رلى الجردي تصنع غلافاً للقلب من أصفهان وابن عربي وكربلاء
اكتفت رلى الجردي بثلاث وعشرين قصيدة لتصنع «غلاف القلب».
وكانت حاملة الدكتوراه في التاريخ الإسلامي والأدب العربي المعاصر، قد نشرت رواية واحدة: «الكثافة ـ قصة حرب لبنانية»، فضلاً عن كتابين حول التاريخ الإسلامي والمجتمع اللبناني. وهي حازت منحاً علمية وجوائز، منها جائزة مع مرتبة الشرف لأفضل أطروحة دكتوراه نتيجة التفوق المبكر من جامعة أكرون في أوهايو.
«إلى سماء الطين خرجت/ كوّرت وحيدها كالعجينة المختمرة/ ورمته محرمة/ فطار حول شعرها وغنى/ لم يكن رجلاً ولا بنتاً/ كان شهيداً/ فأعطته الحروف وأخذت كل السماوات/ بعثرت شعرها في الطين/ فقال: هذه رمانة لي ولك/ فتركته يذهب.. أقفل صندوق الوقت/ وترك الشهيد ونام».
قبل أن يقفل صندوق الوقت كانت قد ارتحلت إلى أصفهان:
«الميدان مسبحة في يد العابرين/ في الداخل تدخلين إلى الخارج/ والسماء زجاج من ذهب خلفك أمامك/ وأنت السجادة تأمرين كل الألوان/ الملك عباس/ والتيجان خرافة لا تليق بأصفهان/ الملك عباس/ والمدينة تهدى لنصف العالم/ وتكون هي نصفه الثاني.
وأصفهان تستحق أكثر، فالحليب نائم في فم الظمآن/ والبوابات الأربع نساء/ وأصفهان ضفيرة جدلت على مهل/ حبات صدى بعقد مقطوع/ أشهد/ شفتك السفلى تنام معها الكلمات/ تخضع/ تتركني أشهد».
وهي تنسق مراتب الحب: «وبعد قليل أخرج منك وتخرج مني/ فليكن في الصمت كمالنا/ تشبك ورقتينا نحلة قوية تمتص مائي/ تنهل من فمك/ أنمنعها من التلويح والتسبيح. بدونك أيها الرجل الجميل سيتساقط عليّ الليل دفعة واحدة».
واضح أن رلى الجردي قد قرأت كثيراً وجالت في الدنيا الواسعة فاكتشفت عوالم وقرأتها بعين الشاعر… وهي قد غنت أفريقيا التي تراها على أهبة الرحيل من النسيان لأن ساحلها أثمر البيلسان، في انتظار أن ترد نهارها.
تنتقل رلى الجردي بين الصوفية والكربلائية بيسر، قبل أن ترجع إلى أحزان يومنا البلا نهاية فتستذكر مظفر النواب الذي فقد منبره وسكن في وجعه وقد توقف «الريل» قبل أن يصل إلى بغداد أو تدور عجلاته في الطريق إلى البصرة:
«مظفر النواب يصرخ داخل الإلكترون/ لا يراني ولا يسمعني/ يطير في الضوء من ذرات الشاشة/ حسينه معه من المولد/ ومعه الرأس وكل الأشياء وعليها جميعاً صلاة الكهرباء».
ورلى الجردي التي كتبت الشعر مبكراً، ونشرت في مجلة «الطريق» وترجمت قصائد لخليل حاوي ومحمود درويش إلى الإنكليزية، قد استذكرت هذا الذي لا يغيب: «صعد إلى لغته/ أتاه تراب ليمونة وأيقونتان من شتاء مستدير/ رتب أصابعه بعدد الحروف/ أطلق صوتاً ساكناً/ شمس الشموس ووشم القمر المنهمر من ثقوب الرئة اليسرى/ فأيقن أن القلب كان سرير اللغة/ أما هو فكانت لغته/ مكاناً ممكناً للموت أو الحياة/ من الذاكرة أعلاها/ في قرارة الزيتونة الأولى».
«جاء الشاعر من أمل أخضر/ من مستحيل/ فتح لنا لغتنا وفي الأرض ماء/ سنعود يوماً إلى القصيدة لنبني ساحة لبرتقالة كاملة».
… ومن عكا إلى دمشق، ومن مأساة القصيدة التي لما تكتمل مع محمود، يطل «ابن عربي» حتى لا نحزن هذا المساء:
«ها نحن الآن عند سر المرتبة/ أمام محيي الدين خاتم قاسيون وحرفه المكنون
هلا كسرت بحبرك حبي/ ووزعته على صفحات المانوليا/ حين يصل الليل إلى التخمة
أخرج منك وتخرج مني/ فليكن في الصمت كمالنا».
هنا يتخذ الوجد موقعه مع استذكار قرطبة.
