طلال سلمان

هوامش

لقاء يتيم مع فؤاد عجمي في غربتيه: عن ذاته وعن هويته

جمعتنا المصادفات أكثر مما جاء اللقاء بالقصد، في خريف العام 1984.
قال لي صديق مشترك: أما وأنك في نيويورك فهل تمانع أن تلتقي فؤاد عجمي؟ أعرف أنكما على طرفي نقيض سياسياً، وفكرياً بالأساس.. لكنك بحكم مهنتك رجل حوار ومن واجبك أن تلتقي وتحاور أساساً من يختلف معك وتختلف عنه.
لم أكن بحاجة إلى كبير جهد لإقناعي بفوائد الحوار، خصوصاً أنني أعرف الكثير من آل عجمي، وتربطني صداقة ببعض أبناء عمه، وتربط زوجتي علاقة ود ببعض نسيباته القريبات… ثم إنه «رجل خلافي» وكتاباته تثير كثيراً من النقاش وتجلب له خصومات بل عداوات تصل إلى حد اتهامه في وطنيته واستطراداً في عروبته.. ويصل البعض إلى حد اتهامه بعلاقة مع إسرائيليين، وهو ابن أرنون في حضن قلعة الشقيف المحاذية للنبطية في جبل عامل، (وكانت آنذاك تحت الاحتلال الإسرائيلي، بينما المقاومة الوطنية والإسلامية تواجه المحتل بإمكانات محدودة..).
رتب الصديق الموعد وذهبنا إلى اللقاء في البارك الشاسع في قلب نيويورك، وهناك عرفت أن منزل فؤاد عجمي يقع عند بعض أطرافه وكأنه فيه.
بعد التعارف المباشر، انطلقنا نتمشى بخطى قصيرة، وكل منا يحاول أن يعرف الثاني أكثر، بادئين بالهوية الأصلية، العائلة، الأقارب، الأصدقاء المشتركين، الكتابات: ما قرأته له وما قرأه لي، وهو قليل قياساً إلى الإنتاج… ثم أخذنا نقارب السياسة واختلاف المواقف بحذر أول الأمر، وقبل أن ننخرط في النقاش المفتوح.
استحضر فؤاد عجمي السيد موسى الصدر وعلاقته الوثيقة به، وإيمانه بدوره الريادي والمؤامرة التي استهدفته فأخفته لتضرب هذه المسيرة الوطنية…
كان واضحاً أن شخصية الإمام الصدر محورية في تفكير فؤاد عجمي، وأنه يحكم على كل من خاصم الإمام المغيب بقسوة، معتبراً أن ما أصاب الجنوب هو بعض نتائج هذا التغييب.. من هنا فإنه كان قاسياً في محاسبته قيادة المقاومة الفلسطينية، محملاً «من تدعونهم الفدائيين» المسؤولية «عن الخراب والدمار وتفريغ البلدات والقرى في الجنوب من سكانها، حتى إذا تم تغييب الإمام الصدر تكاملت حلقات المؤامرة، وارتاح الجميع إلى رمي التهمة على إسرائيل وتبرئة الذات من المسؤولية عن الاحتلال».
استغرق الحديث عن الإمام الصدر وقتاً غير قصير. تحدث عن لقاءاته ومناقشاته الفكرية مع «أحد أعظم عقول الشيعة المعاصرين» وعن خطورة التوقيت في مؤامرة تغييبه، وعن بعض المشاريع التي كانا قد تحدثا فيها ثم طواها بعد «إخفاء الإمام في الظروف الغامضة التي رافقت هذه المؤامرة ثم أعقبتها..».
ورويت له وقائع لقائنا الأخير مع «الإمام المغيب» في طرابلس الغرب بليبيا ليلة الثامن والعشرين من آب 1978، وكنا قد ذهبنا مجموعة من المثقفين والصحافيين إلى موعد للقاء العقيد معمر القذافي، بيننا المرحوم أسعد المقدم وبشارة مرهج ومحمد قباني وعلي يوسف، بقصد إجراء حوار فكري ـ سياسي لمناسبة الذكرى العاشرة لثورة الفاتح… وقد حمل له أسعد المقدم هدية بسيطة هي بعض العنب الخالي من البزر. وكان أهم ما قاله الإمام في تلك السهرة: سأسافر قطعاً في الثلاثين من هذا الشهر (آب) إلى أية جهة كانت، لأنني لا أريد أن أجلس خلف العقيد القذافي على المنصة، وأسمعه يخطب فيهاجم لا أعرف من ممن هو على خلاف معهم، وما أكثرهم.
في الأيام التالية لم يعد يتسنى لنا أن نلتقي الإمام، وإن التقينا مرة، عند موظف الاستقبال الزميل عباس بدر الدين الذي كان بصحبة السيد موسى، وكان متعجلاً ليرد على هاتف، فقال بسرعة: لعله الموعد المنتظر… بعد ذلك لم نلمح الإمام، ولا الشيخ محمد يعقوب، ولا زميلنا عباس، فقدرنا أن الإمام نفذ تعهده بأن يغادر قبل الاحتفال.
استمع فؤاد عجمي بتلهف، واستوضح بعض التفاصيل، مشدداً على موعد اللقاء وتأكيد الإمام قراره بالمغادرة، ثم قرر ما وصل إليه: «إن لم يكن القذافي فلا بد أن يكون بعض الفصائل الفلسطينية»… وبعد ذلك استطرد متحدثاً عن «المؤامرة التي تستهدف نهضة الشيعة، وترمي إلى استمرار إخضاعهم لقرار من خارجهم».
