أتذكرها في الملاهي ممتطية حصانا خشبيا يدور بها دورة بعد دورة على أنغام طفولة صاخبة. أتذكر شعرها الأسود وقد امتطى الريح بعد أن حررته من أسر شريط حريري أحمر كان هناك واختفى. أتذكر نظرتها الملحة وقد توقفت الأحصنة عن الدوران لأهرع اليها أحملها من فوق ظهر حصانها وأنزل بها من “الكاروسيل”. أتطلع إليها لأنعم ببعض ما يفيض من سعادتها فأرى انتباهها وقد راح في اتجاه العجلة الحديدية العملاقة. اشتهرت العجلة منذ اختاروها لتزين الصور السياحية لهذه المدينة الرائعة المطمئنة دائما إلى مزايا موقعها في وسط أوروبا وإلى تاريخها الخلاب.
***
تنقلت صغيرتي حتى كبرت بين مدارس في مدن كثيرة، مدارس تتحدث لغات مختلفة وتلاميذها من شعوب متباينة في اللون والشكل وفتلات الشعر ونعومة الجلد واتساع العيون. انتقلت إلى الجامعة ثم أخرى لتضيف إلى ما اكتسبته في السابق خبرات أكثر في الحياة وخلاصات من تجارب شبابها وشباب زملائها. تخصصت ثم تزوجت ثم أنجبت ثم التقينا بعد غياب طويل.
هنأتها على ما حققت على الصعيدين، صعيد الفعل وصعيد العمل. علقت على تعمدي الفصل بين الفعل والعمل. قالت لعلك أحد القلائل الذين يوجهون الشباب حديثي التخرج نحو تكثيف جهود البحث عن ذواتهم ولو على حساب البحث عن عمل. ما يحدث في معظم الحالات هو أن شبابنا يتخرجون وفي اللحظة التالية تجدهم في سوق العمل. لا شك في أن الأكثرية العظمى في أمس الحاجة، ماديا واجتماعيا، إلى الارتباط بعمل. ولكن لا شك أيضا في أن الشاب نفسه والوظيفة التي شغلها فور تخرجه والوطن الذي استثمر كثيرا في تعليم هذا الشاب وحمايته، كلهم حصلوا على شخص لم يتعرف بعد على ذاته، وبمعنى أدق لم يتعرف على كل «ذواته».
***
معظم الشبان الذين عرفتهم إذا سئلوا عما يفعلون في حياتهم وبحياتهم يجيبون، نعمل في شركة كذا أو وزارة كذا أو لدي عملي الخاص، لا يميزون بين الفعل والعمل لأنهم نشأوا في بيئة تعتبر الشاب اكتمل يوم توظف. قليلون، ولكن يزدادون مع الوقت، الشبان الذين يستمرون في البحث عن الذات. يشعرون، وربما يعرفون عن ثقة، أنهم غير مكتملين. هؤلاء القليلون يعرفون أن ذواتهم كثيرة جدا وبعضهم أظنه قرأ ما كتبه في عام 1977 بابلو نيرودا، الشاعر الشيلاني الرائع، تحت عنوان «نحن كثيرون». يقول نيرودا ما معناه إنه «عندما أكون قد رتبت نفسي على أن أبدو أمام الآخرين مثقفا وذكيا، يفاجئني الأبله والغبي الذي يسكن داخل شخصي فإذا به يقفز ليتصدر الحديث باسمي ويقول كلاما تافها وعبيطا وغبيا».
كلنا شهود على حالات من هذا النوع أو شركاء فيها. كم مرة دخل كل منا امتحانا شفهيا فجاءت إجاباته دون مستوى ما عرف وما حفظ. مرات عديدة تخرج من داخلنا ذات أخرى لا نعرفها تبهر الحاضرين بطلاوة لسانها وسعة مداركها وخفة ظلها. كثيرا ما أسر لي شبان، من الجنسين، أنهم ذهبوا إلى لقاء عاطفي بعد سعي طويل وجهد كبير واستعداد وتدريب، فإذا باللسان يعجز فيتلعثم وبالدم المتدفق بغزارة في عروق الرقبة والوجه يفضح الخجل، وقطرات العرق في عز الشتاء تنهمر وإذا بالنظرات تزوغ. هذا كله من فعل ذوات أخرى تسكنهم.
