سهرة مع الغائبين الذين يستحضرون غدنا الأفضل…
… وكان لا بد أن يحضر «الغائبان» لتكتسب السهرة نصابها «الشرعي»، وهكذا تسلل محمد دكروب محتمياً بظله، في حين اقتحم أنطوان حرب الصالة كفارس يتبارى مع حصانه في مباراة تخطي الحواجز.
كان في الصالة جمع ممن غابوا ولم يغيبوا، ولقد تلاقوا في قلب الشعر الذي تسكبه الأحلام في كؤوس الساهرين فينتشون ويطلقون قصائدهم زغاريد فرح تبشر بمستقبل لن يكونوا فيه وان استمروا أعظم الحضور توهجاً.
همس محمد دكروب من خلال نصف ابتسامة حتى لا يكشف «السر»: لقد كتبتهم جميعاً كما رأيتهم لا كما كانوا يرون أنفسهم..
ورد أنطوان حرب الذي تلتقط أذناه كل أنواع الهمس، بما في ذلك ما يتغلغل في العيون أو ما يجمده الخوف فوق الشفاه: أما أنا فقد قرأتهم جميعاً كما حفظتهم عن ظهر قلب.. وكثيراً ما ساعدتهم على استذكار ما اسقطته من ذاكرتهم الغفلة او الانشغال بابتسامات المعجبات اللواتي يتزاحمن على باب الديوان الجديد.
ازدحمت القاعة بالوافدين من قصور الذاكرة التي لا تفتأ تتوسع لتستوعب الغائبين الذين يستعصون على النسيان… وصدحت الموسيقى مستدعية من الزمن الجميل الأصوات التي ينطق بها الغد مؤكداً حضور الأمس فيه لتكتمل إنسانيته…
قرر أنطوان أن يقرأ الشعر بصوته الذي يضج بالفرح، في حين اكتفى محمد دكروب بأن يروي بأسلوبه بعض القصص التي تمنى لو كان بطلها منفرداً بحشد الصبايا ليمسح دموع الخائبات في الحب باعتباره الفارس الذي يتفرد بملكية اكسير الحياة.
… ولقد استغرقت في ذكريات الحضور حتى أمسكت بباب الغياب ففتحه على مصراعيه أمام هؤلاء الذين نقشوا إبداعهم على شغاف قلوبنا، وكان بينهم محمود درويش وسعدالله ونوس وأمل دنقل وعبد الرحمن منيف وصلاح عبد الصبور وقد التفوا حول الصناجة أحمد فؤاد نجم بينما اندفع بهاجيجو يرقص للذين منحوا حياتنا بهجتها.
[[[
أنت بأصدقائك الذين يدخلون الوجدان فلا يخرجون.
وهذه نتف من حكاية آخر من غادرنا بغير وداع..
منذ الدقيقة الأولى للقاء الأول أدرك كل منا انه قد التقى «الصديق» الذي طال بحثه عنه.
كان «هو» بشاربيه الكثيفين وقد ظللا ابتسامته التي يشرق معها وجهه البلون القمح ويمناه التي تمتد مصافحة بحرارة أولاد الجرد، وصدق عاطفته التي تطل من عينيه مستبقة عناقه.
ـ لا ضرورة للتعارف. أعرفك جيدا، وأظنك تعرفني. بيننا الجرد ونحن وجهان لصورة من يستظله، وفي طباعنا صلابة بل خشونة تتهاوى رقة امام ابتسامة طفل أو مطلع قصيدة او سحبة آه كلثومية أو إطلالة وجه جميل.
صارت الصداقة مع انطوان حرب فعل ايمان. ندر ان عبرت منطقة الاونيسكو من دون ان أحرف خط سيري لأتوقف امام ذلك المبنى الذي كان الزمن قد استهلك طلاء واجهته وخشب الأبواب وطاول العبث صالته الكبرى وخلعت جدران الصالات الجانبية وبعثرت ألوانها فتبدت وكأنها بقايا خربة… والذي جعله انطوان حرب منذ ان تولى المسؤولية عنه قصراً للثقافة بأهلها جميعاً.
