اتخذ المسار الفلسطيني منحى جديداً في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. إسرائيل تريد إنهاء القضية الفلسطينية، بالإتفاق مع الإمبريالية الأميركية، وبشراكة كاملة مع المنظومة الحاكمة العربية. شهر من الإبادة الجماعية لغزة، مع مسعى لإخلاء القطاع، ويبدو أن أمراً مشابهاً بدأ يتحرك في الضفة الغربية. وكل ذلك وسط صمت مريب من الأنظمة العربية، وبعض الصراخ من الدول الإسلامية!
لم تعد المسألة إنهاء المهمة بل الإسراع بها، إذ يتوجس الأميركيون من إطالة المدة التي يتلذّذ بها الصهاينة بجميع أطيافهم. بعضهم دعا إلى استخدام السلاح النووي، على خطورة الأمر وثقله على مسامع الجميع بما في ذلك بينامين نتنياهو وسادته الأميركيين.
استخدم السلاح النووي سابقاً في نهاية الحرب العالمية الثانية لا من أجل كسر اليابان وإعلان هزيمتها، بل من أجل استسلامها للأميركيين من دون شروط. التلويح باستخدام السلاح النووي الآن فيه بعض من ذلك. لا حل الدولة الواحدة الذي استبعد أساساً، ولا حل الدولتين الذي وافقت عليه إسرائيل كلاماً ولم تسمح بتطبيق شيء منه، بل تحقيق ما حلم به الصهاينة منذ البداية، “أرض بلا شعب (فلسطين) لشعب بلا أرض (اليهود)”. بذلك تكون النكبة قد اكتملت بمجزرة أخرى. و”خطة دالت” قد تحقّقت. والكتاب المقدس (التوراة) قد فُسِّر تفسيراً صهيونياً بالكامل.
بعض الأنظمة العربية وقّعت اتفاقاً مع إسرائيل (كامب دايفيد ووادي عربة)، وبعضها اتخذت التطبيع مسارا، والبعض الآخر بصمت، كأنه يستكمل الإجماع السكوتي على ما فعلته الأخريات. ولكن في جميع الأحوال، وربما كان هنا استثناء أو استثناءات، لا نعرف عنها شيئاً، إذ لم تفعل الأنظمة شيئاً لإنقاذ فلسطين وشعبها، سوى بعض محاولات خجولة لإدخال المساعدات الإنسانية.
في نكبة العام 1948، تدّخلت جيوش عربية، وكانت أكثر عديداً من العصابات الصهيونية. اتهمت وقادتها بالخيانة حيناً والتخلف حيناً آخر. أما الآن، فلا لزوم لأي شيء من ذلك. إذ لا تدخل وبالتالي لا هزيمة لها (الأنظمة). يبدو أن الأنظمة العربية توافق على ما تفعله إسرائيل ولا تعترض إلا إذا كان الأمر همساً، فالراعي الأميركي يدير ما يحصل، وجميع الأنظمة العربية خاضعة له، ومندرجة في برنامجه بشكل أو بآخر. والكلام هنا عن أنظمة دول وعن الأنظمة غير الدول.
منذ الثورة العربية لعام 2011، شنّت الأنظمة العربية حروباً على شعوبها، وقد سمي ذلك بالثورة المضادة. ما يجري في فلسطين يستكمل ذلك. الأنظمة العربية لا تخون نفسها. هي جزء من نظام عالمي؛ ومهما قيل عن تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلا أن القوى الفاعلة جميعها في هذا النظام، وموافقة على ذلك، وبحدة غير مسبوقة. والمقاومات هنا وهنالك لا تدري، أو هي لا تريد أن تدري. ماذا تقاوم الآن؟ الدول واللادول العربية مندرجة فيما يجري ولا لزوم كي نغش أنفسنا بزوبعة في فنجان. هي جزء من النظام العالمي برضاها وبطلب منها كي تبقى في السلطة. وعندما ردّد قادة إسرائيل والولايات المتحدة أنه سيكون من نتائج الحرب على غزة تغيير في شكل منطقة الشرق الأوسط، فإن الكلام يجب أن يُحمل على محمل الجد، إذ الكلام مدعوم باستخدام أكبر حاملات الطائرات وبعض أخواتها، وبعض فرق التدخل السريع، واقتطاع المال من الموازنة الأميركية، من بنود ذات علاقة بالأمور الإجتماعية والصحية، إضافة إلى مساعدات بالسلاح لإسرائيل. فكأن هذه ينقصها السلاح.
