عرفان نظام الدين يستحضر نزار الذي لا يغيب…
أصابت لوثة الأدب زميلنا الدمث والأنيق عرفان نظام الدين منذ زمن بعيد فحاول التعبير عنها رواية، ثم قارب الشعر، وها هو في كتابه الجديد يكتفي بدور الراوية، من موقع الصديق فيطلعنا على «آخر كلمات نزار».
غريبان في مدينة الضباب التي كادت تتحول من منفى أنيق إلى وطن بديل ولو بصيغة المؤقت الذي يتحول إلى دائم، جمعت بينهما صداقة عريقة فضلاً عن الاشتراك في عشق الكلمة، وقد مكنت هذه الصداقة عرفان من أن يعيش قريباً جداً من نزار حين اشتد عليه المرض، فكان المؤنس والسمير والراوية متى تطلّب «الوضع» رفع معنويات الشاعر الذي عاش للحب وبالحب حتى النفس الأخير.
هكذا نتعرف من خلال كتاب عرفان على عائلة نزار قباني: كريمته هدباء (حارسة أسرار البيت) التي لم تلبث أن رحلت ملتحقة بأبيها، وابنه عمر الذي «اختفى في دبي» ثم زينب التي غابت سنوات، ثم شقيقه صباح قباني الذي رحل بعده.
يبدأ الكتاب «بتقديم على مقام العشق مكرر» لعبد الله الجفري.. ثم تأتي الكلمات الأخيرة لنزار: «رأيت قبل أن أموت أبعاد مجدي ومهرجان حصاد الحب»، وهي تلك الجملة التي عبّر بها عن فرحته عندما صحا من غيبوبته الأولى بعد ذبحة صدرية أليمة… وقد أضاف بعدها: «حين دخلت غرفتي في المستشفى كنت شيئاً، وبعد أن خرجت منها أدركت أنني أعيش ولادتي الثانية».
«.. وكان يحلو لنزار ان يتحدث دائماً عن حب الناس له، لا من باب الغرور أو النرجسية بل عرفاناً بالجميل وتعبيراً عن مشاعره الدفينة تجاه عواطف جمهوره العريض الذي ينتمي إلى كل الأجيال».
وعن موقعه كشاعر وهل هو من أهل الحداثة أم من شعراء التقليد، كما يقول عنه شعراء الحداثة، يقول نزار: ليس هناك تناقض. هناك حقيقة يعرفها الجميع، فأنا نزار قباني ولغتي خاصة بي، وشعري ملكي ومسجل باسمي.. ولكن هذا لا يعني أنني ضربت الأسس المكوّنة للشعر. فأنا تمسكت بالأسس والموسيقى وكل ما في الشعر التقليدي من جمالية وتصوير، فأنا أرسم بالكلمات من دون المسّ بالقواعد أو اللعب بالتفعيلة، وقد تجاوزت البحور الكثيرة المعقدة، ورسمت خطاً فاصلاً وضعت شعري فيه بكل ما فيه من خصوصية، ولا يهمني ما يقول هذا وذاك، ولكنني أفرّق بين الشعر الجيد والشعر الرديء.. ولكن الذي ابتلينا فيه أن كل من هبّ ودبّ صار يطلق على نفسه اسم شاعر ويصدر دواوين ويهاجم الشعراء الكبار، ويقيم الأمسيات فيتمتم بكلمات غير مفهومة وكأنه يهذي، ويهاجم الشعر العربي التقليدي والعروض والتفعيلة زاعماً أنه رجعي وأن شعره هو شعر العصر، فإذا به شعر هجين وخلطة عجيبة: لا لغة ولا وضوح ولا موسيقى ولا جرس ولا معنى ولا طعم ولا لون ولا رائحة ولا أسس ولا مقومات، فهو إذن شعر ينطبق عليه وصف «ابن حرام» أو ابن غير شرعي للشعر الحقيقي، وأكثر رواده من أنصاف المتعلمين».
في مجال آخر يتحدث نزار قباني فيقول: اخترت الشعر طريقاً ومهنة واحترافاً ومشيت مشواري الطويل دون أن اتخلى عن حب الموسيقى.. أما تجربتي مع الفنانين وأولهم الأستاذ الموسيقار محمد عبد الوهاب فقد كانت غنية ومثمرة.. ويجب أن أعترف بأن شعري حقق لي انتشاراً واسعاً عندما غناه لي مطربون كبار مثل أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة في مرحلة أولى ثم ماجدة الرومي وكاظم الساهر في الآونة الأخيرة.. فالشعر المغنّى يصل إلى الملايين.
