طلال سلمان

هوامش

حكايات من زمن مضى عن علاء الديب واللباد وأمنا بدر

عرفت الروائي المصري المبدع علاء الديب قبل نصف قرن تقريباً، وكان كلانا يجتهد لأن يجد لاسمه مكاناً لائقاً فوق صفحة من جريدة أو مجلة.
كان اللقاء الأول في بيت «بهاجيجو» الشهير ببهجت عثمان الذي كرّس نفسه لإسعاد الناس، كبارهم بالكاريكاتور الذي يسخر من قاهريهم بالسلطة أو بالنفوذ أو بالمال أو بكل ذلك معاً، وصغارهم برسوم الأطفال التي تدخل البهجة إلى قلوبهم وعيونهم ومع البهجة قدر من المعرفة والثقافة العامة.
وكان علاء الديب يعيش أزمة، إذ إن صديقه النحات آدم حنين، واسمه الأصلي صموئيل هنري، كان قد وقع في حب شقيقته فاطمة، وبادلته الحب.. وكان عليهما تخطي الحاجز الطائفي، وهو أمر جلل ولم تكن معالجته بالأمر الهيّن.
عاش أصدقاء علاء وصموئيل وفاطمة الأزمة معهما، وتحوّل منزل بهاجيجو إلى «بيت السر»، تحت إدارة السيدة العظيمة بدر حمادة، زوجة بهجت وصديقة جميع رسامي مصر والعديد من كتّابها في تلك الفترة، ومستودع أسرارهم، وبالتحديد قصص حبهم والإشكالات التي قد تعترض طريقهم إلى… الفرح.
فأما البيت البسيط بأناقته، الصغير بمساحته، في شارع محمد خيري بالمنيل، فكان يتسع لعشرات من رفاق السلاح، رسامين وشعراء وكتاباً، بحكاياتهم وقصائدهم والمباريات المفتوحة في النكات والطرائف، والأخطر: بقصص حبهم الوليدة.
وكان بهاجيجو يغمز ضاحكاً كلما انسحب واحد من زواره من الصالة متوجهاً إلى «غرفة السر» التي تستمع فيها بدر إلى الاعترافات: لا تتوقع خروجه قريباً، ولا تفاجئك همهمة تنذر بالبكاء.
… ولقد انتصر الحب في خاتمة المطاف، ووجد الحبيبان ما يرضي الأهل ويصون قصة الحب النموذجية التي لعلها ألهمت آدم حنين بعض منحوتاته وتماثيله المميزة التي رفعته إلى الرتبة الممتازة بين النحاتين، فجاب بين العواصم الكبرى قبل أن يستقر لسنوات في باريس، وظلت مصر في قلبه، وهكذا ابتنى بيتاً فلاحياً نموذجياً في الحرانية حيث كان رمسيس ويصا قد سبقه فأشاد منزلاً ثم أقام إلى جانبه معملاً لصنع السجاد بالرسم سرعان ما فتحه أمام الفتيان والفتيات لينتج لوحات أخّاذة في ابتكاراتها التي لا تخطر ببال الكبار.
مرت الأيام، وتقطعت اللقاءات مع علاء الديب الذي واصل إنتاجه الأدبي، إضافة إلى كتاباته الصحافية، ثم هرب إلى المعادي فصار لقاؤه يتطلب سفراً في زحام مدينة العشرين مليون نسمة نهاراً والخمسة عشر مليوناً ليلاً حتى سنة 1974 تاريخ منعي من دخول مصر الذي سيمتد لأربعة عشر عاماً.. وحين عدت إلى «بيوتي» في القاهرة كان الأصدقاء قد تباعدوا في السكن وغرقوا في هموم ثقيلة بحيث بات تلاقي المجموعة صعباً، وصرت أكتفي بالاطمئنان هاتفياً.