عدنا إلى أساس النقاش: الموقف من إسرائيل، وقد اعتبرت خطرها مصيرياً ليس على طائفة بالذات أو على لبنان وحده بل على العرب كافة وفي مختلف ديارهم، «لأن مشروعها يصادم مشروعهم لغدهم، وستعمل معززة بالدعم الغربي المفتوح لضرب المشروع العربي بمختلف الأسلحة والأساليب وبينها التحريض لتفجير الفتن الطائفية والمذهبية أو الصدام بين الوطنيات» (لبنان ـ فلسطين، الأردن ـ فلسطين، سوريا ـ فلسطين إلخ)..
قال فؤاد عجمي: أحسدك على حماستك. أحسدك على إيمانك بالبديهيات. أما أنا فمتعب لأنني أخضع كل شيء لمحاكمة العقل.
ـ لكن غيرك حاكم بعقله من دون أن يفقد إيمانه بأرضه، بتاريخه، بقضاياه المحقة..
ـ وأين أرضي؟ يتوزعها الإسرائيلي والفلسطيني وأنا عاجز عن حمايتها.
ـ لو سلمنا جدلاً بهذا التوزيع «للمسؤوليات» فإن هذا الخطر المحتمل لا يجوز أن يدفعك للتخلي عنها، بل يفترض أن تزداد تمسكاً بها. لقد تعرضت دول كثيرة للاحتلال فلم تستسلم الشعوب، بل قاومت بقدر ما تستطيع وبالوسائل المتاحة..
ـ وها نحن حاولنا المقاومة تحت راية السيد موسى الصدر فأخفوه. والأصح أنهم قتلوه…
ـ التاريخ ليس رجلاً. وها هم المؤمنون بخط السيد موسى بمئات الآلاف، وقد سمعوا وصيته عن «السلاح زينة الرجال»، وها هي العمليات ضد الاحتلال الإسرائيلي تتوالى في معظم أنحاء الجنوب والبقاع الغربي… ولعل هذه العمليات قد اكتسبت بعداً وطنياً صافياً بعد الاجتياح الإسرائيلي في صيف 1982، وإخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان.
قال فؤاد عجمي: لقد جاء الإيراني بديلاً من الفلسطيني..
هتفت: حرام عليك أن تنكر على دماء الشهداء هويتهم الوطنية. إنهم معروفون، تنشر صورهم بأسمائهم وأنسابهم. إنهم أهل الأرض!
ـ مَن سلّحهم، مَن درّبهم، ومَن يقودهم؟ هل تنكر دور الحرس الثوري الإيراني؟
ـ لا أنكره، ولا أرفض أية مساعدة قد تأتينا من أي صديق يساعدنا على تحرير أرضنا.
كان لفؤاد عجمي منطق مغاير تماماً للسائد في لبنان والمنطقة.
الأرجح أنه كان صادقاً مع نفسه ولكنه غريب عن بيئته، وقد ازداد غربة عندما حاول أن يطبق ما قرأه أو ما درسه أو ما عاشه في بلاد أخرى.
كان يعيش غربة فكرية عن الواقع الذي غادره مبكراً في لبنان.
ولقد أخذه الإعجاب بالحياة الأميركية، والغرب عموماً، إلى الافتراض أن بإمكانه أن يسحب هذا النموذج الاستثنائي، بمختلف جوانبه السياسية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية على بلده الصغير وربما على المنطقة العربية بأسرها.
ربما لهذا تناول مسألة الاحتلال الإسرائيلي فلسطين بمنظور غربي، وانطلاقاً من الوقائع الصلبة على الأرض، وبمعزل عن الحقوق التاريخية وميزان القوى بين الفلسطينيين، بل ومجموع العرب، والإسرائيليين وقوى الدعم الدولي المفتوح لهذا الاختراق الغربي للأرض العربية.
لكأنه كان يقول إن الوقائع على الأرض أهم من المقدس، إذا أنت لم تستطع حماية المقدس…
لم يؤمن بالعروبة كإطار جامع لهذه الشعوب التي لا تتوحد إلا في اللغة وإلى حد كبير في الدين ثم تختلف على كل ما عدا ذلك، في السياسة، في الحرص على الكيانات حتى لو سلّم بأن الاستعمار قد أقامها.
للحرية عنده مفهوم «أميركي»، الفرد أولاً، والعداء للاتحاد السوفياتي مطلق، فهو نظام شمولي يلغي الحريات. قد تعتبره انبهاراً بالنموذج الغربي أو يأساً من نماذج الحكم في دنيا العرب.
ليس مستشرقاً تماماً. إنه «غربي» الهوى واليقين، وهو مثل كثرة من المغتربين تغريهم دار هجرتهم فينسبون أنفسهم إليها ويتقمصون أشخاص مواطنيها.
توقف فؤاد عجمي عن السير، فجأة، والتفت إلي قائلاً: لا بد أنك قد جعت، أما أنا فجائع، وبيتي هنا قريب، على بعد خطوتين، تفضل لنكمل النقاش إلى المائدة..
صعدنا إلى شقة نظيفة في مبنى متواضع… وطفق فؤاد عجمي يحضّر الطاولة والأطباق الجاهزة، رافضاً أن يسمح لي بمساعدته: صحيح أنني تأمركت، لكنك ضيفي.
بعد الغداء أهداني كتابين: الأول له، والثاني لمن قال إنه «أستاذ كبير، برغم أنه يهودي، بل صهيوني إذا شئنا… علينا دائماً احترام الفكر».
عدنا إلى الحديقة مترامية الأطراف، ورافقني فؤاد عجمي حتى سيارة الأجرة، واعداً بأن يزورنا في «السفير» إذا ما جاء إلى بيروت.
لكن الوعد ظل معلقاً بينما زاد بعد فؤاد عجمي عن بيروت وعن العرب. صار غريباً عن ذاته.
رحمه الله في غربته…

صفحات من التحولات السوسيولوجية في بيروت عبر المدرسة البطريركية

ممتع أن تقرأ أحوال البلاد من خلال مدرسة رائدة بلغ عمرها الآن قرناً ونصف القرن من الاجتهاد في تأدية رسالتها التربوية، بل التنويرية، وبقلم واحد ممن قدموا الجهد لحمايتها في دورها برغم الصعاب.
فأما المدرسة فهي «البطريركية» الواقفة كشاهد على تاريخ بيروت وتطورها من بلدة ساحلية بمرفأ متواضع أيام المتصرفية، إلى عاصمة متوهجة بمنارات العلم والثقافة فيها بعد إقامة «الدولة» وضم ما كان يسمى «الأقضية الأربعة». وأما من أرّخ لها فهو الأب الدكتور ميشال سبع.
يكفي أن تقرأ أسماء من درس فيها من أعلام الفكر والثقافة والسياسة ثم من تخرّج منها لتدرك مكانتها: إبراهيم اليازجي، ناصيف اليازجي، خليل مطران، فيليب نصر الله طرازي، نجيب صيدح، المير خليل الشهابي، خليل اليازجي، ندرة حبيب المطران، بشارة تقلا، سليم تقلا، صبحي بك، حسن بك، صائب سلام، عبد الله اليافي، بهيج طبارة، خليل صحناوي، خليل قريطم، خالد عيتاني، عمر سلام، نهاد الصلح، عمر ميقاتي، روجيه إده، حبيب مطران، جورج طعمة، محسن سليم، عزيز وفيلكس دبانه، حبيب غندور السعد، نجيب فرعون، بطرس فرعون، حليم أبو عز الدين، إيليا بيضا، غالب الترك، إبراهيم عبد العال، نصري معلوف، نعيم مغبغب، أنطوان كرباج، رياض الترك، رامز مقدم، فريد سلمان، عبد الرحمن كريدية، خضر علاء الدين، نبيل قاووق، حنان الشيخ، الياس وخليل وألفرد دبانه، وحيد غرغور، إسعاف نشاشيبي إلخ.. واللائحة تطول كثيراً وفيها العديد ممن غدوا مبرزين بين أهل السياسة والأعمال والأدب والفن والعمل الاجتماعي.
واضح أن المدرسة التي أُنشئت في زمن المتصرفية، ولم تكن مدينة بيروت ضمن نطاقها، كان عدد تلامذتها محدوداً ومحصوراً في بيئة معينة، طبقياً وطائفياً، لا سيما في البدايات.
هي واحدة من المدارس البطريركية الرومية الكاثوليكية التي أنشأها البطاركة في كل من الإسكندرية والقاهرة والقدس، ثم بيروت. والأب الدكتور ميشال سبع يحمل الرقم 26 في رئاسة هذه المدرسة «اللبنانية بامتياز».
وواضح أن هذه المدرسة قد تبدل طابعها وتبدل طلابها عبر التحولات التي شهدتها البلاد خلال تاريخها الطويل (150 سنة)… وهذه نتيجة طبيعية لما أصاب لبنان في كيانه السياسي (والجغرافي) بعد تحوّله من متصرفية يحكمها «متصرف مسيحي ولكن من رعايا السلطان العثماني» إلى جمهورية مستقلة عاصمتها بيروت.
وفي ظلال شعارها «الفضيلة والعلم» تم تطوير هذه المدرسة حتى غدت صرحاً ثقافياً في منطقة زقاق البلاط، بل إنها باتت أشهر من الحي الذي سيعرف لاحقاً باسمها. وقد أصابها من التحولات التي أصابت البلاد ما بدّل في «هوية» طلبتها ولكنه لم يبدل في طبيعة رسالتها، بل إن هذه الرسالة قد اكتسبت المزيد من السمو حين فتحت أبوابها لغير الكاثوليك، بل لغير المسيحيين.. ولا بد من الشهادة لمراجعها من البطاركة، ولا سيما البطريرك الحالي غريغوريوس الثالث وقد عرفنا صفاء وطنيته عندما كان مطران حيفا باسم جاورجيوس حكيم، الذي «قاتل» إلى جانب مديرها ميشال سبع لحماية استمرار وجودها حيث هي، بعدما تبدلت «البيئة الحاضنة» فغاب عنها معظم المسيحيين وحل محلهم كثرة من المسلمين سنة وشيعة.
وفي البدايات احتضنت هذه المدرسة العديد من طلبة فلسطين وسوريا ومصر، إضافة إلى اللبنانيين… وعبر التحولات وحرصاً على استمرارها في دورها التنويري، فتحت أبوابها لأبناء العائلات المعروفة جنباً إلى جنب مع أولاد الفقراء، وغلّبت الخط الوطني على النعرات الطائفية… وخاضت إدارتها، تحت راية البطريرك، معركة لإبقائها مفتوحة برغم أنها لم تعد مؤسسة رابحة، خصوصاً وقد غلب على طلبتها أبناء الفقراء.
وعبر تاريخ هذه المدرسة يمكنك أن تقرأ أسماء الطلائع ممن مكنتهم ظروفهم في زمن المتصرفية من الذهاب إلى مدرسة الحكمة، فتنتبه كم أن العلم كان امتيازاً لأصحاب الوجاهة والمال.
وتكاد تغبط أولئك الذين نهلوا العلم عن الكبار الذين نقشوا أسماءهم على جدران ذاكرتنا، وحفظوا لغتنا وكشحوا عنها ما أصابها من تشوّه ووهن خلال عصور الإظلام بالأمر والتجهيل بحد السيف.
كذلك يمكنك أن تؤرخ عبرها للطبقات داخل الطوائف، والدور المميز الذي لعبته المرجعيات الدينية للطوائف المسيحية في مجال تيسير العلم بإنشاء المدارس وتوفير الأساتذة… ويستوقفك الجهد الذي بذلته المدارس التي أشرف عليها الكهنوت لحفظ اللغة العربية بإعادة بناء ما تهدم منها خلال عصر التجهيل بالأمر أو الهجرة إلى لغة المستعمر القائم أو المستعمر القادم. رحم الله أيام زمان.
ولمن يرغب في المزيد من الكشوفات، فإن مراجعة السجلات المحفوظة في هذه المدرسة الرائدة تساعد على معرفة حركة دخول الطوائف إلى جنة العلم. فبعد المسيحيين جاء السنّة، بداية، ثم الدروز، وأخيراً الشيعة.
لقد قدم لنا الأب الدكتور ميشال سبع صفحة مضيئة من تاريخ البطريركية في فتح أبواب هذه المدرسة الرائدة أمام جميع الطلاب (والمسلمين تحديداً)، بعدما فرضت الحرب ـ الحروب الأهلية ـ العربية ـ الدولية تبدلاً جدياً في الهوية الطائفية لأبناء العاصمة.. وبين أهم إنجازاته شخصياً معززاً بالبطريرك لحام مقاومة رغبة بعض تجار العلم في إقفال المدرسة بعدما صارت الأكثرية الساحقة من طلابها من المسلمين، شيعة وسنّة.
وإلى المزيد من السنوات.. يا سيد.

