حكاية استعادة رأس ضائع..
رنّ هاتفي فهتفتُ آلياً: أهلاً.. قال من طلبني مقدماً نفسه: أنا الدكتور رفيق عيدو. أنت لا تعرفني، ولكنني اظن انك تعرف شقيقي الفنان التشكيلي منير عيدو..
قلت مرحباً: ومن لا يعرف هذا المبدع الذي هجرنا. بسبب بؤس أوضاعنا، منذ عمر ولم نعد نسمع عنه، وان كانت أعماله المميزة وسيرته على ألسنة تلاميذه ومن رعاهم من الفنانين التشكيليين تستحضره دائماً..
قال الدكتور رفيق عيدو: فأما أخي منير فقد رحل، قبل حين، عن دنيانا.. وقد توفاه الله في منفاه الاختياري باريس، وقد أبدع في سنواته الأخيرة ما مكنه من ان يعيش مرتاحاً في بيت جميل في ضاحية ريفية أنيقة..
صمت قليلاً ثم أضاف: وأخشى ان يكون قدري أن أموت في منفاي مثله.
ارتبكت للحظة، ثم تمتمت بكلمات تعزية وأنا استذكر «المعلم» الذي جعل محترفه ملجأ بل مركز ارشاد وتطوير لطلاب معهد الفنون الجميلة (الكونسرفاتوار)، يستمعون فيه إلى رأي من يعتبرونه استاذاً لجميعهم في أعمالهم، ويستشيرونه في مشاريعهم، ويناقشون معه أفكار لوحاتهم التالية، ويستمعون إلى رأيه في بعض ما أنتجوه أو ما هم بصدد انتاجه من مشاريع تدغدغ وجدانهم بموضوعاتها..
أخرجني صوت الدكتور رفيق من دفق الذكريات وهو يقول: ـ لقد وجدت في البيت، حيث جمعنا مختلف اعمال أخي منير، تمثالاً لك.. هو في الحقيقة «رأس» مجرد رأس، فإن كنت تريده فسوف أعطيك عنواني وانتظرك لأسلمك الأمانة..
هتفتُ بفرح: شكراً، شكراً، أيها الإنسان الطيب. اظنه التمثال الذي «صلبني» الفنان حسين ماضي لأيام حتى كاد ينجزه في الستينيات، ثم طرأ ما شغله عني وشغلني عن التمثال، وكلانا يحاول ـ آنذاك ـ تدبير أمور معاشه..
قال الدكتور عيدو: في تقديري، شخصياً، أنه عمل غير مكتمل لحسين ماضي.. على أي حال، هو لك إذا كنت تريده..
كدت أصرخ: طبعاً أريده، وشكراً أنك اكدت لي وجوده.
قال: سجّل عنواني عندك، اذن، وسأكون في انتظارك مساء غد أو بعده لتسليمك الأمانة..
.. وسعيت إلى العنوان وذاكرتي تستعيد صوراً مبهجة من تلك الأيام التي كانت تربطني فيها صداقة وطيدة مع «جيل» من المبدعين الذين كان ينتظرهم مستقبل واعد، إذا هم تمكنوا من إعطاء فنهم حقه من الدراسة والمثابرة والاجتهاد والاستماع إلى كبيرهم منير عيدو، وقد كانوا يلتقون لديه فيعرضون أفكارهم وتخطيطات لوحاتهم، فيناقشهم مستمعاً إلى شروحهم، مستكشفاً أفكارهم وخططهم المستقبلية، وهو يعرف هشاشة أحوالهم المادية وحاجتهم إلى العمل والإنتاج.
قرعت الجرس ففتح لي الباب الدكتور رفيق الذي اختار منذ سنوات، باريس داراً للإقامة، بعد عمر امضاه في التعليم في مدارس المقاصد الإسلامية، أساساً، ثم في بعض الجامعات.. ودخلت البيت الذي يبدو شبه مهجور لغياب أصحابه عنه.
عرفني الدكتور رفيق إلى أخيه الأكبر عمر عيدو، وحانت مني التفاتة إلى خزانة عتيقة في صدر الغرفة فإذا عليها (رأسي)، اقصد «التمثال» إلى جانب لوحة غامضة الموضوع والألوان، ربما بسبب مرور الزمن.
قال الدكتور رفيق: أهذا تمثالك، كما قدّرنا؟
اقتربت وأنا أستعيد ذكرياتي عن زمن نحته، وعن تلك المجموعة من المبدعين الذين شدتني إليهم صداقة حميمة، وفيهم إضافة إلى حسين ماضي الراحلون إبراهيم مرزوق (الفنان الكلي) وموسى طيبا (الساذج حتى الإبداع) وحسين بدر الدين الذي نفى نفسه حتى غيّبه قدره، ومصطفى حيدر الذي ابتعد عن بيروت ليعطي أكثر، بصمت. وحده حسن جوني ما زال يبدع لوحاته، في حين صار حسين ماضي يعمل على مدار الساعة وكأنه يخلق عالماً جديداً بأفكاره وأشكاله وألوانه.. وصمته.