لكن علاء الديب حضر إلينا عبر الفنان المبدع محيي الدين اللباد الذي جاءنا غير مرة ليصحح لنا «الشكل» ويقدم خبرته وهو يناقش المحتوى، إخبارياً ولغوياً والصورة المرافقة، قبل أن نرسم الصفحات بما يخدم المضمون ويريح القارئ.
وعرفنا عمق الصداقة بين الكاتب والرسام عبر لقاءات متعددة، وعبر التعاون المميّز بينهما، فقد كان كل منهما يؤمن بقدرات الآخر وتميّزه.
ولقد اشتد غيظ اللباد من الجهل السائد حول العلاقة بين المضمون والشكل، ما دفعه لإصدار مجلة أسماها «نظر»، حاول أن يثبت فيها نظريته حول العلاقة بين الحرف والرسم والإخراج باعتبارها وسائل تعبير متكاملة تنتج بمجموعها اللغة بأحلى تجلياتها من دون أن يكون ذلك كله على حساب المضمون.
ذات يوم من أيلول 2010 فُجعنا برحيل المبدع محيي الدين اللباد وهو في ذروة عطائه، «وبعدما ترك تراثاً ضخماً متنوعاً من الإنجازات والأفكار والأحلام والعلامات التي وضعها على الورق أو في نفوس التلاميذ والقراء والمتابعين عمله». وبعد وفاته صدر له كتاب كان قد أعده قبل الرحيل: «حواديت الخطاطين» وهو ليس كتاباً للفتية والفتيات، وليس كتاباً في تاريخ الخط والكتابة، ولكنه دفاع فنان فاهم واع ومقتدر عن الحضارة العربية.
«… ولا يجوز أن تأتي ذكرى محيي الدين اللباد من دون أن نحاول رصد الإنجاز الفني الهائل والمتنوع الذي حققه هذا الرجل وكأنه أمضى كل ساعات عمره يعمل. رسم الكاريكاتور في المجلات المصرية، خاصة روز اليوسف وصباح الخير، وأسهم في تأسيس وإصدار أغلب مطبوعات «دار الفتى العربي» وهي أخطر وأهم دار متخصصة في كتب الأطفال والإشراف على دار «شرقيات» التي حققت تحولاً نوعياً في شكل الكتاب العربي، كما قام بتجربة كتاب في جريدة، وأحد أهم وأجمل كتب القضية الفلسطينية وكتب التراث العربي.
… وفي السنوات الأخيرة جمع اللباد عدداً من الرسامين والفنانين في «محاورة» فنية ـ ورشة للعمل والنقاش، كان من نتائجها أن أصبح له تلاميذ على امتداد الوطن العربي».
[ [ [
لعلاء الديب الذي وُلد في القاهرة ثلاث مجموعات قصصية: القاهرة (1964) وصباح الجمعة (1970) والمسافر الأبدي (1999) وخمس روايات: زهر الليمون، وأطفال بلا دموع، وقمر على المستنقع، وعيون البنفسج وأيام وردية.. وترجمات عديدة لصمويل بيكيت وهنري ميلر وبيتر فايس وأنغمان برغمان، كما أعد الحوار العربي لفيلم الراحل شادي عبد السلام «المومياء». أما سيرته الذاتية فقد أصدرها قبل عشر سنوات تحت عنوان: وقفة عند المنحدر.
وهذه مجرد تحية لعلاء الديب، وتحية لذكرى اللباد وبهاجيجو وبدر الذين خسرهم الإبداع العربي بما فيه «مسرح العرايس».

