فجأة، ومن دون سابق انذار، انتبه الناس في العالم اجمع، بدوله القوية والضعيفة، لا فرق، إلى أن الانسان الجبار، المحلق في الاجواء بالطائرات عابرة القارات، والذي اوفد بعثات التبشير بعقله الذي لا يقهرإلى القمر وبعض النجوم مخترقا السموات السبع.. ثم استعادها ليؤكد سقوط المستحيل..
انتبه الناس إلى انهم لا يعرفون أنفسهم بالقدر الكافي، ولا يعرفون ما تختزن اجسادهم من اسباب الامراض والعلل التي تفاجئهم، بين الحين والآخر، في تحدٍ خطير لعقولهم وابحاثهم العلمية واجتهاداتهم في قراءة التحولات في ارضهم وفي محيطهم، بدءاً بالهواء، مروراً بالمناخ، وصولاً إلى الطبيعة وتحولاتها بفعل تأثير الشمس او الصقيع.
…وانتبه الناس إلى حقيقة أن العالم صغير بحيث أن جراثيم لا ترى بالعين المجردة ولا بالإحساس المرهف، ولا بيقظة التنبه والحيطة، يمكنها أن تقطع الاجواء والمحيطات وتتجاوز القمم المثلجة التي لم يصل إلى ذرواتها أحد بعد، بمكنها أن تصل إليهم ولو كانوا في عز النوم، او يسمرون مع الحسناوات او يختلون بأنفسهم وهم يراجعون حسابات الربح والخسارة في تجارتهم او مصانعهم او الفنادق او مزارع الاغنام والابقار والدجاج والديوك ذات الاعراف.
انتبه الناس، حتى الانبهار، إلى التقدم العلمي في الصين ذات المليار نسمة، التي كانت اول من اكتشف الفيروس القاتل وأول من اكتشف العلاج لوقف انتشاره ثم القضاء عليه بالعلاج المناسب.. ولو طال زمن الاستشفاء.
واكتشفوا، بالمقارنة، “تخلف” اوروبا التي فتك الوباء بأهالي عواصم السياحة ومدن الفن العريق وموسيقى الفرح والرقص المبهج: اسبانيا وايطاليا وفرنسا وسويسرا والنمسا وصولاً إلى اسوج والنروج وروسيا حتى حدود المحيط المتجمد الشمالي.
بهرتهم “عدالة” هذه الجرثومة المدمرة التي لا تميز بين الاغنياء والفقراء، او بين “الصفر” و”السمر” و”البيض”، ولا بين الاجناس ذكوراً واناثا، اطفالاً او راشدين: اطباء ومهندسين وعمالاً وفلاحين وفقراء بلا معيل.
الكل سواء في نظر الوباء.. العادل!
ما يُلفت في هذا المجال طريقة تصرف الدول مع شعوبها ومدى شجاعتها او ترددها او جبنها ومخاتلتها، قبل ابلاغهم بوصول الوباء اليها، وكيفية التصرف مع من يصيبهم واسباب العلاج وقبلها ومعها طرق الوقاية من العدوى التي قد تميت من ” تضربه” من رعاياها.
البعض تعامل مع الوباء وكأنه فضيحة تمس شرف السلطة وتفضح تخاذلها إلى حد “التواطؤ” مع الجرثومة القاتلة..
وبعض اخر تصرف وكأن الوباء الوافد سر حربي لا بد من التكتم عليه منعاً “للشماتة” او اتهام الدولة بالتقصير والاهمال والاستهتار بصحة رعاياها..
ثم اضطرت الدول جميعاً إلى الاعتراف بالحقيقة ولو بالتدريج والتلاعب بأرقام المصابين وتوفر العلاج.. ثم انها انتبهت إلى أن كبريات الدول وأغناها، بدءاً بالصين وصولاً إلى الولايات المتحدة، مروراً بأوروبا المنكوبة بمختلف دولها وعواصمها الجميلة التي كانت دوماً مقصد السياح ومنبت الشعراء وقصائد الغناء والطرب والرقص: باريس، مدريد، فيينا، روما، نابولي، ثم لندن وستوكهولم الخ… قد اعترفت، بشجاعة، بانتشار الوباء فيها وتنبيه الناس إلى طرق الوقاية واسباب العلاج.
وهكذا أخذت العواصم العربية، جمهورية وملكية واماراتية تعترف، بخجل بداية، ثم تشجعت فباشرت مصارحة رعاياها بالحقيقة تدريجياً، ومعها ارشادات الوقاية ومراكز العلاج..
وفي حين انبرت واشنطن للتشكيك بصحة الرواية الصينية عن الوباء وارقام المصابين، برغم أن الرئيس الصيني ذهب بنفسه إلى المدينة التي ضرب الوباء اهاليها في بداية انتشاره، فإنها سرعان ما بلعت لسانها عندما انتشر الوباء في انحائها… وصولاً إلى بعض مساعدي الرئيس الاميركي ترامب في البيت الابيض.
وعلى عكس ما فعل الرئيس الصيني فان الرئيس الاميركي ونائبه قد امتنعا عن عيادة بعض من اصيب من اعوانهما في البيت الابيض للاطمئنان إلى سلامتهم.
المسألة تتعلق ببعض المبادئ والمسلمات:
اولها: حق الشعوب بأن تعرف ما يتهددها للتحوط في مواجهة وباء لا يرحم ولا يعترف بالتراتبية في المناصب والمسؤوليات.
ثانياً: أن الوباء ليس فضيحة يفضل طمسها او اخفاؤها والسكوت عنها، خصوصا وان سرها لا يمكن كتمانه، ومع تعذر ضبطه فان التستر عليه سيحوله من وباء قابل للعلاج إلى فضيحة وطنية تشابه تحالف السلطة معه على شعبها.
ثالثها: إن التستر يشكل انحيازاً إلى الوباء ضد الشعب بل ضد الشعوب جميعاً، خصوصا وان الوباء قد أسقط الحواجز بين الدول في مختلف القارات فضرب الغرب كله بعواصمه المزدهرة، والشرق كله بعواصمه ومدنه الناهضة، وإيران الجمهورية الاسلامية المحاصرة والتي تمنع عنها ادارة ترامب الادوية واسباب العلاج، ودول افريقيا الفقيرة والتي قد لا يملك رعاياها ثمن العلاج.
بين الدروس المستفادة من انتشار هذا الوباء انكباب العلماء في اربع رياح الأرض على دراسة اسبابه وكيفية منع انتشاره فضلاً عن النجاح في ابتكار اسباب العلاج.. لكي يمكن الارتياح إلى محاصرته تمهيداً للقضاء عليه.
فالناس شركاء في الصحة واسباب السلامة، والاهمال قاتل، والتقاعس قاتل، ولا مجال للشماتة او لادعاء الحصانة، والناس اخوة: تحميني فأحميك..
وختاماً: لا نملك الا الدعاء بشفاء من ضربه هذا الوباء، وعسى تستطيع البشرية أن تبتدع اسباب حماية حياتها وحماية اطفالها ضمانا لمستقبلها الافضل.
حماكم الله، حيثما كنتم، من الكورونا وسائر الاوبئة.
تنشر بالتزامن مع جريدتي “الشروق” المصرية و”القدس” الفلسطينية