على أن الأخطر ان أنطوان حرب قد فتح أبواب هذا المبنى الذي جعله قصراً بالفعل أمام الدهماء وأبناء السبيل وتلك الغوغاء التي تسمى الجماهير، فإذا بها تدخله وكأنها آتية للصلاة في محرابه، فلا ضجيج عند الأبواب ولا خناقات على المقاعد ولا عراك فوق الشرفات.. فإذا كان في أحد الجناحين معرض لرسام دخل هؤلاء الذين يملأون الأفق ضجيجاً في الخارج بهدوء مريب حتى لتفترض أنهم غير الذين كانوا ينتظمون صفوفاً عند الباب… فإذا كان الجناح الآخر معداً لتوقيع كتاب، فإن الآتين اليه يتقدمون إلى كراسيهم وكأنهم أمام امتحان في الانضباط احتراما للكلمة.
كنت، وكثير غيري، نبدأ الطواف بمكتب أنطوان، هذا إذا لم نجده في الباحة الداخلية يشرف من بعيد، مطمئناً إلى أن مساعديه سيخدمون من هم أكبر منهم، وكلهم من أهل الثقافة والفن وقد أتى بهم للتوكيد أنهم أقدر من غيرهم على تنظيم العلاقة بين العمل الفني وجمهوره، كما بين العمل الأدبي وجمهوره، ولقد شهد هذا المكتب، في ما شهد، «تسويات» تحفظ الكرامات و«مصالحات» بين أهل القلم وأهل الريشة تطوي خصومات، كما شهد استدراكات اللحظة الأخيرة التي تحفظ للجهد قيمته، بغض النظر عن الموقف السياسي منه أو من موضوعه أو من منتجيه وهل هم من النخبة الأرستقراطية أم من العامة البروليتارية.
كانت البورجوازية المدينية تتجاهل «شيوعية» انطوان حرب وتتحدث عن أصالة اهل تنورين الذين هم خليط من الجراجمة والمردة، مع ان أصولهم تقطع بأنهم من العرب العاربة، وأن الأقرب إليهم في طباعهم وتقاليدهم هم عشائر بشري ودير الأحمر وبعلبك الهرمل بالاستطراد.
أما المتبجحون بأنهم من أرباب الثقافة، ممن يخلطون عربيتهم بكثير من المفردات الفرنسية أو الانكليزية فكانوا يفاجأون بثقافة انطوان حرب، وسعة اطلاعه: ياي، ياي… كيف يقولون عنك أنك شيوعي؟
.. ويكون على أنطوان حرب أن يكرر على هؤلاء أن الثقافة شرط بديهي لمن يريد أن يكون شيوعيا… وان الشيوعيين البسطاء يعرفون الكثير عن الحركة الفنية العالمية ومدارسها، وعن فنون القص والرواية، وعن الموسيقى ومبدعيها، وكذلك عن فنون الرسم والنحت، وانه يعرف ذلك كله بحكم انه «شيوعي» ومن قبل ان يتولى منصبه كحارس للثقافة التي ابتني لها هذا القصر ذات يوم من نهايات العهد الاستقلالي الأول.
أما «الصديق» في أنطوان حرب فهو الأساس في تكوينه كإنسان.
وصحيح أنه كان «يخاصم» مخالفيه في المعتقد السياسي، لكنه يرجئ الخصام الى ما بعد أدائه واجب الاهتمام بالنتاج الثقافي.. فالإبداع هو الأصل، أما العلاقة الشخصية فأمر مستقل تماما عن العمل الإبداعي.
من ذلك انه لم يقصر، بذريعة الموقف السياسي، تجاه أي مسؤول رسمي كائناً ما كان رأيه فيه. يستقبله باللياقة، حسب الأصول، ويواكبه، ثم يقفل راجعاً إلى.. تنورين الماركسية. وبعد ان يغادر الضيف تسمع منه رأيه السياسي في مواقف هذا الزائر الكريم صاحب الرعاية.
ولأنه «ذواقة» في أصول الغناء فهو يعرف أقصر طريق إلى الطرب ولو امتدت «الآه» نهراً من الموسيقى المنشية. ولأنه يفهم المسرح فهو يمكنه ان يقيم اعمال أهل المسرح ومدى نجاحهم في أداء الأعمال التي يقدمونها.
