I ـ القمر يرقص الدبكة .. والسهل مدى للنشوة في ليل الفرح
انسلّت الشمس بجلال الغروب مرخية خمارها الأرجواني بامتداد السهل كأرجوحة من البنفسج معلقة بين السلسلتين الشرقية والغربية، وتحولت تغريدات الحساسين وزقزقات الصلنج والمطوق والدوري إلى ما يشبه أوركسترا فيلهارموني تعزف لحن وداع النور الصائر إلى الانطفاء مع الوعد بعودته فجراً للغد الآتي بشارة بالحياة.
كان الغروب موعدنا مع الفرح. وجاءت قافلة الشركاء فيه من قلب الجنوب إلى قلب البقاع والطريق ربيع والكل يردد ما يحفظ من أهازيج ومقاطع من الأغاني مختلفة الإيقاع.
كانت الخيمة التي امتاز الصنّاع من أهل حمص وريفها وحماه وريفها بإبداعها كلوحات رائعة التشكيل متناسقة الألوان، تمتد فسيحة لتتسع للقادمين إلى الفرح مع أهله الذين استقبلوهم بلحن يكاد يكون حداء “يا ميت هلا طلوا من الجردين سمر اللمى”، وفي قلب المرجة انتصب ما يمكن اعتباره مسرحاً أو منصة أو ساحة للرقص والدبكة.
قبل أن يكتمل النصاب كان القمر الذي يسعى لأن يكون هلالاً قد أطل من خلف الجبال التي تحجب دمشق وريفها والقرى المتناثرة على خط “الحدود” التي لا نتذكرها إلا في حالة الاحتراب مولد الفتنة.
لم يكن أحد مستعداً لهدر الوقت في تأمل الهبوط المتدرج لحرير الليل. كان الكل يتعجل انطلاق النشوة غناءً ورقصاً وصولاً إلى الذروة مع الأهازيج التي استقبلت العروسين بتظاهرة مدوية، قبل أن تنتظم الصفوف في أنصاف دائرة يتقدمهم الشوق إلى الفرح لكي ينطلقوا فيلهبوا الليل بحماستهم وزخم العافية ولهفتهم لأن يسعدوا الأهل الذين جمعهم فرح الشباب.
تقاطر “الدبيكة” إلى الحلقة فبدوا كأبيات في قصيدة من الشعر المنثور… فرحاً.
الإيقاع بسيط: يكفي عازف ناي يحفظ “نبرة” أجداده، وضابط إيقاع، قد تحوله الحماسة إلى ضارب طبل، وصوت شجي يأخذ الناس إلى تلك الذروة التي يبكيك فيها الطرب… و”عمر حمادة” ومن تبقى من “اختيارية” بعلبك الذين ينافسون الشباب شباباً حتى تختلف عليك الدنيا فإذا الفرح مكوّننا الأصلي والباقي تفاصيل.
اندفع “نادر” إلى وسط الحلقة رافعاً صوته ليطرب عابري الليل، مستدرجاً “عمر” ورفاقه إلى اقتحام الحلبة بلباسهم “العربي” الذي أخذوه عن أجدادهم ممن كانوا يستمدون العافية من فرح البسطاء بنعمة الحياة: يعطونها عرق الجباه والزنود فتعطيهم ما يحفظ الكرامة ويؤمن مستقبل الأبناء الآتين من الأرض وإليها.
هجم الجمهور المتشوّق إلى الرقص فأحاط برجال الدبكة وخالطهم مخترقاً صفوفهم بحماسته التي لا تقبل التنظيم، مستدرجاً “نادر” إلى الأغاني الشعبية الدارجة التي لا ينتقص من شيوعها ركاكة الكلمات وعبثية اللحن والأداء المتعثر لمطربي “العشاء الراقص”، حيث يستمع الناس بخصورهم وأقدامهم ويرددون اللازمة التي تحاول أن تقول المعنى ثم تضيع عنه.
