الشام التي تحترق: الاسم العائلي لجميعنا
لا يقبل الناس لدمشق إلا اسم «الشام»، ربما ليصيروا ضمنها. ربما لأنها تسكنهم. فهي عنوان لتاريخهم، وهي «الاسم العائلي» لجميعهم. هي قلعتهم وقصيدتهم. هي سيفهم والياسمين. هي مسجدهم وسوقهم. هي حافظة لغتهم ودار الكتب.
ولأنها «الشام» فكل عربي مواطن فيها. يأتيها من دون تأشيرة وله الحق بشرف الهوية، وله الوظائف حتى الوزارة والسفارة والإدارة وحق الإمرة على الجيش.
ولأنها «الشام» يصير «بردى» ديوان الشعر العربي. يجري إلى الشعراء في ديارهم، قريبها والبعيد، يسحرهم، يغويهم، يستدر التاريخ الذي يسكن وجدانهم فإذا هم في مباراة مفتوحة يختلط فيها المجد بالعشق بحب الجمال، وينفلت من الواقع الذي يصعب التسليم به قدراً، إلى الماضي الباقي شاهداً على قصور الحاضر وأهله عن إتمام الديوان.
لكل بيت ياسمينة ونصيب من بردى وصفحة من كتاب تهرأت صفحاته وذاب حبره على أيدي قرائه، وقد خبّأه الأجداد حتى لا تمزقه سنابك خيل الروم أو المغول أو الترك الذين استعاروا اللغة ثم غادروها عائدين إلى غربتهم في الهجانة.
ولكل سوق حكاية يحضر فيها التاريخ شاهداً ينطق بلسان تجاره الذين يولدون ويكبرون ويتوارثون بيع العبق مطعّماً بشميم المطيبات والمعطرات التي تجتمع فيها الهند والسند والصين وبلاد المغرب والقفزة إلى الأندلس والخوف من بحر الظلمات التي امتدت دهوراً، وما زال الناس يرفعون الركام ليتعرّفوا إلى أنفسهم تمهيداً لأن يدخلوا التاريخ مرة أخرى.
… ها هي الشام تحترق، وبردى مستنزف لم يتبق من مائه ما يروي العطاش إلى الدم، والغوطتان تحترقان ولا من يطفئ نيران الجاهلية… استنبتت فيها المدافع والبنادق وسيارات القتل المدججة بلحى السفاحين.
اغتيل الشعر، وأُحرقت غابات الياسمين التي كانت تعطر البيوت والمارة وقصص الحب وغناء العاشقين. «المجاهدون» ضد الحياة على الطريق السريع إلى الجنة يغتالون القرآن الكريم، آية آية، يسحقون الكلمات المقدسة، يدوسون الأناجيل ويقطعون رأس يوحنا المعمدان مرة أخرى.
بردى صامت الآن والصفصاف ينوح بغير دموع، وأهالي الشام ينزحون من الموت خوفاً إلى الموت جوعاً إلى الموت قهراً إلى الموت انتحاراً حتى لا يحاسبوا على عشقهم الشعر وحب الحياة ورفض العسف والجاهلية معاً.
تحترق رايات العروبة في دمشق ـ الشام بنيران النفط العربي.
يحرق أهل الجاهلية المستقبل بعدما أحرق العسف الحاضر.
… وبردى مجرى للدموع والدم والحبر الذي كُتب أيام المجد، والشعر الذي كان يغني الغد الآتي فخرس حتى لا يغرق في الندب ومرثيات آلاف الآلاف الذين قتلوا والذين سيُقتلون قبل أن تتوقف المذبحة. الشام الآن هي موضوع التفاوض. لا العباءات تغطي القتلة ولا القبعات العسكرية تطمس الجريمة.
يتفاوض القتلة على موقع كل منهم وحصته من جثة التاريخ الذي اغتيل بالتكافل والتضامن بين القتلة المحليين والوافدين من أدنى الأرض حيث شركاء المصير، إلى أقصاها حيث أصحاب القرار في مصير البشر والمدن والحضارة بالكتب والموسيقى والشعر، وكل ما يعطي الحياة قيمتها، والمعنى والروح التي طالما أعطتها الشام لكل من جاءها ليدخل في متن القصيدة ويعيش حبه في صبا بردى.