وأذكر أنني ذات ليلة وجدت نفسي في مأزق جدي: فلقد اصرت إدارات بعض المؤسسات التعليمية ان تكرم «السفير»، وكان عليّ ان ألبي الدعوة إلى عشاء في مطعم تم حجزه للمناسبة. كان كل من المربين الكرام قد صحب زوجته ومعظمهن مربيات أيضاً. ولأن مهنتهم تفرض عليهم الجدية والانضباط فقد خيم على المأدبة صمت ثقيل لا تقطعه إلا بعض عبارات المجاملة ـ وحتى عندما جاءت فرقة موسيقية من الشباب وأخذت تعزف ألحان الفرح، ظل القوم جلوساً، وانهمكوا في تناول الطعام.. بشهية مفتوحة.
وكان لا بد من نجدة سريعة: اتصلت بانطوان فقدر الموقف، واستعان بزميل له ليقود به السيارة، وصديقة تقودهما، بينما كنت قد استعنت بالموسيقيين لتحريك الجو ودفع المربين إلى ساحة الرقص… وحين وصل انطوان ومعه ذلك الثنائي الجميل نزل إلى الحلبة فوراً، وطفنا نراقص الجميع، فتحولت المأدبة الرسمية إلى حفلة طرب وانشراح لن ينساها من حضرها، ربما لأنها من دون تخطيط… وكان القصد شراء لحظات من الفرح تزيح عن كواهلنا جميعا بعض عناء التربية والتعليم: أليس الرقص والموسيقى والغناء والمرح أصدق إنباء من الكتب.
انطوان حرب: لقد علمتنا ان الفرح وحب الناس وخدمتهم في ما يسعدهم من ألوان الثقافة والفنون جميعاً هو بعض أجمل ما في الحياة.
ولقد أحببت الناس فأديت واجبك بفتح قصر الأونيسكو لما يسعدهم ويشعرهم بفخر الانتماء إلى الوطن بأرضه وأهله واحتضنت اعمال المبدعين متخطيا الروتين والبيروقراطية، وفتحت أبواب هذا المرفق الوطني لإبداع الأخوة الفلسطينيين الذين ليس لهم من يرعى نتاجهم، أدبيا كان أم فنياً أم متصلاً بقضيتهم ذات القداسة.
انطوان حرب: سنفتقدك كثيراً لان مثلك قليل قليل، يا عاشق الحياة وقد عشتها بشغفك العظيم، ثم غادرت بلا وداع..
ونتمنى ان يخفف عنك وحشة الغياب محمد دكروب الذي سبقك ليكون في استقبالك وقد جاء ماشياً على قدميه من شاطئ صور.. من دون ان نغفر لكما انكما قد خذلتمانا، بينما نحن قلة قليلة تواجه وحوش قرون الظلام وهي تحاول اقتحام القرن الحادي والعشرين.
أيها الصديقان الحاضران: لماذا غادرتما الميدان والمعركة في ذروة احتدامها؟
حكاية/ بطل من خارج النص
سأكتب القصة قبل اكتمالها حتى لا تسبقني «هي» إلى روايتها.
سأبلغ الناس بحقيقة ما جرى لاتخذهم شهوداً على انكِ لم تنفردي بإبداع روايتك الأخيرة. سأقصها قبلك على الناس جميعا قبل ان تكملي كتابة الصفحة الأولى من حكاية اللقاء الذي وقع على الورق. سأروي كيف سقطْتُ في الكمين الذي أعددْتِهِ بين سطورك. وسأكشف للناس انك قد استرسلت أكثر مما يجب في السرد لتبرئة نفسك من جريمة التخطيط لاختطافي.
كنت أسبح بنور عيني فوق الصفحات التي أسرفْتِ في زخرفتها. توقفت امام شخصياتك المبتدعة معجبا ببراعتك في رسمها. أعجبني بعضها واقتحمني بعضها الآخر مغضباً لأنني أهملت الالتفات إليه.
فجأة رأيت «البطلة» تخرج من النص وتجلس امامي مبتسمة.