تعب المغني ولم يتعب جمهور الشباب الذي لا يريد أن يضيع لحظة من لحظات هذه الإجازة من “الرسميات”… فكان لا بد من استخدام نبرة الأمر في الدعوة إلى العشاء، ليكون الجميع جاهزاً للوصلة التالية.
من قلب الصمت انبثق شجن “المنجيرة” مبشراً باندفاعة “عمر” ومعه فتية “هياكل بعلبك” وصباياها الذين تلاقوا من حوله ليحفظوا تراث الأجداد مع شيء من التطوير مسايرة لاختلاف الزمان ووسائط التعبير.
وعندما أطل العروسان وقد اعتلى كل منهما صهوة جواد مدرب تفجر النغم عفياً بصوت “هادي” وهو ينشد الأغنية المتدفقة شجناً والتي تنشدها الأم لابنها وهي تزفه: “عريّس، عريس، مد الكف واتحنى” والتي كثيراً ما أبكت العروسين والجمهور بلحن انقسام البيت إلى بيتين، فلحظة الوداع ذات شجن حتى في العرس.
ولقد مدّ العروسان كفيهما إلى الحنة، بينما الجمهور يزدحم من حول الحصانين المدربين على عدم الخوف من الازدحام… قبل أن ينتقل الحداء إلى بعض ما غنى علي حليحل قبل أن يخلي المسرح قبل الأوان لكثير ممن أخذ عنه وأغفل ذكره.
غنى “هادي” بصوته الشجي ووسامته ودماثة خلقه، ثم جاء “نادر” يشاركه وقد داخل صوته شيء من الشجن لأنه نشأ بعيداً عن بيئة أهله، وإن كان قد عوّض ببعض أغانيه فضلاً عن بعض الألحان الشائعة.
كان الصوت يمتد بطول السهل، كالصهيل، ثم ينبسط كنهر ـ سقى الله أيام الليطاني ـ يجري ناثراً الخضرة والخير من حول ضفتيه.
تقاربت الأجساد حتى التكامل، وتطايرت مع لحظات اكتمال النشوة لترسم لوحات سوريالية ممتعة، يختلط فيها الإيقاع بزخم الشباب الهادر تلطف منه انثناءات الصبايا التي تشبع العين بألوان البهجة، فإذا قوس قزح يتشكل من حول الحلقة عبر ذلك المزيج المنغم من الحركة واللون وصمت الليل ورجع أصداء الفرح الذي غمر السهل مرتقياً التلال الآخذة إلى جبال الثلج حيث تنتظر الحجال النور الأول للفجر كي تطلق تغريداتها الساحرة.
كان القمر يتهادى منتشياً، وتتراقص الأشجار طرباً، بينما تتراءى التلال وكأنها انتظمت، في حلقة دبكة… منتظرة أن يمسك بمنديل “الأول” ذلك الرجل ـ القلعة “أبو يحيى” الذي لا يهرم ولا يشيخ والذي كان يسحر الصبايا فيندفعن إليه ليراقصهن غير عابئات بغيرة رفاقهن الذين يتمنون لو جاءوا إلى “أبو يحيى” من دون الرفيقات لكي يتعلموا منه فن الغزل بالعينين والشنبين المعقوفين والكوفية والعقال والصاية التي عتقها الفقر، قبل الوصول إلى القدمين المؤهلين لاصطناع الموسيقى.
يكبر الفتية فجأة، يصيرون شباباً وصبايا يرين في الطرب فرصة لممارسة غنج الأنوثة البكر، وتتصاغر الأمهات، وتهز النشوة الجدات فيتدافعن إلى الحلقة يزحمن العروسين بذريعة الاطمئنان إلى دخول الأحفاد مرتبة الرجولة.
… وما زال ليل الطرب ودبكة الرجولة مفتوحين على الفرح.
(إلى العروسين طلال وكارين)
II ـ المحامي الهارب معوّض يحارب مع ليلى بركات .. ضد الفساد!
كنا بليلى بركات فصرنا بالثورة والحضارة وأنطوان جوزيف معوض.