وعن الفنانين الذين تعامل معهم قال نزار: إن عبد الوهاب هو سيّدهم، هو ساحر في ألحانه وفي غنائه وفي أدائه وحتى في كلامه وفي ثقافته وحلاوة لسانه، حتى أنني قلت له مرّة: إنك تتحدث وكأنك تغني! أما أم كلثوم فإن تجربتي معها كانت محدودة وقد غنّت لي أغنية واحدة هي «أصبح عندي الآن بندقية»، واعتذرتْ عن أغنية «اغضب كما تشاء»، وقالت لي بأسلوبها الساخر: «إن أم كلثوم لا يمكن ان تقول للرجل هذا الكلام ثم تسامحه.. أنا كنت أوري له نجوم الظهر لو خانني أو لعب بديله..».
عن عبد الحليم حافظ قال: إنه توأم روحي، وعن نجاة: إنها عصفورة تصدح.
أما عن حقوقه فقال: لا أسمح لأحد بأن يأكل عليّ حقاً مهما كان. حتى في المقابلات التلفزيونية يأخذون من وقتي ساعات مجاناً بينما في كل بلاد العالم كل دقيقة لمبدع لها ثمن.
«كل غمامة تبكي عليك… فمن ترى يبكي عليّ!»
هذا البيت من قصيدة بلقيس زوجته البهية الجميلة، وهي التي قال عنها:
«بلقيس ـ كانت أجمل الملكات في تاريخ بابل..
«بلقيس ـ كانت أطول النخلات في أرض العراق
«بلقيس لا تغيبي عني فإن الشمس بعدك لا تضيء على السواحل.
«كان البنفسج بين عينيها ينام ولا ينام.
«يا عطراً بذاكرتي، ويا تبراً يسافر في الغمام».
ويختم عرفان بوصف مأتم نزار قباني في دمشق الذي تحوّل إلى مهرجان حب: كانت جنازة تليق بابن دمشق البار وشاعر العرب.. ويستذكر أبياتاً لدمشق قال فيها:
«أعود إلى دمشق ممتطياً صهوة سحابة
«أعود ممتطياً أجمل حصانين في الدنيا
«حصان العشق.. وحصان الشعر»
وهو القائل في قصيدة قبلها:
«آه يا شام كيف أشرح ما بي
وأنا فيك دائماً مسكونُ
حامل حبها ثلاثين قرناً
فوق ظهري وما هناك معينُ
شام يا شام يا أميرة حبي
كيف ينسى غرامه المجنونُ».
كذلك فهو القائل:
«يا شام، يا شامة الدنيا ووردتها
يا من بحسنك أوجعت الأزاميلا
وددتُ لو زرعوني فيك مئذنةً
أو علقوني على الأبواب قنديلا».
وبالتأكيد فإن عرفان نظام الدين يحس بالرضى عن النفس لأنه قد وفى بعهده لصديق العمر فأعطاه في وداعه ما كان يستحقه في حياته.
تأليه جورج واشنطن والمقلدون العرب..
نختم القراءة في كتاب منير العكش «دولة فلسطينية للهنود الأحمر» بهذه السطور التي تشهد على أن تأليه جورج واشنطن قد تم بقرار واعٍ، وخلال حياته، ما مهد لأن يتحوّل إلى أسطورة تزداد تضخماً وقداسة عبر السنين.
وتكمن أهمية هذا الاقتباس في أنه يعرّفنا إلى ان وباء تأليه القائد ـ الملك ـ الرئيس ـ الأمير، وصولاً إلى «الشيخ» ليس اختراعاً عربياً، بغير أن ننكر على جهابذة النفاق العربي أنهم قد أضافوا وابتدعوا جديداً بحيث رفعوا الحاكم إلى مستوى الألوهة.
«يُعتبر جورج واشنطن أعظم كائن مقدّس تحتفل أميركا بميلاده سنوياً في يوم خاص مقدّس هو «يوم الرئيس» President day. وفي الذكرى المئوية الثانية لميلاد واشنطن، مثلاً، احتفلت أميركا كما لم تحتفل أبداً بميلاد السيد المسيح حتى في ميلاده الألفي الثاني.