لكن ظلال الحزن تستمر مخيمة على القصائد التي تخرج من أصفهان إلى ما قبلها في الزمان والمكان والمأساة المفتوحة عبر التاريخ الإنساني بصفحات النبل فيه… وهكذا تستذكر «الرادود»، وهو منشد أهل البيت في التراث العراقي:
«ريحانة الرادود في صدره ومنه تفيض/ يمد الشرايين لحبيبك/ ووصلك أنت كرأس مقطوع». والرادود «يسير بمحاذاة طائر جريح ليتعلم الحب». وهو يتعلم الإيقاعات من فائض حزن الأزمنة وبكاء «السبايا» ونحيب الأطفال على أنها «عند الوِرد نرى قدميها على السفح ويديها الفضاء/ فتشربين من حلق الرادود عراقة/ قسوة النبيذ وحنانه/ ذوقي دمه ليطير في عرسه العاشر… أخرجي من كربلاء سحابة عارية والبسي ماءها ليسعد وتتفتحين»…
تبقى أصفهان «الحليب النائم في فم الظمآن/ والبوابات الأربع نساء/ وعند الحوض كلهن خيالات… وأصفهان ضفيرة جدلت على مهل».
لو أن رلى الجردي تكتب أكثر ليتساقط الليل عليها دفعة واحدة ولينطلق قفير النحل يرهو ويرمس.
جميل هو البحث الذي يستدر الشعر.
عن اختفاء «الضيعة» و«تصنيع» الدبكة كسلعة سياحية!
عند مدخل صالة الأفراح التي أقيمت للتغلب على حزن الفقد كان المشهد بالغ الأناقة وإن غلّفه شيء من برودة الرسميات: وقف أهل العروسين يستقبلون الآتين إلى ليلة السعد بترحاب مدروس.
للعرس خصوصية: إنه زفاف بين المدينة وبعض الريف الذي كان مجهولاً لا يطل من عناوين الصحف إلا من خلال الجريمة. ماذا أتى بهذا «المديني» ليصاهر هذه العائلة التي تختلط فيها الأنساب والطوائف وأمكنة الإقامة من دون أن يهتز الخلق أو يهرب أفرادها إلى التنكّر لأصولهم.
احتل الريفيون الأكثر عدداً ثلثي القاعة المكشوفة وتجمّع أبناء المدينة في الجهة الأخرى من ساحة الرقص الذي سيحين موعده مع اكتمال الوصول. كان الجو بارداً، والطرفان يتبادلان النظرات المتفحصة استكشافاً ومقارنة فإذا تلاقت العيون عند خط الفصل ارتسمت على الوجوه ابتسامات مجاملة قبل تحويل الأنظار منعاً للحرج.
دخلت المسرح فرقة موسيقية «غريبة» يرقص أفرادها على إيقاع غير مألوف، كانوا يرتدون قبعات بيضاء، ويدورون في الساحة يعزفون ألحانهم التي تقارب الطرب من دون أن يهتز لها الجمهور منتشياً… بل لعله كان أقرب إلى ممارسة فضول البحث في الأصول والأنساب.
على غير توقع، نزل العريس إلى الحلبة يغني شوقه لرفيقة العمر، ثم دوّت الطبول ورُفعت المشاعل عند المدخل الشمالي للقاعة إيذاناً بقرب دخول العروس، واندفع العريس إلى استقبالها فاتحاً قلبه وذراعيه… وبعدما تمّ «التسلّم والتسليم» وفق التقاليد مرعية الإجراء، توجها إلى «المرتبة»، لكن العريس سرعان ما اصطحب عروسه إلى الحلبة وعاد يراقصها وهو يكمل الأغنية الجميلة التي اختار أن يؤديها لتكون فاتحة عهد السعادة المقبلة.
كان الجمهور يتابع هذا «التجديد» بشيء من الشغف والفضول… لكن كلمات الأغنية شخصية جديدة، بل هي حميمة، فليترك للعروسين أن ينتشيا على مهل.
بين أغنيتين دعا العريس الجمهور إلى الحلبة، فاندفع أهله أولاً، وكل امرأة تسحب زوجها وهات يا رقص، بالمزاج، وبغض النظر عن اللحن.
تدريجاً أخذ بعض أهل العروس، لا سيما الشباب منهم، يتشجعون على النزول إلى حلبة الرقص، بشعور من يتقدم إلى الامتحان أمام لجنة فاحصة. وسرعان ما تحرك البقية، فاستأذنوا بتغيير الموسيقى، وعندما صدحت «المنجيرة» بشجنها ثم تلاها الطبل بدويه، اندفع الريفيون إلى الحلبة كأنما لإثبات أهليتهم على ممارسة الفرح حتى النشوة.
[ [ [
لم يعد أبناء الفلاحين فلاحين.. لم تعد بنات الفلاحات فلاحات. لم تعد الأكف مشققة تختزن شقوقها سيرة الشقاء. لم تعد الأرض مقدسة لأنها ولاّدة القمح والتين والزيتون ومصدر كرامة الفلاح، تحميه من العوز وتحفظ شرفه من ذل السؤال.
