«الذاكرة والتاريخ» في غياب «الجامعة» منح الصلح
عرف اللبنانيون آل الصلح عائلة سياسية تتميز، عموماً، بثقافة واسعة ونشاط يتجاوز حدود «الكيان» إلى المحيط العربي مشرقاً ومغرباً حتى من قبل أن تمتد بالمصاهرة إلى عائلات حاكمة ووجاهات مميزة في فلسطين والسعودية والمغرب فضلاً عن سوريا، أما سياسياً فلها موقعها الخاص في العراق وفي الأردن.
يكفي أن نتابع مسيرة رياض الصلح منذ أن كان فتى يافعاً مطلوباً ومطارداً مع أبيه أحمد من جمال باشا (السفاح) في نهايات الحكم التركي وريث «السلطان»، إلى مشارك مميز في الحراك الوطني المناهض للاستعمار الفرنسي في لبنان وسوريا، إلى شبكة العلاقات الواسعة التي نسجها بدأب مع زعامات البلاد العربية مشرقاً ومغرباً، لتكون الشاهد على مساحة هذا «العالم الصلحي» الاستثنائي.
كان الراحل سميح الصلح يقول في أي مجلس: «نحن آل الصلح لم نعمل إلا في السياسة أو في الإدارة. ليس بيننا تاجر أو رجل أعمال».
أما «الموسوعة» منح الصلح فكان لا يستذكر «أهله» إلا عند الحديث عن العروبة والاستقلال. وكان يتوقف، غالباً، عند محطات مشهودة في النضال ليس من أجل لبنان وحده، بل من أجل الوطن العربي عموماً.
وكان منح الصلح يستفيض في الحديث عن رياض وكاظم وتقي الدين، ولكنه يشير، بقدر من الاستحياء إلى والده عادل الصلح. وحتى عند الحديث عن حزب النداء القومي وجريدته «النداء» التي كشفت فيه موهبة الكتابة مبكراً، فإنه يفضل الحديث بلغة الجمع، وإن خص عمه «كاظم» بجهد خاص في هذا المجال، لا سيما وأن رياض الصلح كان قد تجاوز في أنشطته لبنان إلى سوريا وقادة حركتها الوطنية، وإلى العراق بالهاشميين ونوري السعيد وسائر القيادات السياسية فيه، مروراً بالأردن، وصولاً إلى اليمن، وكذلك مصر بأحزابها والقادة وصولاً إلى المغرب وعرشه العلوي والجهاد الجزائري من أجل الاستقلال واستعادة هويته العربية مجسدة في شخصية البطل التاريخي عبد القادر الجزائري الذي عرفه المشرق جيداً وبالذات سوريا، منفياً، وصاحب دور مميز في وأد الفتنة في أواسط القرن التاسع عشر.
أحياناً كان بعضنا ينجح في استدراج منح للحديث عن والديه، فكان يكتفي بالإشارة إلى أن والده قد ركز جهده على بناء «حزب الاستقلال الجمهوري»، حتى قام حزب «النداء القومي» بقيادة شقيقه كاظم وشق طريقه، فانتقل إلى دور المساند.
ولقد عرف أهل بيروت عادل الصلح رئيساً لبلديتهم، فبذل الجهد من أجل عصرنة هذه العاصمة، من موقعه، تاركاً العمل السياسي المباشر لرياض الذي كان قد غدا زعيماً وطنياً له مكانته المميزة في دنيا العرب، في حين ظل كاظم الصلح يراوح بين السياسة والديبلوماسية، فصار نائباً، بعد أن عمل طويلاً كسفير لدى العراق.
قبل ثلاثة أيام، وعبر أنشطة معرض الكتاب الذي ينظمه سنوياً النادي الثقافي العربي، عقدت ندوة موضوعها عادل الصلح عبر كتابيه: «سطور من الرسالة» و«حزب الاستقلال الجمهوري» اللذين أنتجهما، وأعادهما إلى المكتبة الزميل أنطوان سعد.
ولقد ذهبت، كما الكثير غيري، مدفوعاً ـ بداية ـ بالرغبة في الاطمئنان إلى صحة «البيك» الذي تخرّج من مدرسته العديد من الكتاب والصحافيين، والذي ما زال بعض أهل زمانه وتلامذته يتندّرون بجمله وتوصيفه للعديد من أهل السياسة والصحافة بظرف قد يبلغ حدود النوادر، وقد يذهب مذهب الأمثال والصفات الدامغة التي لا تزول بمرور الزمن.
لكن «منح بك» لم يحضر. لقد منعه المرض من المشاركة في هذه المناسبة العزيزة على قلبه بالتأكيد، وأحدث غيابه غصة في نفوس أصدقائه ومقدريه وتلامذته، من تباهى منهم بأستاذه ومن جحد فضله وادعى ما ليس له من فنون الكتابة التي تحمل دمغة «البيك».