***
لا تسخر من كهل أو شاب يجد ويجتهد في البحث عن الذات. الرئيس السادات نشر كتابا بعنوان البحث عن الذات. هذا الرجل اختار وهو شاب العسكرية مهنة والنضال السياسي عقيدة والتمثيل هواية والثورة هدفا. وفي مرحلة أخرى من عمره اختار الصحافة والإعلام وظيفة والعمل الإسلامي تكليفا وواجبا وتمثيل الشعب في مجلس للأمة دورا، وفي مرحلة لاحقة قاد البلد نحو حرب ضد عدو لدود ثم فجأة إلى صلح معه. ذوات عديدة كشفتها أعماله وهواياته ومع ذلك عاش إلى آخر حياته باحثا عن ذوات لم تعلن عن نفسها. كلنا هذا الإنسان. لا أقصد السادات طبعا ولا غيره تحديدا إنما استعنت به لأنه أحد قليلين مستعدين للاعتراف بأن جدول هوياتهم ظل مفتوحا، وأنهم ربما عاشوا إلى نهاية العمر غير راضين تماما عما حققته ذواتهم غير المكتملة.
سومرست موم كان يقول إن شخصيته حصيلة اجتماع أشخاص عديدين في شخص واحد. قال ما معناه إن الشخص الموجود الآن أمامكم له اليد العليا في تصرفات الأشخاص الآخرين غير الظاهرين لكم وسوف يترك مكانه إن عاجلا أو آجلا لشخص آخر منهم. وفي هذا الشأن يقول سكوت فيتزجرالد إنه لا يعرف روائيا جيدا كتب سيرة حياة جيدة. ولن يحدث. الروائي الجيد هو أشخاص عديدون في شخص واحد، فسيرة أى شخص من هؤلاء سيكتب؟ إنها الفوضى الشاملة. كتب الكاتب البرتغالى فرناندو باسوا يقول إنه عاش حياته من خلال خمسة وسبعين شخصية، كان يشعر مع كل منها أنه ولد من جديد. أعرف ناقدا عاش يعتقد أن كاتب السيرة الذاتية، أيا كانت مهنته وتاريخه، هو روائي لأنه اصطنع أو اكتشف أكثر من شخصية لنفسه خلال كتابته سيرته الذاتية وبعضها لم يكن يعلم بوجوده.
***
عقبت صغيرتي التي لم تعد صغيرة بقولها، كثيرا ما كنت أتوقف أمام صديقة أو زميلة تقول، وجدت نفسي. كدت في كل مرة أسال هذه الصديقة وتلك الزميلة «أين وجدت نفسك، متى ضاعت منك، وكيف ضاعت، هل أسأت إليها، إلى نفسك أعني، أم قررت نفسك من تلقاء ذاتها التخلي عنك لأنك صرت تفضلين نفسا أو هوية أخرى عليها؟ هل خنت عهدها فتركتك إلى غيرك؟ أنت حين تبحثين عن النفس أو الذات فأنت تعترفين فعلا وحقيقة أن ما لديك من هويات لم يعد يكفي للتعامل مع التغيرات العديدة التي تلحق بك وبنا جميعا. الحياة موجة أحداث. تلاحقنا الأحداث ونحن نكبر في العمر. نكبر ونتغير في الوقت نفسه، ومع كل تغيير قد نحتاج إلى إدخال تعديل على ترتيب ذواتنا أو نبحث عن ذوات جديدة.
***
في بلادنا يهتمون بالأصل للتعرف على ذات أو أهم ذوات الشخص. الأمريكيون يرفضون العودة إلى الماضي، وهو الرفض المستند إلى التقدير الكبير في الثقافة الأمريكية الذي يولونه لمبدأ العصامية. هناك في أمريكا لا يسألون من أبوك، في أوروبا يسألون. يقول الأمريكي، أنا أنشأ من لا شيء. أنا بلا ماضي. أنا برئ من الماضي، أحمل في داخلي تراث البراءة والطهارة من أسطورة آدم وحواء. أسطورة البراءة الكاملة. بمعنى آخر أنا أصنع ذواتي ولا أرثها، لا يهمني في حياتي إلا المستقبل. لا أنظر ولن أنظر إلى الخلف.
***
أعود إلى المرأة «المكتملة» التي جلست معي لتذكرني بنفسها طفلة تدور بحصانها في عالم من الملاهي البريئة. قالت تراني اكتملت وأنا لم أكتمل. في داخلي ما زالت تعيش هذه الطفلة التي رأيها وحملتها ذات يوم بين ذراعيك. تدفعني دفعا في أحيان كثيرة لأعيش عيشتها. وبالفعل أفعل. أنا أعيش سعيدة مع ذواتي، لا أغفل حق واحدة منها ولا أخجل من أخرى وأعرف أن هناك في داخلي ذوات أخرى لم أعشها بعد وسوف أظل أبحث عن ذوات وأصنع هويات. صديقي، صارت متعة حياتي البحث عن ذواتي.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق