طلال سلمان

هوامش

عن «زميلنا» الذي سبقنا بقرن فكشف جبننا: أمين الريحاني!

نجح جان داية في أن يقدم إلينا كاتبنا الكبير أمين الريحاني في صورة جديدة، تبين ما لم نكن نعرف عن أسلوبه الساخر، وعن القراءات التي وسعت أفقه، وعن المواقف المبدئية المطهرة من الطائفية والشوفينية.
لقد تعب جان داية حتى أمكنه تجميع كل ما كتبه أمين الريحاني في بدايات مشواره مع القلم، تعليقاً ونقداً و«معارك» مع بعض «خصومه» بالفكر ولو كانوا من الأنسباء.. وبينهم صاحب الصحيفة التي كان يكتب لها ما بات، من بعد، عموداً يومياً.
من المفارقات أننا عرفنا الكثير عن أمين الرحالة الذي جاب صحارى شبه الجزيرة العربية، وجالس الأمراء وشيوخ القبائل والآتين بحثاً عن النفط، ومن خلفهم الشركات الكبرى، الأميركية أساساً، التي مسحت أراضي المملكة الغارقة في فقرها وتخلفها وفي تقاليد البداوة، والتي أخذها «ابن سعود» بالسيف، وأخذت الشركات الأميركية، أساساً، وبعض الأوروبية، امتيازاتها المذهبة بثلاثين من الفضة.
بالمقابل، لم نعرف إلا القليل عن بدايات أمين الريحاني «الصحافي» و«الناقد» و«المجتهد» الذي ثقف نفسه وابتدع أسلوبه الذي تمتزج فيه السخرية برفض الطقوس المحصنة بقداسة مزعومة، «متوغلاً» في قراءاته وفي مشاهداته وفي ملاحظاته على النظام الأميركي والرأسمالية المتوحشة التي خرجت به عن مبادئ مؤسسيه.
على أن كتابه «قلب لبنان» قدم صورة أخرى عن أمين الريحاني ككاتب متين العبارة يأخذه الشغف إلى حافة الشعر… مع أنه قد قصره إلى حد كبير على «الجبل»، ولم يتسنَّ له وهو الذي اغترب طويلاً أن يعرف كل لبنان الذي عرفه «متصرفية» ولم يعرف له صورته الكاملة كجمهورية.
هذا تقديم لاستدراك ما فاتني إثباته في كلمتي التي شاركت بها في اللقاء الذي دعا إليه «مركز التراث اللبناني» في الجامعة اللبنانية الأميركية، والذي أدار المداخلات والمحاورات فيه الشاعر هنري زغيب وشارك فيه الباحث جان داية: «هكذا وجدت المقالات وحققتها ونشرتها»، والدكتور لطيف زيتوني: «الريحاني ثورة لزمننا منذ ذلك الزمان الباكر»، وكان من نصيبي أن أتحدث عن «المقال الريحاني بعد 110 سنوات».. وهذه قراءتي:

[[[

من حظنا، نحن كتاب الافتتاحيات في الصحف المحلية خاصة، والعربية عموماً، أننا ننشر ما تخطه أقلامنا في غياب أمين الريحاني وفي غفلة منه، لأنه لو كان موجوداً بيننا لانصرف الناس إليه وتركونا نتحايل على المعنى بتبديل الكلمات، ونخادع القراء بتمويه المواقف تحاشياً لاتهامات خطيرة ابسطها الزندقة والتهجم على الدين ورجاله… أما أهل السلطة فأغلب الظن أنهم سيفترضون أن التوصيف الصادق على قسوته موجه لغيرهم.
ولولا تنبيهات جان داية وتوجيهاته ومداخلاته واستطراداته التي تشرح الواضح، لأمكن الافتراض أن هذه الخمسين مقالة (المجهولة) التي جمعها في كتاب «كشكول الخواطر» إنما هي افتتاحيات كتبها جان نفسه أو من يعادله في العناد والتمسك برأيه، ثم زوَّر تاريخها ليوهمنا أنها كتبت قبل مئة عام أو يزيد، بوضوح وصراحة بل وشجاعة نخاف أن نمارسها في كتاباتنا اليوم… حتى لا تكون فتنة.
ولولا أننا نعرف «الفريكة» وبعض أهلها الذين بنوا بيوتهم عند جرف وادي لامارتين في تحد مكشوف للهاوية، لأخذنا التوهم إلى الافتراض أن أمين الريحاني، الذي جاء بعد فولتير وكارل ماركس، قد ادخل نفسه في تحد مكشوف مع سخرية فولتير التي بلغت حد تزوير التاريخ، ومع عبقرية كارل ماركس الذي حاول اصطناع تاريخ جديد للإنسانية، فلما اصطدم بسيادة الجهل فكر في الهجرة إلى عدوه الأول رأس المال في موطنه الأصلي، أميركا، ثم عدل عن الفكرة حتى لا يجني مالاً فتسقط نظريته بين يديه.
لقد كتب أمين الريحاني عن الوطن وكأنه فيه، مع انه كان بعيداً عنه بعدا شاسعا في الجغرافيا، ولا طائرات، وكانت رؤيته واضحة بحيث يمكننا أن نعيد نشر كتاباته اليوم وكأنها مكتوبة فينا وعنا، حكاماً ومحكومين، رجال دين وكتابا ومثقفين.
كان أشجع منا وهو ينقد مفهوم الدين التقليدي وطقوسه ورجاله الذين يرمون كل من يخالفهم الرأي بالإلحاد، ويرفض الألقاب، ويهاجم حكام البيت الأبيض وحيتان المال…
فلسنا نملك أن نقول اليوم مثل قوله: تختلف وظيفة الرسول عن وظيفة السياسي كما يختلف البطريرك عن المتصرف والمصلح، فالذي يقلد نفسه الوظيفتين يجلب البلاء إما على الدين وإما على الوطن.
كان الريحاني يكتب للغد، ولذا استشرف الصراع الطوائفي ونبه إلى كوارثه التي ما زلنا نعاني منها، ويقف حائلاً بيننا وبين بناء الدولة… بل إن هذا المرض الخبيث يضرب وحدة المجتمع ويمزق الأواصر بين الإخوة ويعيدنا إلى جهالة الماضي فنخسر الحاضر وندمر المستقبل.
ولقد عشنا مؤخرا محنة مهنية وأخلاقية وسياسية في مواجهة تصرف نافر وغير مألوف أقدم عليه سامي المقام في طائفته… ولم يكن أمامنا غير أن نقعي أمام الشاشات نتفرج على مشهد غير مسبوق منقول مباشرة من الأرض المحتلة. أما الكتابة عن هذا الخرق للثوابت والقانون والأعراف فأمر متعذر، لأن الفتنة تتربص بنا دائماً.
ثم أن أمين الريحاني كان مثقفا مميزا، ومتابعا دقيقاً لما يجري من حوله، في المغترب، وكذلك لما يجري في وطنه الصغير الذي كان متصرفية بعد ولما يصر دولة.
وبرغم أننا نعيش في قلب الحدث فإننا لشدة خوفنا على الدولة نمتنع عن نشر الكثير الذي نعرف من فضائح تجاوزات مسؤوليها، وبينهم من تسبب بانهيار للعملة لما نستطع النهوض منه، ومنهم من تحكم فينا بميليشياته، منهم من تواطأ مع العدو فرد الآخر بالتواطؤ مع الشقيق، وضاع الوطن ودولته في الشرخ بين التواطؤين… أما الباقون فيتندرون بقصص ممتعة عن ثروات نسائهم وأبنائهم وذوي القربى أو المقربين، ثم تهزون رؤوسكم مراراً علامة اليأس من الإصلاح أو وقف المنهبة.
ولقد كتب الريحاني في الثقافة كما في السياسة وفي الاجتماعيات كما في الفنون، وكل ذلك بصياغة شبه عفوية، كما يقول جان داية، وهو هنا محق.
ولقد كان صاحب موقف، عبر عنه خطابة وكتابة، مطلقا آراء تقدمية سابقا بها عصره ومجتمعه، وهو قد كتب «المحالفة الثلاثية» على أساس أنها قصة أو رواية، في حين أنها كانت محاولة في تقليد «أم القرى» للكواكبي.
لم يتخذ لنفسه صورة الواعظ بل الناقد، ولا المبشر بل المنبه إلى الغلط، والمحرض على مقاومته حتى لو أدى ذلك إلى القطيعة مع صهره.