في تلك السنة (1932) وفي ذروة ما يعرف بالانهيار الاقتصادي الكبير احتفلت أميركا بميلاد واشنطن احتفالاً استعراضياً لا سابقة له في تاريخ البشرية المعروف: أربعة ملايين و 700 ألف برنامج وطني احتفالي يومياً من 22 فبراير حتى عيد الشكر (24 نوفمبر). وخلال الاحتفال بهذا العيد السعيد تشكلت 800 ألف لجنة مدرسية وكنسية وكشفية تعمل على تبليغ رسالة واشنطن إلى أكبر عدد ممكن من الناس. كذلك زرع المواطنون بهذه المناسبة 30 مليون شجرة تذكارية، ووزعوا أكثر من مليون نسخة من أغنية «واشنطن أبو الوطن الذي نحبه» «Washington, Father of the Land We Love» بينما تم توزيع أكثر من 12 مليوناً و 900 ألف نص شاعري عن تفاصيل السيرة الواشنطونية وفضائلها الأخلاقية، ونشرت الصحافة الأميركية خمسة ملايين مقالة خاصة بهذا المولد (بمعدل 15500 مقالة يومياً)… الخ
أما دايفيد تبان David Tappan أستاذ الإلهيات في هارفرد فيعزو قداسة واشنطن إلى ملامح وجهه السماوية (!) التي أهّلته لأن يصنف مع آلهة الأرض.
وفي تلك الفترة الحافلة بالمصائب الاقتصادية والاستعراضات الوطنية زار القاضي والكاتب الفرنسي اميركا ولاحظ أن «واشنطن في اميركا ليس إنساناً. إنه إله»!
حكاية / النزول من الجنة!
قال له صديقه المعشاق وهو يعرض عليه «ألبوم» عشيقاته:
ـ أرى أنني أستحق النساء جميعاً. فأنا وسيم، كذلك فأنا مرتاح مادياً، لي سكني الخاص وسيارتان، وثلاثة هواتف بأرقام مميزة، وعندي مجموعة نادرة من ربطات العنق، وعلبة «سيكار» من أندر الأنواع وأغلاها. أختار من بين الصبايا أجملهن. نظرة فابتسامة فموعد راقص يليه عشاء حميم.. وفي البيت جهاز يبث أرقى موسيقى كتبت للعشاق، وأفخر أنواع النبيذ، لمن رغبت، وإلا فالكونياك. فإذا حان وقت الرقص خفتت الموسيقى حتى صارت همساً والهمس يأخذ إلى الذوبان عناقاً.
كان الصديق يتابعه مأخوذاً، وعندما همّ بأن يقول شيئاً تابع المعشاق يقول:
ـ خذ حصيلة تجربتي: الحبيبة الواحدة سجن، ولو كانت أجمل نساء الأرض.. ولأنني عاشق للحرية فأنا طائر له حق اختيار العش الذي يرتاح إليه في أحضانها.
سأل الصديق: وماذا عنها.. أو عنهن؟
وردّ بسرعة: لها أو لهنّ أيضاً حق الاختيار.. ومع أكثر من اختيار خاطئ وجدت نفسي وحيداً.. ولكن العديد من المغرورات أو من عاشقات الحياة وقد تحررن من القيود، عدنَ إليّ بعد حين صاغرات.. مع إعجاب إضافي برجولتي.
رنّ الهاتف، فرد بعد لحظات وهو يشير إلى صديقه يشهده: أهلاً حبي!
لم يسمع الصديق كل ما قالته، لكنه قرأ في ارتباك المعشاق ما يؤكد ادعاءاته جميعاً، بشهادة وجهه الذي غمره عرق الخجل وصوته الذي اختنقت فيه الكلمات.. فلما انتهت المكالمة التفت إلى صديقه قائلاً بحنق: سأؤدّبها هذه الفاجرة. ولسوف ترى.
وانصرف الصديق مودعاً وهو يقول: لا تنسَ أن حواء أنزلتنا من الجنة، بحسب أسطورة الخلق!
من أقوال «نسمة»
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ يحاصرني حبيبي آناء الليل وأطراف النهار.. والحصار أنواع، يحاصرني بصوته حاضراً وغائباً، بعطره، بطيفه، بتداخل ملامحه مع ملامح بعض من ألتقي. إنه لا يغيب لحظة. أما متى حان موعد اللقاء فتفتح أبواب الجنة ويتهاوى الكلام همساً حتى السكر.