الياس لحود يرمح بين صيدا والخيام… ومسرح روزي

يمارس الياس لحود عادة بورجوازية ممتعة، فهو يمضي بعض السنة في باريس، ثم يهزه الشوق فيرجع إلى لبنان على جناح ديوان جديد، فإذا ما هجره شيطانه عاد إلى قديمه فانتقى فيه ما يؤكد أن النهر على تدفقه وأن الشمس على باب القبلة بعد.
«قصائد الشرفة ـ ضمناً مسرح روزي» هو الديوان الجديد لهذه الشمس العائدة من بحر الأزمان: الشمس، الشمس، امرأة البحر الشمس، امرأة الجبل، امرأة النهر، السهل، الطحان، العصفور المذهول، امرأتي، امرأة جميع الناس الشمس، تقبلنا من كل مكان.
أحلام الياس لحود لا تكتمل، لكنه يظل متمسكاً بها برغم وعيه أنها قد تكون، في أحسن الحالات، أبياتاً في قصيدة جديدة، لن تنتج الثروة بالتأكيد لكنها ستنتج دواوين جديدة تزهر فيها الخيبة رؤى من خارج المألوف.
لكن مغنية الجيتان تخرجه من أحلامه لأن «الحبر يشبهها»، فهي بريشته ترتاد وترقص بفستانه الذي من همسات اللوز المدلوقة.
«.. والدرب قصير مثل عذاب، مثل كلام بين يديك»
ربما لأن العاشق لم يجد الطريق إلى شفتيها، ولأن الغيم سيصل بعد قليل إلى مدبرة الشمس المذعورة.
«.. وحين تصل الأحداث إلى قمة صنين وتمطر، تمطر دبابات.. دبابات وفراشات».. والإهداء إلى يوسف حبشي الأشقر.
أما في شرفة صلاح عبد الصبور فيهتف الياس لحود:
«بيديك وأقلامك.. يا باش/ ختم كل جوازات الأحياء والأموات/ صحارى تلو صحارى/ فاكونات وقطارات تصفر/ من زئبق عينيك المفقود إلى زنبق نرفانا/ بين القدس و«ماجدولين»/ طفلة أيلول المشنوق على صرخة زهران/ على دمعة تشرين».
هو الجنوب دائماً، هو الحنين إلى الأرض التي صارت أيقونة وكتاب صلاة يحن الياس لحود ويطلق «تغريبته» كسحبة قوس على ربابة:
«مرة في الليل وحدي/ كنت وحدي/ وكان البيت في حافلة قاطرة تغرب من باب الظلام/ كنت وحدي/ وارتجاف الليل ممتد من الدنيا إلى غرفة جدي/ في حكايات الغرام/ بين صيدا والخيام/ غرفة في كف وادي الجن لاذت في مهب/ فوقها تل الخطايا/ تحتها بار المقدس:/ كان جدي حاذقاً أودعها أسراره عشقاً وحب».
يأخذ الصحو الياس لحود إلى لحظات التيه فينبّهه جده إلى وضعه ويعطيه التعليمات:
«رمحك الريح/ لا تنس عنوان بيتك في سكرة، عبر ليل طويل
طويل من البدء للمنتهى عبر خذها وهات
رمحك القلب/ لا تنس عنوان بيتك تعطيه للسائق/ السالك فيك
الطريق الوحيد المؤدي إلى «بيتك الشعر» من سائر العاشقين الخوالي إلى سائر العاشقات».
يستعيد الياس لحود في ديوانه الجديد بعض شعره القديم، ويستعيد معه أياماً كتبت تاريخنا بدم الشهداء، وهو يدرج قصيدته في مهدي عامل. في الديوان الجديد أيضاً، تحية للرجل الذي غُيّب ولم يغب فظل معنا بفكره وانتصب راية على طريق الغد:
«عذراً، قد تأخرت تعالوا هنا../ واختفى في خيمة التين
«مشينا واخترقنا تعب الوجه/ تلفتنا قليلاً للوراء/ اشتعلت كل انطفاءات القرى
«احتجبت كل الجرائد/ كان مهدي لبقاً/ أخذ الدمعة من مكمنها وسقى الوردة في الصدر
مشينا تحت مهدي/ وتركناه على الأرض ينام»،
متعب مهدي من القتل وأبطال الكلام..».
وبين صيدا والخيام طالما غرق الياس لحود في غرفة في كف وادي الحب لاذت في مهب رفوفها تل الخطايا/ تحتها بار المقدس.
وفي سهل الخيام ـ مرجعيون يمتطي الياس لحود قصائده ويغني للعروس:
«كان في قديم الزمان/ زيتونة تغلق الريح/ تسكن وادي الشحارير شرق «الجديدة»/ ورثتها رياح الصبا جد جدي/ شمس العروس/ العروس التي قلبها عندها/ والتي جدتي بعدها/
«والعروس/ القميص الذي طيّرته المسافات في خوفها
وقمباز راقصي المشاوير في الجسم/ جذعها غرفة للعصافير/ قامتها باب أيلول/ طلتها الثلج والمرج ضحكتها العاصفة».
الياس لحود يستعيد بعض شعره القديم، ولكنه يحاول أن يضيف جديداً بين كل باريسين وكل رحلتين إلى الخيام عبوراً بصيدا، وبين كل عاصفتي حب وإن أعطاهما اسماً واحداً.
الياس لحود لا تكتفي بقديمك، ينتظر جمهورك جديداً كل يوم.