تقرأه على انه كاتب من الماضي، فإذا به يتقدمك نحو المستقبل. لقد كتب للغد كصاحب رؤيا وصاحب قضية، وعلى طرافة أسلوبه أحيانا، فإنه لم يغادر «رسالته» التي كتبها بقلم من نار ونور.
وتقرأه على انه بعيد في مهجره، فإذا وطنه يسكنه من قبل أن تقوم فيه دولة بنظامها الذي لا مثيل له ولا شبيه، وتقرأه كأديب فإذا الصحافي فيه متقدم علينا نحن الذين نحاول الكتابة بعد غيابه بسبعين سنة أو يزيد. كان يكتب بعفوية الإنسان الصادق في بساطته، المتقدم على مجتمعه الاغترابي بثقافته، شأنه شأن العديد من أدباء المهجر وشعرائه مثل صديقه عن بعد جبران خليل جبران. وربما لأنه كان متطهراً من لوثات السياسة المحلية التي تُسَخِّر الطائفية لأغراضها فتنتهي بنا إلى الحرب الأهلية، فقد كتب من دون خوف من الاتهام بنقص في دينه أو بتغرب عن لغته وأهله ووطنه.
وتقرأه كناقد أدبي فإذا مشرقيته مستفزة ببعض أعمال فولتير التي يسخر فيها من العرب والمسلمين والذي كتب رواية تمثيلية دعاها «التعصب» أو «رواية محمد» وأهداها إلى البابا بعد أن كان قد اشتهر بعداوته للكنيسة وأربابها.
لا يمكن أن تقرأه محايداً، فهو صاحب موقف واضح وجريء إلى حد استفزاز المتعصبين جميعا سواء بين رجال الدين أو بين أهله الأقربين.
واعترف صراحة، ومن موقع رئيس التحرير لصحيفة رئيسة في البلاد، إنني لا استطيع أن أقارب الكثير من الموضوعات التي كتب فيها أمين الريحاني وبشجاعة أغبطه عليها.
لا استطيع أن أقارب أخطاء رجال الدين، مثلاً، حتى لو بلغت مستوى الخطيئة، والشواهد كثيرة، ومعظمكم يعرفها ويسرد تفاصيلها في جلسات السمر…
إن مجمل أحزابنا صريحة في طائفيتها، وشجاعة في منطقها الآخذ إلى الفتنة، ولكننا نتعامل معها وكأنها مؤسسات ديموقراطية تمثل «فئات» من الشعب.. أي نسلم بأمرين خطيرين: الأول شرعية تمثيلها، والثاني تحاشي مناقشتها وتسفيه منطقها المغلوط بالقصد حتى لا تكون فتنة، والأخطر أننا نسلم بان اللبنانيين شعوب شتى لكل منها مصالحه المختلفة عن الآخرين.
كذلك اعترف بأنني أقرأ الريحاني بشيء من الحسرة: أولا لأنه غاب عنا في حين أننا بأمس الحاجة إلى مثله، ثم لأنني لا املك موهبته ولا أسلوبه ولا شجاعته، برغم أنني حاولت ودفعت الثمن غالياً، ولكنني قصرت وسأبقى مقصراً حتى يغير اللبنانيون ما بأنفسهم.
ومع أننا نعيش بعد أمين الريحاني بثلاثة أرباع القرن، فإننا لا نستطيع اللحاق به في موقعه المتقدم فكرا وأسلوبا وشجاعة رأي في مواجهة الطائفية والمتاجرين بالدين التي أوصلته إلى الصدام مع صهره زوج شقيقته نعوم مكرزل، فضلاً عن الاحتكاكات المتواترة مع بعض القسس ورعاة الأبرشيات في المهجر الأميركي.
ومع أننا عشنا بعد أمين الريحاني بعمرين فقد كنا نتهيب المرور من أمام فندق صوفر الكبير الذي ابتناه آل سرسق لعبيد الله الفقراء من أمثالهم، وربما لهذا نجونا من «قتلة» كالتي نالها أديبنا الكبير وقد كان بثياب الرحالة.
تبقى ملاحظة سريعة عن غياب الود بين أمين الريحاني وجبران خليل جبران، برغم اشتراكهما في الكثير من مبادئ التغيير وضرورته، لكن الشاعر في جبران ظل طاغيا، بينما الناقد في الريحاني كان هو الأصل، قبل أن تشده الصحراء ودهاليز نفطها فيصير رحالة بين الآبار وراوية لمجاهل تلك الأرض وأسرار حكامها الظاهرين والمستترين.
فابن الفريكة يعتبر أن ابن بشري قد اطل على دنيا الكتابة عبر تقليده… وهذا أمر نحيله على الشاعر هنري زغيب الذي ظل يجول ويصول في الولايات المتحدة حتى أتانا بآخر أنفاس جبران خليل جبران فضلاً عن غرامياته وصداقاته وعذاباته الموجعة.
شكراً للأستاذ جان داية على هذا الجهد الذي بذله في جمع الكتابات الصحافية لأمين الريحاني وعلق عليها شارحاً وقائعها ودلالاتها ومناسباتها.
مع شكر خاص لهذه الجامعة التي تجتهد في إعادة تعريفنا بأنفسنا، كما حالنا اليوم معها عبر مركز التراث اللبناني فيها، وتجمعنا حول الأفضل من بيننا بدلاً من اجتماعنا حول انجازات أبطال الفتنة بالسياسة أو السياسة بالفتنة.