والمضحك اشتراط أن لا يستخدم هذا السلاح الأميركي لدى المستوطنين أو في أغراض لا تمت لحقوق الإنسان بصلة. فكأن كيان إسرائيل تأسّس على حقوق الإنسان، وعلى غير استلاب أرض الغير وطردهم من مدنهم وقراهم. غير معروف بعد مدى التغييرات التي ستحدث في المنطقة والتي ستجريها الامبريالية في النظام العالمي. لكن العمل فيها قائم على “قدم وساق”، كما يقول المثل السائد. إن تدفق الوزراء والحكام الى المنطقة يدل على أن وراء الأكمة ما وراءها؛ زار وزير خارجية الولايات المتحدة المنطقة 3 مرات في شهر واحد، أي منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر. ليس أن تغييرات ما ستحدث لكنها ربما كانت كبيرة وغير متوقعة.
والظاهر أنها سوف تكون سريعة. والأكيد أنها في غير صالح العرب وسوف تزيد من مآسيهم، إذ من غير المتوقع أي خيرٍ على يد الامبريالية. النهب حاصل، والعنصرية يزداد منسوبها، والفاشية أكثر انتشاراً، والحقد على الغير أكثر تعمقاً في بلدان المراكز الامبريالية. أما ضخامة المظاهرات التي تنم عما يناقض ذلك فهي لن تكون ذات تأثير كبير، على الأقل على المدى القريب.
قُدّم “وعد بلفور” خلال حرب كبرى، كذلك الاتفاق على تقسيم المنطقة في تفاهم سايكس-بيكو، وهذه الحرب إن لم تكن عالمية إلا أن مفاعليها يمكن أن تكون كذلك. على كل حال، هناك على الأرض ما يشبه ذلك من جيوش الدول واللادول، وهي تليق بتغييرات كبرى في الحدود أو الديموغرافيا أو الاقتصاد أو ما لا يعلم إلا الله ماذا يكون.
لن تفهم الامبريالية، بل لا تتقبل فكرة أن الشعوب في الزمن الراهن تعتقد ولو وهماً أنها في مرحلة تقرير المصير. ليس أن مصيرها يُقرّر لها بل هي التي تُقرّر مصيرها. ليست مرحلة التحرر الوطني مرحلة تقرير المصير إلا عند الاستقلال، بل كل ما تلاه كان تبعية واستغلالاً خارجياً، لا ندري إذا كان أشد وأدهى من الكولونيالية السابقة أو أقل، لكن المهم أن ما اعتاد عليه العرب من جري الأمور بالطريقة التي ولدوا عليها، وبقيت سارية المفعول بعد ذلك سوف تتغيّر، والتغيير لن يُقرروه هم، بل سيُقرّر بالنيابة عنهم، وسوف يُفرض عليهم. والجيوش البحرية جاهزة لذلك.
سينال التغيير المنظومة الحاكمة أو شكل الدول لكن ما دون ذلك ما زال مجهولاً. اعتقدت الأنظمة أن الحرب على غزة وإزالة فلسطين سوف يؤديان إلى انقاذها. لكن هي ربما ما يحتاج إلى إنقاذ. أما الشعوب فسوف تتآكلها ذئاب النظام العالمي وتتقاسمها، أو بالأحرى، تُوزّع على أنفسها ما بقي لدى هذه الشعوب.
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق