يعيش الكيان الاسرائيلي “أمانا” غير مسبوق في تاريخه.
يتجول طيرانه الحربي في سماء المشرق العربي من دون منغصات.. بل انه يعتبرها “سماء مفتوحة”: من لبنان إلى سوريا فالعراق الخ.. ثم تعود الطائرات بطياريها “صاغ سليم”.
ولقد استمرأت القيادة الاسرائيلية تجوال طائراتها في الفضاء الحر، فأطلقت طيرانها يضرب في سوريا شرقاً وشمالاً، في العاصمة دمشق وضواحيها، فاذا ما استخسر كلفة الطائرات الحربية عمد إلى إطلاق الطائرات المن دون طيار، الموجهة عن بعد، لضرب الأهداف المقصودة.
بل مدد الطيران الحربي الاسرائيلي مجاله إلى بعض العراق فضرب قاعدة للحشد الشعبي في غربي العراق..
في هذه الاثناء كان رئيس حكومة العدو الاسرائيلي يتجول، بحرية، في المنطقة فيتنقل بين عمَّان وعُمان، فرحاً بأنه يعيش “عصر السلام” وان المنطقة جميعا مفتوحة امامه.
تثبيتاً لهذه النظرية وتوكيداً لصحتها، أطلق العدو الاسرائيلي قبل أيام (فجر 25 اب 2019) طائرة مسيرة في اتجاه الضاحية الجنوبية لبيروت، ثم ألحقها بطائرة مسيرة ثانية، لكن الأولى أُسقطت، فلما جاءت الطائرة الثانية للنجدة أسقطت هي الأخرى… وأكد المقاومون انهم صاحون، وانهم لن يتركوا طيران العدو يخترق حصنهم في جنوبي بيروت.
ولقد رد الأمين العام لـ”حزب الله” في اليوم الثاني مؤكداً أن المقاومة سوف ترد على هذا العدوان المفتوح الذي كان يستهدف مركزها القيادي في الضاحية الجنوبية .
يوم الاحد التالي نفذ “حزب الله” وعده، فقصف مستعمرة “أفيفيم” وأصاب احد صواريخه مصفحة للعدو فيها ضابط واربعة جنود، اصيبوا جميعاً بجراح.. وان كان العدو قد اعترف بإصابة المدرعة التي رأى جمهور المشاهدين احتراقها، لكنه أنكر اصابة الجنود الذين فيها…
هي محاولة لتثبيت “قاعدة” السن بالسن والعين بالعين والبادي أظلم”…
وكان بديهيا أن ينكر نتنياهو الذي يواجه انتخابات قريبة، هذه الواقعة المشهودة، وان ينفخ صدره زهواً، حرصا على اصوات جمهوره الحزبي..
بعيداً عن “الميدان” يتباهى نتنياهو بأنه انما يصنع التاريخ مع حليفه الاكبر، الرئيس الاميركي دونالد ترامب، وصهره جاريد كوشنر مشروع الشرق الاوسط الجديد، الذي عقد الاجتماع التمهيدي لمباشرة تنفيذه في المنامة، عاصمة البحرين، بحضور عدد من سفراء بعض الدول العربية ووزراء الخارجية في بعض دول الخليج العربي.
من حق رئيس حكومة العدو الاسرائيلي أن يعتبر الوضع العربي القائم مثالياً لمشروعه في السيطرة على المنطقة العربية، برعاية الولايات المتحدة الاميركية، طبعاً.
يكفي أن نستشهد ببعض ما صدر من بيانات شجب واستنكار في بعض العواصم العربية لرد المقاومة في لبنان، على الاعتداء الاسرائيلي المكشوف بإسقاط الطائرتين المسيرتين اللتين اطلقهما العدو لتنفيذ عملية اجرامية في الضاحية الجنوبية لبيروت، حيث قيادة المقاومة وبيوت الكثير من مجاهديها..
هل هو التزام بقاعدة “من يهن يسهل الهوان عليه”؟ ام انه استعجال لصلح أشرف منه الهزيمة مع العدو الاسرائيلي؟!
المهم أن بعض الدول العربية قد استنكرت هذا الاعتداء الجديد، بينهم وزير الخارجية المصري التي اتصل برئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري معلنا تضامن مصر مع لبنان وشجبها الاعتداء الاسرائيلي.
أما على الجبهة السورية فالاعتداءات الاسرائيلية تكاد لا تتوقف، وآخرها الهجوم بطائرات مسيرة على بعض القواعد العسكرية الروسية ـ السورية في بانياس على الساحل السوري..وهي الأخرى لم تعد إلى قواعدها.
يمكن القول أن قادة معظم الدول العربية منهمكون في مشاغلهم الداخلية:
ـ مصر مشغولة في خطط التنمية والتطوير وبناء شبكة واسعة من الطرق الممتازة تربط انحاءها بعضها ببعض كما بالعاصمة..
ـ وليبيا اختفت عن الخريطة، كدولة، والحرب المفتوحة فيها وعليها تستدرج الدول، حتى امارة قطر، إلى التدخل في محاولة إعادتها إلى الحياة، “بشفاعة” الامم المتحدة وموفدها الذي تنهكه المنازعات والهجمات العسكرية والخلافات بين قواها الداخلية على مستقبل هذه الدولة التي كانت اتحاداً بين ولايات ثلاث، ايام الملك ادريس، ثم جعلها العقيد معمر القذافي جماهيرية لمدة اربعين سنة متصلة، حتى انفجر الوضع الداخلي وتم قتله والتمثيل بجثته قريبا من مسقط رأسه سرت، وقُتل معه قائد القوات المسلحة في عهده اللواء ابو بكر يونس، لشدة اخلاصه.