سألتني: هل اعجبتك شخصيتي كما تصرَّفَتْ بها الكاتبة؟
قلت: ولكنني لما أكمل قراءة الرواية.
قالت: لهذا خرجت إليك لنكتب الخاتمة معاً.
ـ لكنني طارئ على الحكاية. أنا عابر قراءة فقط.
ـ أما أنا فقد اخترتك بطلاً.
ـ لم أكن في أي يوم بطلاً حتى على الورق. ربما نجحت في ان اصطنع أبطالاً، من حلم، وربما تسليت أحياناً بكشف الحقيقة حول أبطال مزورين.
ـ ولكنك كتبت عن الحب كثيراً، ووصفت أحوال المحبين بدقة. وهذه الرواية عن المغرمين.
ـ كنت ابتدع قصص حب، او استخرج من ذاكرتي صفحات من قصص الحب، وامشي مع الحبيبين حتى عشية اكتمال الفرح، فأغادر… ولقد اخترت هذه الرواية لأتعلم عن الحب ما لم أعرفه.
…وعندما احتدم النقاش مع «البطلة» خرج من الرواية بطل ثان ليعترض على موقعه، ثم خرج بطل ثالث ليمتدح براعة الكاتبة التي أنصفته بعد دهر من الظلم.
هذا كل ما جرى وقد انصرفت متعجلاً. لأنني الراوي ولست الرواية.
قالت الكاتبة: وهذا يدينك! لقد تدخلت فحرضت عليّ أبطالي.
قلت: لا يحتاج «البطل» إلى تحريض. فهو ان لم يكن في موقعه تماماً كشف عجزك عن رسمه. أهتمي بإبطالك، لا تحبي بعضهم أكثر مما يجب، ولا تكرهي أيا منهم، فالكلمة فضاحة… ولذا فإن بعض أبطالك سيمزقون الصفحات ويخرجون ويخرجونك معهم، أما أنا فلست إلا شاهداً أفسدْتِ عليه استمتاعَهُ بنتاجِك الجديد.
تهويمات
^ يأتي الصوت من البعيد حاملاً دفء التمني.
يذهب الصوت إلى البعيد مضرجا بدماء شهداء الغلط مع ذلك يتابع الحب سيرته الأولى واثقا انه «الغد».
^ كتب إليها يقول: تعالي إليّ لتحريري. أنقذيني بحبك من مستنقع الموت.
قالت وهي تنزف تعبها: ليس المنفى دار رعاية. انه الجحيم. أحياناً أحسد الضحايا في الوطن، لأن واحدهم يسقط مرة واحدة، ونحن نسقط على حافة الحفرة ألف مرة في اليوم الواحد.
ـ فلماذا لا تأتين؟
ـ صار وطني حلماً ولا أريد أن أخسر الحلم بعدما خسرته مكاناً.
^ العتاب بالصمت أقسى من صراخ الغضب.
الحب ثرثار فإذا ما اعتكف في قلب صمته كان عليك ان تبحث عن السبب. إياك أن تنسى الهمس، وليكن في صدرك ذخيرة من الآهات.
^ لست من يحدد للحب موعده. تستفيق ذات لحظة فإذا أنت غارق في بحره. لا ينفع تذرعك بأنك لا تعرف السباحة، فشرط الحب الغرق فيه… وعندها ستجد حضنا مفتوحاً لإنقاذك.
^ أعرف من يعيش حياة من السعادة… لأنه يتقن فن إسعاد غيره. وكثيراً ما اشترى لغيره السعادة ودفع فيها بعضا من نفسه.
^ كتب إليها يقول:
ـ يحاصرني عطرك، فإذا ما غادرني حاصرني ظلك، فلا يختفي إلا إذا حضرت صورتك… وحين تنسحب جيوش احتلالك تطلبين عبر الوردة، أو عبر الأغنية، أو عبر نسمة معطرة ترف بها أجنحة فراشة عابرة.
من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ حبيبي يمد لي مساء كل يوم سريراً من فرح.
أما في الصباح فيسبق الضوء إلى عيني لتكون صورته أول ما أرى.
…لهذا أرى الوجود جميلاً.