وقت للبيع

يعبرنا الوقت ونعبره. نضيع في أدغاله، نخاف أن تلتهمنا وحوشه ذات العقارب. نخاف على من ينتظرنا ولا نستطيع الوصول إليه. نخاف أن يتأكلنا الانتظار. نخاف أن نحترق في جمر العجز عن الإنجاز. نفترض أن الوقت مفتوح بلا نهاية. نكتشف أن الوقت يلتهم النهاية، وأننا نبقى مجمدين بالرعب على الرصيف الذي لا بحر أمامه ولا عمارات خلفه.
من بعيد، يطل طيفك. نفرك عيوننا بالأكف المشققة. نجرح جفوننا المعلقة على جمر الغياب. نحاول استعادة ابتسامات الأهلاً وسهلاً. نحاول أن نتحرك نحوه فلا نستطيع، وننتظر أن تتقدمي نحونا فلا تقدرين. تحوم الابتسامات الباهتة في الأفق، فلا هي تصنع وقتاً للقاء، ولا هي تسمح لحزن الفراق أن يحتل ملامح الوجوه.
وأنتِ مشغولة عني بالوقت، والوقت جرح مفتوح. وكنت قبل هذا الوقت وقتي. وكنت قبل هذا الوقت وقتك. يأكل الوقت الوقت وتتزايد المسافة بين الوقتين.
وفي الفراغ بين وقتك ووقتي يضيع زمان كنا ننتظر أن يكون زماننا وأن نعبره إلى حيث أكون فيك وتكونين فيّ.
آه من الوقت: مَن يبيعنا وقتاً للحب، للحياة، فنعطيه من قلوبنا ما يسعد زمنه ويأخذه إلى من يحب.

تهويمات

÷ قالت موجعة: الحب هائل القوة، جبار القسوة، عنيد كثور وحشي، حارق كنيران جهنم..
قال: لكنك طالما وصفته بأنه أرقّ من حلم، وأندى من دمعة عاشقة، وخادم مطيع للعشاق، يسعى في ركابهم، يزيل الصعاب، يمنحهم القوة، ثم ينصرف تاركاً لهم أن يطيروا إلى أعشاش المتعة في غيمة تحميهم من حرارة الشمس.
قالت: … ولقد أحرقتني الشمس فذاب الحلم ولم يتبق لي إلا الدموع..
قال متنهداً: هنيئاً لك ذوب الأحلام. أنت على حافة الجنة أيتها العاشقة فادخليها.. لا تترددي، هيا، إنه ينتظرك.
[ [ [
÷ كتب إليها يقول: هلا تغمضين عينيك قليلاً لأستعيد نفسي. تحضرين فيتدفق الشعر نهراً، وتغيبين فإذا الدنيا خرساء. تسكنين في الصمت وأنت مصدر الكلمات.. فهلا تسمحين بقراءة عينيك ليكتمل الديوان؟

من أقوال نسمة

قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ خطأ واحد يجرح الحب، أما الخطأ الثاني فيقتل المحبين.
يحلو لحبيبي أن يمارس رياضة غريبة: أن يمشي على الحد الفاصل بين الجرحــين، مطمـــئناً إلى أن الحـــب أقـــوى مـــن أي خــطأ.
أخاف الآن على حبيبي من ضعفه في الحساب.

Exit mobile version