البيع والشراء، وامارات بعباءات تستر الخيانات، وانظمة معسكرة حتى الارتكاب، وقضايا لأصحاب الفتاوى والآيات والمذاهب، ومفكرون آثروا الثروة على الثورة.. يا لنا من بؤس صنعته ايادينا القذرة.
هل هذا عالم عربي اليوم؟ العروبة اغتيلت والعرب مهاجرون عن قضاياهم. كل قضايا العرب مؤجرة لدول في الاقليم او العالم، والناس ذخيرة هذا النظام او ذلك، او طلقة في مرمى مذهب مضاد.
تساهلنا كثيراً. بررنا أكثر. انحزنا إلى الاسوأ. لنتذكر آثامنا.
لبنان، الافضل بين اقرانه العرب، معتل من النهر الكبير إلى الناقورة. يعيش بالصدفة. هو على الحافة ولا يقع. الخوف سيده. أما الفساد، فهو دينه المعبود، وله في كل منصة حصة. والمنصات مخصوصة للطوائف وملحقاتها الرأسمالية والعقارية و”الشعبية”. ماذا عن سوريا وما تبقى منها القليل، وما راح الثمين الكثير؟ ماذا عن عراق منهوب ومسفوك ومشغول بعصبياته؟ ماذا عن خليج اميركي بطبعته الاسرائيلية؟ ماذا عن مصر التي لا تشبه تاريخها ولا ماضيها ولا حاضرها؟ ماذا عن جزائر المليون منسي من الشهداء؟ وألف ماذا بلا جواب.
لم نكتشف بعد سر قوة “اسرائيل”. ليست اميركا الا مساعداً لقوتها. كذلك الغرب. اسرائيل قوية بشعبها الموحد، القادم من الشتات، بديموقراطيتها المنيعة وبحريات شعبها. هذه ركائز القوة الاسرائيلية، وليس بيننا من يشبهها. قلدوا أعداءكم.
النظام الذي يخاف الحرية، ويخشى الديموقراطية، لا يطيق الدساتير والقوانين، هو نظام فاشل وعاجز ومستقوٍ فقط على شعبه وهارب من مواجهة إسرائيل.
يلزمن القليل من التفاؤل الصادق. التفاؤل الكاذب صابون في هواء عاصف. الأمل من فلسطين الفلسطينيين ومن معها من هذه الامة. مقاومة وثقافة وعتاداً وبسالة وقطيعة مع انظمة التخلف والتعصب والمذهبية والعسكريتارية. الأمل بأن لا مفر من الحرية، مهما غلت اثمانها، ولا مفر من الديمقراطية مهما طال زمنها، وبالثقافة المؤسسة لمواطنة حقيقية ومساءلة شفافة ومحاسبة حاسمة.
هذا التفاؤل يكفينا لنستمر في ريادة المستحيل.
كل هذا الكلام، يأتي بمناسبة عبور عام من أصل مئة عام، لنهاية الحرب العالمية الاولى، وبداية الحروب كلها على امتنا، بعضها بيد الغرب، وبعضها بآلة اسرائيل وأكثرها من ابداع انظمة التخلف والتمذهب والعسكرة.
فلنقطع هذه المسافات، ولنحدق دائماً في فلسطين الممتدة من المحيط إلى الخليج. فلسطين خلاصنا.
هل هذا خيال؟
لم لا؟ ارهقتنا وقائع قرن من الموت العربي المشين. ما أبدع أن تخون هذا الموت الشنيع!