شارك في الندوة متحدثون مميزون أولهم الدكتور بهيج طبارة وقد تحدث عن عادل الصلح «السياسي قبل الكاتب، والعربي المناضل واضح الرؤية، والناشط الذي لا يكل ولا يهدأ». أما الثاني فكان عضو المجلس الدستوري زغلول عطية الذي أشاد بصاحب الذكرى وجهاده، وردد حكمة قديمة نصها «ما رأيت شيئاً جديداً إلا في كتاب قديم».
أما هشام فقد ألقى كلمة شقيقه الغائب الذي لا يغيب منح الصلح.
ولقد اكتشف المستجدون على السياسة أن البطل التاريخي عبد القادر الجزائري قد لعب دوراً تاريخياً مشهوداً في وأد الفتنة التي ضربت دمشق، ثم امتدت إلى لبنان في العام 1860، وأنه واجه جماعات التعصب والغرض الذين ربما اندفعوا بتحريض من العثمانيين إلى مطاردة أشقائهم المسيحيين وأوقعوا بهم مذبحة بشعة، فخرج إليهم الأمير عبد القادر يصدهم ويسفّه دعاويهم، ويجير المطاردين بدينهم منبهاً إلى أن الفتنة خروج على الدين والوطن ولا تخدم إلا الأجنبي الطامع.
ويستذكر اللبنانيون فتنة الستين هذه التي امتدت إلى جبلهم فعدلت في مكوناته، واستدرجت التدخل الأجنبي، فكان أن فرض على السلطان أن يسلم بفصل جبل لبنان وإعلانه «متصرفية» يعين السلطان «متصرفها» من بين رعاياه، على أن يكون مسيحياً، وربما لهذا كان معظم الذين تناوبوا على مقعد المتصرف من الأرمن.
لقد كانت الندوة التي حملت عنوان «الذاكرة والتاريخ» ناجحة… برغم غياب الرجل ـ الذاكرة الذي أسهم في حماية التاريخ وتصحيح ما اختل في كتاباته: منح الصلح.
لتكن لك الصحة أيها الرجل الذي خرّج من «تلامذته» مثل ما تخرّج جامعة كاملة وأكثر.
جديد فؤاد مطر: «سوريا المغلوبة على أمرها»
ينتمي فؤاد مطر، بين الصحافيين المتميزين إلى «جيل التعب»، الذي يرى عمره امتداداً بالكلمة، خبراً وحواراً وتحقيقاً وتحليلاً، بين السطر الأول والنقطة الأخيرة.
ولقد ارتقى سلم الكتابة درجة درجة من محرر تحت التمرين، إلى محرر، فإلى مراسل متجول في المنطقة العربية، وهي المرحلة الأغنى التي مهدت لأن يكون رئيس تحرير لمجلة «التضامن» التي أصدرها في البعيد، في لندن، وكافح لاستمرارها حتى أعجزته الظروف عن مواصلة المغامرة فأوقفها وعاد إلى بيروت.
ولأنه لا يعرف الراحة، ويرفض أن يتقاعد، فقد واصل الكتابة للصحف، محلية وعربية، مفيداً من كنوز المعرفة بالقادة والأحوال وخفايا اللعبة السياسية في أكثر من بلد عربي، في تقديم قراءة متميزة للأحداث، محاولاً تغليب المعلومات وتحليلها على الرأي الذي لا يقبل نقاشاً.
اشتعل الرأس شيباً، وتعبت العينان، وتناقص عدد من يستحق من بين المسؤولين العرب تكبد مشاق الرحلة إليه لمحاورته واستجرار الأسرار منه لتكون «سبقاً صحافياً»، لكن فؤاد مطر الذي يملك خزيناً من أسرار المراحل السابقة تفيده في استقراء اللحظة الراهنة، استمر يكتب محللاً وشارحاً التطورات بما يساعد على فهم «الانقلابات» و«التحولات» في مواقف بعض الحكام وسياسات بعض الدول.
وها هو فؤاد مطر يطل علينا بكتاب جديد عن «المحنة السورية» أعطاه عنواناً لافتاً: «سورية المغلوب على أمرها ـ قراءة في أحلام الأب حافظ السوري ـ اللبناني ـ العراقي ـ الأميركو سوفياتي، وكوابيس الابن ـ بشار اللبناني الروسي ـ الصيني ـ الفلسطو ـ إيراني».
الكتاب يتضمن مجموع المقالات التي كتبها فؤاد مطر خلال سنوات من الحكم البعثي ـ الأسدي ابناً بعد أب ونشرها في صحيفة «الشرق الأوسط» السعودية، كما في صحيفة «اللواء» في بيروت بين الثمانينيات واليوم، معالجاً فيها «صعوبة الكتابة عن هذه المحنة التي تعصف بالدولة ذات الرقم الصعب الثاني في معادلة الصراع مع إسرائيل، ونعني بها سوريا، أما صاحب الرقم الصعب الأول فيه فإنه العراق البعثي الصدامي».