«الحفلة الأولى» لعبد الكريم الشعار وقد غلبه الهوى
دلفنا إلى تلك القاعة التي كانت بالكاد تصلح مستودعاً تحت أرضين، فحوّلتها همّة الشباب الذين يعملون لإنعاش حياتنا بين موتين بالنغم العبقري والغناء الذي يأخذ إلى النشوة في أحضان الحب. صار «مترو»، الذي كان امتداداً خلفياً لمسرح المدينة، متنفساً لروح المدينة.
كنا مجموعة من الأصدقاء التاريخيين لعبد الكريم الشعار. وقد ذهبنا مغالبين ترددنا بسبب خوفنا من «مزاج» صاحب الصوت العفي الذي لا يقدّر موهبته، والذي تعوّدنا منه في الحفلات ـ خاصة وعامة ـ أن يهتم بكل شيء، من الكهرباء إلى الكراسي إلى مواقع العازفين والتزام التراتبية في جمهور الآتين هرباً من… التنظيم!
رُفعت الستارة عن المسرح الصغير فإذا عليه أربعة من العازفين، وكرسي للمطرب الذي سيحيي الحفلة كاملة بأغنية واحدة للست: «هوّا صحيح الهوى غلاب» من ألحان المبدع الذي أنشتنا ألحانه ولا تزال تنشي أجيالاً جديدة من متذوقي الطرب، زكريا أحمد.
التجربة جديدة وتحتاج إلى شجاعة خارقة لم نألفها في عبد الكريم: هل يستطيع أن يستبقي الجمهور مشدوداً إلى مقاعده طوال فترة غنائه هذه «التحفة» التي جمعت عملاقي الموسيقى والغناء في عمل فني لا تفقده الأيام توهجه؟
… وأطل عبد الكريم الشعار بأناقة لم نألفها منه، وعبر مزاوجة بين الأسود والأحمر، مع شيء من التهيّب حاول التخفيف منه بابتسامة مرتبكة، عندما استقبله تصفيق «جمهوره القديم» الذي جاء بدافع الإدمان: إدمان أم كلثوم، وإدمان إعطاء الفرصة لعبد الكريم الشعار.
منذ اللحظة الأولى، وعبر المقدمة الموسيقية، تبدى العازفون الثلاثة مع ضابط الإيقاع «فرقة مميزة» بأدائها المتقن معززاً بوجوه تطفح بشراً، وعرفناهم: على العود زياد الأحمدية، وعلى القانون محمد نحاس (الذي حياه الجمهور بحرارة عندما عرف أنه من أبناء حلب)، وعلى الكمان زياد جعفر، أما الإيقاع فقد تولاه ذو الوجه الطافح ابتساماً بهاء ضو.
مرت الدقائق ثقيلة مع انطلاق عبد الكريم في أداء الامتحان الصعب… ثم تمالك روعه وسرى صوته منشياً وقد واكبه العزف الأصولي، فأخذ الجمهور يهدأ وينسى تخوّفه و«يدخل الجو» تدريجاً، وإن لم يغادره خوفه من «عُبَد» وتقلبات مزاجه.
صدح عبد الكريم ملتزماً اللحن العبقري الذي أضاف إلى الكلمات البسيطة على رقة، والتي تتدرّج في الحكاية نغماً نغماً حتى النشوة.
قال جاري: لكأنها حفلته الأولى. لكأنه غناؤه الأخير.
وقالت تلك التي وعت على الطرب مع صوت عبد الكريم: أخيراً.. ها هو يغني لنفسه!
وقال الزميل المصري المدنف بعشق أم كلثوم وهو يتمايل نشوة: إنه يتحدى ذاته. لكأنه يعوّضنا كل ذلك الزمن الذي هجر فيه الغناء، وأهمل موهبته.
أما زوجة عبد الكريم وابنته التي أخذت عنه بعضاً من صوته فقد رفعتهما السعادة إلى طرب مضاعف استدر دموعهما.