تهويمات

^ بين حياتين

ترف صورتك على الورق، تسحب القلم إليها فتستكتبه ما لم أكن أنوي الاعتراف به… وأخاف منك عليك، ومني عليّ، ومنا علينا، فأمزق أوراقي وأطوي قلبي على أسراره وأدخل إلى غيهب الصمت مغمض العينين حتى لا تفضحني نظرات الفضوليين أو يطالعني عبوس الحانقين الذين كانوا يرون أنكِ منهم ولهم، وأنني طارئ تكفيني تلويحة باليد من بعيد.
ولكن لهاثك يتردد في صدري، وخفقات قلبك تتردد في أذني وهمساتك تملأ الفضاء موسيقى.
لنرجئ العتاب. لن أسألكِ أين كنتِ طوال ذلك الزمان الذي هدرت فيه عمري. لن أقرأ صمتكِ قصائد حنين في ليل البعد.
لن أخدش الذكريات، ولن استولد آمالاً عراضا لغدي.
يكفيني أنك هنا، قريبة، قرب العين من العين ولا أمل بالتلاقي،
تكفيني أنني سمعت اسمي تترنم به نبضات قلبك،
لن يكون وداع. لن يكون موعد لقاء جديد. لكننا سنلتقي في الفسحة بين حياتين، لم تكن لي الأولى، ولن تكون لك الثانية.
^ استعارة الوهم
كتبت إليه تقول:
ضاق عليّ زماني، وغفلت عن أفراح العمر ماشيا في قلب العتمة أطلب من يهديني إلى ذاتي.
وحين حضرت رأيتني استعيد شبابي وأسعى إلى البهجة في المواعيد على تباعدها… بل انني ضبطت نفسي أرقص على أنغام أغنية قديمة قرأت في أنغامها العابرة قصة حب يحبو في الطريق إليّ.
ها أنا استعير ثيابي من ماضٍ وأُلْبِسُها إلى غد قد لا يأتي لكنني في حاجة إلى وهمه كي أعيش بهجة عابرة ترطب جفاف عمري وتمنحني السعادة ليوم.

من أقوال نسمة

قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ رأيت حبيبي في أجمل صوره، كان يمشي على الهواء، خفيفاً، بعينين غسلهما الدمع وأضاءتهما ابتسامة اللهفة… ودخلتهما أحاول التطهر من عشقي والتخفف من شوقي.
قال حبيبي: لقد غادرني حزني، انظرني في عيني فلن ترى إلا ابتسامتك.

Exit mobile version