ومع أن هذه المقولة تحتاج إلى نقاش، فإن المؤلف يبادر إلى التركيز على توق المواطن العربي إلى الوحدة، ويشير إلى أن عقيدة البعث مثلثة الأهداف ـ الوحدة والحرية والاشتراكية ـ قد استهوت حتى جمال عبد الناصر، رمز الثورة الأول، وتبنى هذه الأهداف بعد تعديل لمراحلها بحيث صارت الوحدة هدفاً ثالثاً بعد الحرية والاشتراكية، فللمرء أن يتصور أي قبول من جانب الرأي العام العربي وعلى مدى سنوات الخمسينيات والستينيات لفكرة البعث».
وبعد أن يعرض فؤاد مطر للظروف التي فرضت على بشار الأسد أن يترك دراسة الطب ويعود إلى دمشق لكي يتولى والده إعداده للرئاسة، خلفاً لشقيقه «باسل»، ينتقل إلى توصيف القبول الذي حظي به «الرئيس الشاب» في أوروبا عموماً، وفرنسا وإسبانيا وخصوصا بريطانيا، حيث أبدت الملكة خلال تناوله مع زوجته الشاي معها «ارتياحها لهذا الثنائي الذي يشيع الارتياح في النفس مظهراً وحديثاً ولغة إنكليزية راقية وفهماً موضوعياً للأمور».
ثم ينتقل هذا الصحافي العريق إلى علاقة الرئيس السوري الشاب بلبنان «ذلك الكنز الذي أورثه له والده»، والذي أغراه المكان الخالي لدور قيادي على المستوى العربي، فبدأ يتملّكه «فيروس» شعور الزعامة الذي أصاب من قبل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، والذي وصلت به الحمى الناشئة عن ذلك «الفيروس» إلى التصريح ذات يوم بأنه كان يحكم لبنان».
يعبر فؤاد مطر بالتحولات التي شهدتها العلاقات اللبنانية ـ السورية في عهد «الرئيس الأب» وأبرزها «معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق» التي فرض على الرئيس الياس الهراوي أن يوقعها في زيارته الرسمية الأولى لدمشق»… ثم يعقد مقارنة بين هذه المعاهدة وبين الاتفاق الذي عقد بين لبنان وسوريا غداة الاستقلال، والذي قضى بإنشاء «المجلس الأعلى لإدارة المصالح المشتركة» من ثلاثة ممثلين لكل من البلدين، على أن يزاول عمله ستة أشهر في بيروت وستة أشهر في دمشق». ويذكر بأن أول رئيس للاستقلال، الشيخ بشارة الخوري، قد وصف حالة التنسيق بينه وبين الرئيس السوري شكري القوتلي بأنها مقبولة: «كنت وشكري بك القوتلي كأننا شخص واحد. تفكيرنا واحد واتجاهنا واحد، والانعكاسات واحدة سواء في المفاوضات أو في الاجتماعات يستأنس واحدنا بالآخر».
وبعد أن يعرض مجمل التطورات التي عصفت بلبنان وأدت إلى خروج الجيش السوري منه، يعود فؤاد مطر إلى مسؤولية الرئيس السوري بشار الأسد عما أصاب سوريا من قتل وتهديم وتخريب خلال السنتين الماضيتين، مشيراً إلى أنه كان بإمكانه معالجة الأحداث في بدايتها بقدر من الحكمة والتواضع، ولكنه عمد بدلاً من ذلك إلى الاندفاع إلى المواجهة التي تكاد تدمر سوريا: «ومن الجائز القول إنه لم ينتصر وأصبح أسير مسؤولياته عن الإخفاقات التي حدثت».
أبرز ما يستوقف على هامش الكتاب وليس على مضمونه الظلم الذي يلحق بالكاتب أو المعلق الصحافي الذي تفرض عليه مهنته الكتابة اليومية، ثم يكتشف بعد سنوات أنه قد تسرع في أحكامه أو في استنتاجاته، وأنه ربما أعطى هذا السياسي أو ذاك أكثر مما يجب أو هاجم أعنف مما يجوز، لكن ما كتب قد كتب، ولا يفيد في التبرير إلا الاعتذار بأنه يسجل ويعلق ولا يقيم أو يصدر أحكاماً تاريخية.
وفي أحوالنا العربية ما أكثر ما خدعنا الحكام، أو أخذنا حسن النية بهم إلى التسرع في الإشادة أو في الهجوم، ثم اكتشفنا أن الحقيقة في مكان آخر.
وهذه واحدة من ضرائب الكتابة في الصحيفة اليومية… وفؤاد مطر مثلنا جميعاً، نحن معشر الصحافيين، قد أصاب كثيراً وأخطأ قليلاً، وعذره أنه يكتب تحت «حراسة» المطبعة وتوقيتها الثابت.
لكن كل ما نكتبه يخضع لحكم التاريخ الذي لا يتوقف إكراماً لتقديراتنا… وربما لهذا يجب أخذنا بالرأفة وليس بالشدة، فنحن أيضاً خطّاؤون، مهما اجتهدنا في طلب الحقيقة.
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ حبيبي لا يعرف الكتابة ولكنه ينطق الشعر. همس لي:
يأخذني إليك الحزن، يأخذني إليك الفرح، يأخذني إليك ورد القمر وشعاع الغروب الذابل يشق الغيم كهمسة.
… ولم أعرف كيف أكتب جواباً من خارج الشعر.