هتفت وأنا أتلمّس «الرأس» الذي لما يكمله مَن نحته: نعم، نعم.. هذا تمثالي، وقد أكرمني الفنان حسين ماضي في أواسط الستينيات، وكان بعد طالباً يدرس في الكونسرفاتوار، ثم باعدت بيننا ظروف الحياة، حتى عدنا نتلاقى بتقطع، وان ظل الود موصولاً.
* * *
شغلني الحديث الممتع للدكتور رفيق أنيس عيدو عن سجله العلمي: فهو قد انطلق من المقاصد تلميذاً ليقصد جامعة ليون في فرنسا حيث حصل على الدكتوراه حلقة ثالثة في الفيزياء النظرية، وعلى الطرق الرياضية للفيزياء في العام 1959، وعاد ليدرس الرياضيات في الجامعة اللبنانية، وفي كلية الهندسة في الجامعة اليسوعية، وكذلك في مركز الدروس والأبحاث الرياضية والفيزيائية في بيروت، ثم في المعهد العالي لإعداد المعلمين في تونس… وقد ساهم في وضع مناهج الرياضيات وتأليف كتبها في المركز التربوي للبحوث والإنماء، كما في دائرة التربية في الجامعة الأميركية..
]]]
كنتُ ـ قبل هذه الواقعة ـ اعرف بوجود التمثال، ولا أعرف مكانه، ذات يوم، باغتني جورج الزعني، باعتراف صريح رأسُك عندي!.
هكذا ببساطة قال لي حاضن الأعمال الإبداعية ومبتكر فن المعارض الشاملة التي قدّمت جديداً في موضوعاتها المتعددة، فقدم إضافة إلى الشخصيات الفكرية والثقافية ذات الدور المميّز قيادات سياسية، ثم التفت إلى «المبتكَر» من الرموز و«العادي» من الأدوات والأواني المتصلة بالذوق في الحياة اليومية، وعدّة القهوة لا سيما الفناجين، ثم الحروف برسوم تكاد تنطق بمضامينها.
هتفت: وكيف وصل إليك؟!
قال بهدوء: لقد وجدت نسخة الجفصين من التمثال مرمية في ركن ما من أركان أرشيف «السفير». كانت سليمة. وقد استأذنت في استعارتها لتكون إلى جانبي وأنا أفكر بالجديد من المعارض التي أنوي إنجازها. واسمح لي أن استبقيه إلى جانبي، وربما يُعاد إليك ذات يوم!
… وقبل أسبوعين، أقيم حفل لتكريم جورج الزعني برعاية وزارة الثقافة في قصر اليونسكو. ولقد عرض في الحفل فيلم تسجيلي عن إنجازات هذا المجتهد الذي لا يتعب، جامع التراث وصاحب الأفكار الإبداعية، وأنشط من ابتكر ونفذ وسعى ـ مشياً على قدميه ـ ليقدم صورة مشــرّفة عن إنجــازات الكبار من الفــنانين اللبنانيين، وأقام معارض «طريفــة» بأدواتــها وإن كانــت عميقة الدلالة بمضمونها.
وكانت المفاجأة ان الفيلم قد تضمّن لقطة مميزة: كان جورج الزعني يحضن «رأسي» بين يديه، تدليلاً على صداقة العمر.. وتحية للفنان الذي أنجزه ثم نسي استكماله وتقديمه بصورة تليق بالجهد الذي بُذل فيه: حسين ماضي..
هكذا فإن عندي الآن رأسين ـ احتياط، وهذا ما يطمئنني.
أسعد الله صباحك يا زافين..
عرفت الزميل زافين قيومجيان منذ سنوات بعيدة، وفي كل لقاء كان «الرجل الهادئ» خافت النبرة، والذي يشعّ وجهه بابتسامة مضمرة، يتدفق أفكاراً وملاحظات جدية، بينما أنا غارق في تأمل ملامحه، حيث تتربع السذاجة وتكملها التماعة عينيه ذكاء.
ولقد تعددت الأفكار التي حوّلها زافين إلى برامج تلفزيونية ملامساً باستمرار جوانب إنسانية مطموسة أو مهملة، متميزاً بطريقة تقديمه التي تكشف كم تعِب لإنجاز ما يقدّمه.
ها هو زافين يُتحفنا الآن بإنجاز يستحق التهنئة عليه، إذ يعيد تأريخ المرحلة التي دخل فيها التلفزيون حياتنا، مما جعل لبنان البلد العربي الثاني، بعد العراق، الذي يعرف هذه العلبة السحرية، سابقاً بذلك مصر عبد الناصر التي كانت مصدر الأخبار السياسية ومركز الحياة الفنية العربية في السينما والمسرح والإذاعة متعددة الصوت لتخاطب وتواكب جبهات النضال من أجل الحرية في مختلف ارجاء الوطن العربي.