وأما جمهوره القديم فقد بدأ ينتبه إلى أن عبد الكريم المطرب بصوته العفي هو الذي يغني الآن، ويغني «صح». فمن زمان لم يظهر عبد الكريم الشعار لا على مسرح، ولا حتى في برنامج غنائي متلفز… وكان يدور على بعض أصدقائه شاكياً معاندة الأقدار وظلم أصحاب القرار في الشركات العملاقة محتكرة المطربين والمطربات والاستديوهات والملحنين والجمهور!
من نافل القول إن معظم الجمهور، نساءً ورجالاً، كانوا ممّن تجاوزوا الخمسين، في حين كان الشباب قلة، إلا الشباب بالروح كما قال بعضهم مستدركاً لنفي تهمة الشيخوخة…
من هو ذلك العبقري الذي صنّف الموسيقى والذواقة، فاعتبر أهل الطرب من الشيوخ حكماً، ولو كانوا شباناً وشابات، كأنما الغناء بالصوت واللحن من مخلّفات عصور الانحطاط، والمتذوقين أعضاء في نقابة القاعدين في الماضي.
صدح عبد الكريم فأجاد، وسرى الطرب في الجمهور فإذا الآهات تتوالى مطالبة بالإعادة… وزاد انسجام عبد الكريم فسبح في بحر النغم المنشي بصوته العريض، ثم رق مع الكلمات التي كأجنحة فراش فإذا بالجمهور يذوب وجداً، وإذا الآهات تتصاعد من جنبات القاعة الصغيرة، وإذا طلبات الإعادة تتزايد مشفوعة بتحية هذا الصوت العائد إلى جمهوره وقد اكتمل نشوة والتزاماً بالأصول وثقافة موسيقية تؤهله للخروج بالتطريب، إضافة، على طريقة السيدة أم كلثوم.
ثم انتبه عبد الكريم مع الوصلة الثانية فأفسح في المجال أمام الأحمدية فسرح مع عوده مبدعاً، ثم مع النحاس الحلبي الذي أشجانا بذكر الشهباء «بيت الطرب» قبل عزفه ومعه، ثم مع كمان زياد جعفر الذي كاد يغني، في حين كان ضابط الإيقاع يشيع البهجة بابتساماته قبل عزفه.
انتبه بعض الأصدقاء إلى متذوقين جاؤوا لسماع أم كلثوم بصوت عبد الكريم، وقد تركوا خلفهم أحقادهم وكراهيّتهم لمصر وتراثها الفني العظيم ودورها الذي لا غنى عنه في النهوض العربي. وهؤلاء أمرهم عجيب. إنهم يقصدون إلى سماع صباح فخري وهم يشتمون سوريا.. ويزوّرون هوية بعض المطربين والمطربات فيصيّرونهم لبنانيين ليبرّروا سماعهم لهم.
شكراً لعبد الكريم الشعار الذي منحنا ساعتين مبهجتين من الغناء الجميل ستبقيان في الوجدان طويلاً.
وعسى أن تكون هذه الحفلة خطوة أولى في العودة إلى المهنة الوحيدة التي يتقنها عبد الكريم: الطرب!
تهويمات
} سمع زغرودة لهفتها قبل أن تفتح باب الليل لاستقباله:
ـ سنعيد زماننا إلى الحياة. ليأخذ الآخرون النهارات: تكفينا هنيهات ما قبل قبلات الفجر.
ودخل رحاب الوجد فألقى عمره من النافذة ليعيش اللحظة.
÷ قالت: أينك في صمتك، لا تسأل، ولا تحضر، فإذا ما حضرت ففي تظاهرة تأخذك مني. ألم تتعب بعد؟! ألا تريد وسادة من التنهد لترتاح؟! أسكنك عيني ألا ترى وجهك فيها؟
تنحنح وهمّ بالكلام، فلوّحت بيدها مودعة، وأغلقت عليه باب اللهفة.
من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعـــرف له مهـــنة إلا الحـــب:
ـ قبل الحب كنت أعاني من البكم وكان يتعبني إيضاح مقاصدي. اليوم أتقن ألف لغة. ما أغنى هذه الكلمة السحرية من حرفين والتي تفتح أبواب الجنة ثم تغلقه بتنهدات النشوة.