أنت مسيحي، أو انت مسلم، وهذا سني، ذاك شيعي، هؤلاء دروز وأولئك… كفرة.
ما زلنا في العصر الحجري، سياسياً.
أنت لست موجوداً في ذمتك. إنك تقيم في ما قبل الدولة. انسانياً، انت متخلف عن العصر. تلبس الدين قناعاً لإقناعه. مثل هذا، عرفته حقب عربية. كان الدم هو اللغة المتبادلة. تعايش العداء يغذي شهوة الماضي. تباً، لمن يقّلد ما مضى، وهو مستحق لعقوبة الاقامة في ما مضى.
العرب في أزمة. ما عادوا عرباً. استعادوا حضور القبائل، استضافوا اسلام الفقهاء والخلفاء والسلاطين، وأصحاب التمسك بها بـ”حدثني فلان عن فلان قال”. وقوله في مرتبة المُنزل.
يطيب لكثيرين أن يتهموا الغرب بصناعة “داعش”، كما اتهموا بريطانيا بصناعة “الاخوان”. يتبرأون من مسؤولياتهم.. هؤلاء منا وفينا وعلينا.. هذا نبت من عندنا. من بطون الكتب جاؤوا. الاسناد لا يعوزهم. القراءة الحرفية أرقى درجات تعلمهم. المرجعيات، التي ماتت او التي حية ترزق، متوفرة، في كل زاوية ومتكأ من “يُفتي” ومن “يجتهد” ومن يسن السيوف، من يوزع التكفير. كل الذي فتك فينا، هو من عندنا. أعدموا الربيع العربي، ثم، راحوا يتداولون “قميص عثمان”.
غداً تودعنا “داعش”. قد لا تجد “النصرة” من ينصرها، قد “يهتدي” المتحاربون إلى ضفة، تعيد الامور إلى نصابها المذهبي. فالعرب، ما عادوا عرباً. كانوا سنة وشيعة وعلويين و…، وسيظلون كذلك، حتى أخر عربي، ما زال يقول بإيمان وحماس: “سجل انا عربي”، ولن يجد سجلاً عربياَ لهذا العربي.
غداً، بعد حصاد الحرائق، من يقول لنا، “الفتنة” انتهت. صورة مستقبل هذه المنطقة، في أفضل حالاتها، هي رسم فسيفسائي متنافر، من سنة وشيعة واكراد وأروام وهذه سلالات بائدة، تبنتها قوى مبيدة وإلغائية.
ويسألونك عن العنف! مصادره شتى. منابعه كثيرة. ونادراً ما تُتهم السياسة بذلك. الارهاب ليس مولوداً دينياً. هو مخلوق سياسي. ابن وضعية سياسية. سليل سياسات ملعونة.
ماذا فعل الغرب بنا؟ لا علاقة لدينه بسياساته. مارس القوة تأسيساً لمصلحة، تحالف مع الحركة العربية، لضرب العثمانية، طمعاً بحصة من تركها. جاء الينا شاهراً سكين التقسيم. مفتتحاً منطقة من خلال طوائفها ومذاهبها: لبنان المسيحي. بلاد العلويين. جبل الدروز إلى آخره. الغرب علماني. مسيحيته خلفه. ولكنه استحضر شياطين المذاهب والطوائف والاثنيات، وفصَّلنا على قياس “فرق تسد”.
خسر المسلمون اسلامهم. عوضوا عنه سياسياً باستيلاد منظمات اسلامية. الاخوان في الطليعة، ومنهم بدأت السياسة، وطلعت علينا نظرية “الحاكمية لله” وما تلاها من عنف ودم… من قبل، كانت “الوهابية” قد انجزت ردتها، وأنشأت كيانا يفيض نفطاً ويعمم تكفيراً. الجحيم بدأت من هنا.
على أن ذلك ليس الا السبب الاساس. تولت الانظمة التابعة للغرب، محاربة شعوبها التي تتطلع إلى الحرية والعدالة والديموقراطية. لم تتأخر “العروبة”. حضرت ومعها زاد للمستقبل. كانت تهجس بالتحرير والوحدة والحياة الكريمة. فشلت. الغرب حاربها وهي ارتدت على شعوبها. لو كانت القومية بديلا عن الاستعمار وبديلاً عن تنصيب الدين مرجعية… شعوبها مرجعيتها، لكن قمعها لشعوبها، أيقظ كابوس التأسلم وفوّضه اجتياح البلاد. فكان أن بلغنا، بعد عصر “الاخوان”، عصر “الدواعش”.
غداً، أي بلاد لنا؟
واضح أن البلاد ستكون على دين طوائفها. ستكون بلاداً سنية، باسم مستعار، وبلاداً شيعية بلقب مستعار، وما بينهما، اقليات تفتش عن دور حماية والغرب مستعد لذلك.
أنت مسيحي، او انت مسلم، وهذا سني، وذاك شيعي، وهؤلاء دروز وأولئك… كفرة.
لبنان هو هذا. خاض حروبه الدينية منذ عهد الامارة. ثم خاضها في حرب الخمسة عشر عاماً، ثم عشنا على الخوف من عودتها. طوال ما بعد الطائف.
لم نبلغ سن الرشد السياسي. بالغنا في العمى الديني. لن نبصر مجتمعاً واحداً. سيكون لدينا جماعات، ترث حاضرنا وتقيّده في حسابات الماضي.
من قال أن “داعش” انتهى. الاسلام السياسي قادر على إنجاب أكثر اجراماً.
ما زلنا في القرون الوسطى. بكل اسف.