ـ أما تونس فمشغولة بانتخاباتها الرئاسية، بعد وفاة رئيسها الراحل الباجه قائد السبسي، وريث بورقيبة وخريج حزبه، بعد سقوط الانقلاب العسكري الذي قاده زين العابدين بن علي وزوجته عارضة الازياء، ولجوئه إلى السعودية، حيث غره الصمت المذهب.
ـ أما الجزائر “فيقيم” شعبها في الشارع، رفضاً لاستمرار الوضع المؤقت بقيادة رئيس اركان الجيش أحمد قايد صالح، بعدما أجبر الشلل النصفي والغضبة الشعبية الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة على الاستقالة.. فكلفه الجيش الذي يحكم الجزائر منذ خلع اول رئيس منتخب ديمقراطيا لجزائر المليون شهيد احمد بن بله.
وقيادة الجيش تساوم الشعب على موعد الانتخابات الرئاسية الجديدة.. والشعب لا يغادر الشارع ولا يقبل ارجاء هذه الانتخابات إلى كانون الاول (ديسمبر)، ويصر على اجرائها فوراً، لان لا شيء يمنع من ذلك..
ويتعاظم الأخذ والرد بين قيادة الجيش والمتظاهرين، خصوصاً وقد تهاوت حتى كادت تندثر جبهة التحرير الوطني الجزائرية التي قادت نضال شعب المليون شهيد حتى انتصر بالتحرر واعتماد النظام الديمقراطي.. حتى اختطفه الجيش بقيادة هواري بومدين… وبقي الجيش هو المرجعية والقيادة والرئاسة.
ـ وأما السودان الذي انتفض شعبه ضد حكم البشير، فتحرك الجيش واسقطه من سدة السلطة بعد أن بقي فوقها اكثر من ربع قرن، فقد امكن ـ بعد مفاوضات شاقة اعقبت تولي الجيش السلطة ـ اقامة حكومة مدنية تولتها الجبهة الوطنية التي قادت التظاهرات والاعتصامات لأكثر من اربعة شهور متصلة، تخللها اشتباك محدود سقط فيه عدد من الضحايا، قبل أن يسلم الجيش بالتفاوض وبتشكيل حكومة مدنية مبقياً الرئاسة في يده، لفترة انتقالية.
وكان ملفتاً، في هذا السياق، مقاطعة الحزب الشيوعي السوداني، ذي التاريخ العريق، وغيابه عن الحكومة الجديدة احتجاجاً على “التدخل الاجنبي” ـ السعودية والامارات ـ اللتين قدمتا عروضاً مالية سخية “للعهد الجديد”.
لقد بات المواطن العربي يخاف من أن يتفاءل بالتغيير، قبل أن يتثبت من هوية القائمين به وبرنامجهم السياسي ـ الاقتصادي والاجتماعي.
لم يعد هذا المواطن جاهزاً للتصفيق لكل من يصل إلى السلطة على ظهر دبابة، بعدما فجعته العديد من التجارب الخادعة، بل هو يريد أن يعرف من وكيف وبأي برنامج وطني، ثم يتمهل بالموافقة حتى لا يفجع مرة أخرى..
ويخاف هذا المواطن على مشاريع التغيير بالثورة الشعبية أو بالجيش كطليعة ثورية من تواطأ أهل النظام العربي عليه، بذهبهم واصرارهم على دوام الحال على ما هو عليه، حتى لا يجيء التغيير خادعاً.. ومأجوراً!
كما يخاف هذا المواطن من تكرار المأساة المفتوحة على المجهول، كما حدث لليمن بعد اسقاط العقيد علي عبدالله صالح، بالثورة الشعبية، وهو من تم اغتياله في ما بعد، اثناء محاولة هربه من صنعاء في اتجاه مقر قبيلته..
ولقد تدخل الجميع في اليمن ومشروع التغيير فيها: السعودية في الشمال، ودولة الامارات العربية المتحدة (العظمى) في جنوب اليمن، الذي تنبه اهلها إلى تجربتهم في الانفصال واقامة جمهورية اليمن الاشتراكية الديمقراطية، بقيادة من شباب حركة القوميين العرب الذين استيسروا بل بالغوا في الاستيسار استدراجاً للحماية السوفياتية آنذاك.. ثم انتهت هذه التجربة المختلفة شعاراً وسلوكاً عن المألوف لتنتهي بمذبحة هائلة سقط فيها أكثر من عشرة آلاف قتيل.
وها هي دولة الامارات تحاول تثبيت اقتسام اليمن، شمالاً وجنوباً، بينها وبين السعودية.. علما بأن سكان اليمن يعدون أكثر من ثلاثين ضعفا من سكان الامارات، وأقل قليلاً من سكان مملكة النفط والذهب.
لكن للذهب الكلمة في هذا العصر، وبه يمكن اذلال الفقراء، في اليمن كما في اقطار أخرى..
وقديما كان اليمن ارض الحضارة الأولى، ويذكر التاريخ أن العرب قد فتحوا الاندلس (في اسبانيا) بعمامة مقاتل يمني.. تحت قيادة المتحدر من اصول بربرية طارق بن زياد.
لكن ما كان صار من الماضي الذي لن يعود!
تنشر بالتزامن مع جريدة “القدس” الفلسطينية