تهويمات

^ يستـحضرك الغـياب فتعاتبــين عابثـة قبـل أن تنفـجر ضحكـتك لارتبـاكي فــي الـرد، وحـين أسـأل عـن موعـد عودتـك تفتحــين الباب وتدخلـين عاصفـة مــن شـوق لا تتسـع غرفتـي لهـا فنخـرج إلــى الفضـاء المفـتوح لنغلقـــه علـى همـس التنـهدات.
^ كتب إليها يقول:
أغلق عيني على طيفك ليأخذني إلى الحلم فيتداخل الطيف والحلم وتنساب النشوة جدولاً من الشعر.
أما حين تهلّين يسبقك عطرك مضمخاً باللهفة، فيتهاوى الحلم أمام ارتعاشك بين يدي ونغيب في أروع تجليات الحضور.
وكتبت جوابها بلا كلمات لأنه سيقرأه بقلبه.

أعتذر عن الإزعاج!

جاءته بلا موعد وانصرفت بلا وداع،
قالت: سأدخل في الموضوع مباشرة مع أن العرب اعتادوا أن يمهدوا لمطالبهم بمقدمات طويلة يختلط فيها النفاق بادعاء عدم الحاجة إلى العمل. ولكنني أريد العمل، والعمل كما تعرف مقدس مع أنه ليس له قديس خاص، وقد اصطنع العمال عيدهم بالدم..
سحبت لفافة من علبته المرمية على الطاولة ومد يده بالثقاب يشعلها، واستأنفت حديثها بعد النفس الأول: موضوعنا إذن العمل، والعمل عرض وطلب، وأفترض أنني عرضت وقبلتم طلبي.
قال مستفهماً: هل تسمحين بشيء من الإيضاح، طلبت ممن، وأي عمل تقصدين، يعني في أي مجال؟
قالت متجاهلة سؤاله: إذن، كان يفترض أن أكون الآن في المكتب المخصص لي. ولست من محبي المظاهر، تكفيني طاولة وحاسوب ومكيف. ولست بحاجة إلى من يوجهني، أعرف جيداً ما أنا متميزة فيه. فقط أود أن أعرف أين مكتبي ومتى أبدأ العمل.
حاول أن يضبط أعصابه وألا تفلت منه كلمات تعبّر عن غضبه، فقال من خلال ابتسامة بذل جهداً في رسمها على شفتيه:
ـ أهلاً وسهلاً، لقد أسعدني التعرف إليك، لكنني حتى هذه اللحظة لا أعرف عما تحدثين.. أي عمل؟ ومن الذي التقيته فوعدك.. عملنا هنا محدود جداً، ينجزه معي نفر من المتخصصين..
نبرت بحدة: أعتذر. لقد أخطأت العنوان. مؤكد أن عملكم سيظل محدوداً لأنكم تضيعون الكفاءات وتكتفون بضيقي الأفق، محدودي العقول. لكنني أصارحك قبل أن أغادر أن مكتبك ينقصه الذوق وأنك لست لائقاً، ولن أعمل في مثل هذا الجو. أعتذر عن إزعاجك، وسأذهب إلى من يقدّر المواهب.

من أقوال نسمة

قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ إقـرأ حبيـبك في عينيه، في ارتجاف يديه وهو يمدهما إليك كمن يطلب النجدة منك، واقرأ اسمك في اللهفة، في كلماته المرتبكة، قبل أن يفتح باب العتاب لأنك تأخرت في احتضانه.
لا تحاول أن تعتذر، احتضنه فيسمع جوابك خفقة خفقة.

Exit mobile version