قد لا تكون هذه العلبة السحرية محطّ اهتمام الآن كالذي كانت تحظى به من قبل، مع تعدد وسائل التواصل الاجتماعي وبينها ان يتحول هاتفك إلى محطة فضائية ودار سينما وذاكرة جماعية وارشيف عالمي وكاميرا تصوير وجهاز تسجيل صوتي الخ…
لكن حضور التلفزيون، أواخر الخمسينيات، شكل نقلة نوعية في التواصل الاجتماعي، تتجاوز الأهمية الاستثنائية لبثّ الأخبار مصوّرة ومنقولة ـ مباشرة ـ من مكان حدوثها إلى المساهمة في توسيع مدارك الناس وأفق معارفهم في ما يتجاوز السياسة إلى الثقافة والفنون والمعلومات العامة والتسلية والترفيه. فلقد وفرت هذه العلبة السحرية فرصة لزيادة مساحة المعارف عبر تقديم أعمال فنية وثقافية متعددة ومتنوعة أفاد منها الكتّاب والممثلون والممثلات والفنيون خلف الكواليس..
أما في السياسة فقد لخص زافين الوضع بكلمات: «لقد وحد التلفزيون الناس وفرّقهم، فرّق وجمع، أخبر وأدهش، أبكى وأضحك، أحبّ وتمرّد ولعن. كل هذا وبقيت قصته غائبة ومهشّمة ـ قصة التلفزيون ومن خلفها حكاية وطن صنعته شاشة صغيرة بالأبيض ثم عادت ونسجته حكاية ملونة في خيال فراشة هائمة في الصحراء».
الكتاب يستعيد مرحلة البدايات بأشخاص المؤسسين، وجلّهم من القطاع الخاص، والمحطة الفرنسية التي أقيمت بالتعاون مع التلفزيون الفرنسي، وبعدها ينتقل لعرض صفحات من إنتاج الزمن الجميل، بنجومه التي بدأت متعثرة ثم غدت «من أهل البيت» ينتظرها الجمهور في مسلسلاتها المترجمة أو المكتوبة خصيصاً للتلفزيون، بأبطالها الذين غدوا مصدر أنس للعائلات، بالنساء والرجال والفتية، وموضع تقليد الصبايا والشباب في اللباس والحديث وبعض مقاطع الاعتراف بالحب وأساليبه المتنوعة.
ولأن الكتاب لا يستطيع تجاهل التاريخ، وبعض تاريخنا حرب أهلية، معلنة أو مضمرة، فقد توقف أمام المحطتين المتواجهتين في الموقف السياسي، بغير انحياز أو موقف مسبق. كذلك فهو قدّم كل من مرّ ببيوت اللبنانيين وعاشوا معه صورة وخيالاً، فأبكاهم وأضحكهم، من نجوم المقدمين والمقدمات، الممثلين والممثلات، الكتاب والمنتجين.
إنه عمل متقَن، يتميز بالدقة والابتعاد عن الأحكام، فيعرض دون جنوح إلى النقد والتقييم. إنه أشبه بشريط ـ بالكلمة ـ يؤرخ لهذه العلبة السحرية دورها في تقريب الشقة أو تأجيج أسباب الخلاف بين اللبنانيين، كما حصل في أزمان انشطار السلطة أو تحوّلها إلى طرف.
لقد أنجز زافين كتاباً يؤرخ لمراحل عدة من حياة لبنان واللبنانيين، عبر الإبداع الفني أو التقديم السياسي للأخبار والأحاديث والمحاورات مع «القادة» الذين سرعان ما ابتدع كل منهم محطة تلفزيونية له تناقض الأخرى أو ترد عليها، في حين توارى تلفزيون لبنان بقدر ما توارت دولته وغابت عن موقع التأثير فضلاً عن التوجيه.
والكتاب «سياسي» من أول حرف فيه إلى آخر حرف لمن يتقن القراءة. برافو زافين.
تهويمات
^ لا يصل بيننا إلا الصمت!
لكَم هو فضاح بثرثرته التي لا تنتهي، هذا الصمت.
^ جاءت بغير موعد، وانصرفت بغير إذن، لكنها نسيت ما لا بد أنها ستعود لتستعيده: بعض آهاتها والعطر الذي ما زال يضمّخ المكان.
^ صعب هو الاعتراف بالخيبة… لكنك إن أنت لم تعترف بها عشت أسيرها على ضفاف تنهداتك الحرّى.
^ يستحضرك الغياب.
أفلا تجيئين لكي يكتمل الرحيل؟
^ ما أقسى أن يعيش حبيبان في وهدة من يعطي أكثر مما يستطيع الآخر أن يأخذ.
^ قالت: سأحبك أكثر وأنت تهرب مني،
الهرب هو الخوف، والخوف هو ما سيعيدك إلي.
^ قال: أحب كبرياءك. إنه يعزز إيماني بذاتي.
وردت بسرعة: ها أنت تدخل جحيمك الممتع.
من أقوال «نسمة»
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ كانت البداية همسة اعتذار، ثم تلتها همسات الاستفسار..
وما زلنا حتى اليوم نواصل الرحلة نحو الأجوبة على طريق الآهات.. كلما افترضنا أننا قد وصلنا سحبنا خدر الضياع إلى التيه في العالم المسحور. الحب يعيد خلقك فإذا أنت ما أردت أن تكون.