صار الريف ضواحي وهمية لمدينة متخيلة، تفرض من على البُعد قيمها الغريبة على هؤلاء الذين كانوا يفتدون قيمهم بأرواحهم.
لم يعد أحد كما كان. لم تعد «الضيعة» بلدة لها تقاليدها وقيمها وقانونها العشائري، من قبل أن تتوافر لأهلها ظروف الحياة في المدينة.
صار العرس مناسبة لعرض أزياء ما كانت النساء ليلبسنها قبل سنوات قليلة، بل إنهن إلى ما قبل زمن قصير كن يتحاشين ارتداءها أمام أهل «الضيعة»، ثم اكتشف الجميع أن بلدتهم لم تعد «ضيعة» وإن هي لما تصبح مدينة، وإنما هي في منزلة بين المنزلتين.
قالت إحدى سيدات المدينة: إنهن يلبسن ثياباً أغلى من أثوابنا وأكثر كشفاً لمفاتن الجسد من أثوابنا. هل تمدّن الريف أم تريّفت المدينة.
انتهت «القرية» أو «الضيعة» أو «البلدة»… صارت الأرياف ضواحي تائهة النسب: لا هي من المدن وفيها، ولا هي خارجة عليها أو خارجها تماماً.
صار التراث، غناءً ورقصاً ودبكة، خاضعاً لسوق العرض والطلب: الدبكة بثمن، الدلعونا والروزانا وتنويعات اللالا بالطلب… أما الغناء الراقص فلا يحتاج أكثر من «كاسيت» أو هاتف تختزن ذاكرته أهازيج الفرح.
قال الصديق عندما حانت لحظة الافتراق: شكراً أنكم أنعشتمونا بدبكة على الطبيعة.. كل عشرة بعلبكيين، شباناً وصبايا فرقة كاملة.
قلت وأنا أودعه: رحم الله أبا يحيى. لقد كان صاحب دور مميز في إعادتنا إلى جذورنا. ولم يكن يبيع سلعة تجارية اسمها «الدبكة» كان يعيشها فينا ونعيشها معه.
تهويمات
على حبال الشجن
لا تصلح رسائل الماضي لقراءة الغد. يبقى اليوم معلقاً على حبال الشجن. كتب الأمس نفسه بالشوق إلى الحياة، وذاب الغد في حاضرك وأنت في الخارج تحاول استنقاذ زمنك… وأنتِ تمشين على تخوم حياتي تتخطين الأيام التي ذهبت وتلك التي ستأتي، لا تهتمين للعابرات ولا أنا أنتبه للعابرين. لكن العمر معبر في اتجاه واحد يمشي إلينا إذا ما تأخرنا عنه.
اشتاقكِ في وحدتي. أشتاقكِ وسط الحشد. أقفل نوافذي فإذا أنت في داخلي. أفتح صفحات كتابي فإذا أنت تسكنين سطورها جميعاً وإذا اسمك كل الكلمات. أمسك بالقلم فيجري على الورق قبل أن تنتظم أفكاري كاتباً أول ما سمعت وآخر ما قلت حتى اكتمال القصيدة.
لو أنك تذهبين إلى النوم قليلاً فأهرب من عينيك لكي أرى طريقي.
مكسورة الجناح
من رمال البادية التي تغتال الفرسان إلى رمال الصحراء التي تستولد بحر الظلمات تختالين ويتساقط عشاقك تحت سنابك خيولك الجامحة.
وأنت أنت المعشوقة لا العاشقة، ترشّين عطرك على الآتين إليك فيثملون وتتابعين كتابة الحكاية… والحكاية ولاّدة قصص، والقصص تروى فلا يرتوي أولئك الذين يسمعون بألقابهم المذهبة ويتحدثون كلمات متقاطعة خوفاً من اكتمال المعنى فيجيء زمن الشعر، ويتهاوون عند حوافي القصيدة، وتمضين في التلاوة حتى اكتمال الديوان فإذا هم نيام وأنت وحدك من يعرف الطريق، فتعودين إلى البادية تسابقك كلمات اللحن الحزين: «تكسر جناحي ليه يا الماردتني»، مع أنك تعرفين أنك لست البطة وليسوا الصيادين، لكنه الشجن الذي وُلدت فيه أو أنه ولدك ثم قام حارساً على بابك.
من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ تأخذني الحيرة بعيداً عن حبي… فحبيبي يفتقدني متى غبت ويكتب لي قصائد الشوق على الهواء، فإذا ما حضرت عجزت عن الإمساك بالهواء.
هل يخيف الحب إلى هذا الحد؟! وهل هو الخوف على الحب أم من الحب هو الذي يجعل حبيبي يختار الهواء سكناً؟!