ولم يكن ينقص ليلى بركات من يحرّضها على الثورة على الفساد والغلط ونقص الكفاءة والاستهتار بالمال العام، وإن خيّب أملها دائماً “البغل الذي اسمه الرأي العام”، على ما وصفه الأديب المميز في سخريته الموجعة سعيد تقي الدين.
المشكلة أن ليلى بركات ليست “لبنانية” بالقدر الكافي، برغم أنها من الشوف… لكن أباها ـ في ما يبدو ـ الذي رأى ما لا يُرى وعرف ما لا تجوز معرفته في وزارة المالية من أسرار اللصوص الكبار ـ نهبة المال العام وفي طليعتهم “أقطاب السياسة” و”أركان الاقتصاد الحر”، قد ربّاها بطريقة مخالفة لما تواضع عليه اللبنانيون إجمالاً، فنشأت مقاتلة محترفة في خوض المعارك المشرّفة.. الخاسرة.
أما مَن هو أنطوان جوزيف معوض فهو محام متقاعد، ولكنه مشاغب لا يعرف الاستقالة من التشهير بالخطأ.. وهو حالياً يتنسك في منزله في اليونان، بعدما تحرر من البحث عن المال وتخلى عن الحياة الاجتماعية وتفرغ لتنقية نفسه من رواسب الماضي.
على هذا، فقد اكتشفت الناسك ذو الأصل الزغرتاوي، والذي ترك لبنان ـ الحرب الأهلية في رحلة خرافية مقصدها قبرص فانتهت به في اليونان، إن الطائفية السياسية تستند إلى عاملي الجهل والعصبية عند أتباعها ومحاصرة المثقفين الذين يخادعون ويزايدون بإعلانهم عن ضرورة إلغاء الطائفية ثم نجد أفعالهم تصب في اتجاه طائفي.
.. وأنطوان جوزف معوض سمع عن “قضية الدكتورة ليلى بركات” وهو في أثينا.. ورآها جديرة بأن تروى لتقدم “إحدى رائدات الثورة على الفساد، بخاصة أنها تكشف للرأي العام هشاشة النظام الطائفي”.
ربما لأن المحامي المتقاعد صار خارج لبنان فهو يرى أن النظام الطائفي هش، في حين أنه أشرس وأفظع وأقوى من أي نظام في الدنيا، فمعارضه في منزلة بين منزلتي الخائن أو المرتد.
وربما لأن أنطوان جوزف معوض يجلس مرتاحاً في منتجعه اليوناني فإنه لا يتقبّل أن تكون الخبيرة الإدارية ذات الشهادتين العالميتين وذات الخبرة والكفاءة والمحصنة ضد الرشوة وضد الطائفية والمحسوبية وسائر أمراض النظام اللبناني، قد خاضت معركة مشرّفة وببسالة نادرة فخسرتها… بشرف!
ليلى بركات تعاملت مع المواقع الإدارية العليا في لبنان بعلمها الغزير وتجربتها الدولية الغنية وحرصها على المال العام… فكانت النتيجة أن ربحت القضية وخسرت الدعوى وانتهت متهمة في كفاءتها وفي نزاهتها وفي «دقة» تقاريرها التي كشفت الفضائح المخزية التي تواطأ الوزراء والمديرون وسائر الموظفين على طمسها، إما لأنهم شركاء وإما لأنهم جبناء وإما لأنهم يعرفون أن التحقيق سيبرّئ المختلس والمتواطئ والمتستر وسيتهم من كشف الفضائح بخيانة وطن الأرز ونظامه الفريد.
بداية القصة عندما تمّ تعيين الدكتورة ليلى بركات مديرة تنفيذية لبرنامج ثقافي مهم، كان منطلقاً لحركة ثقافية متنوعة ومتواصلة… ولقد حاولت “الخبيرة المميزة” في علم الإدارة أن تحفظ المال العام، وأن تمنع الهدر والتزوير، فأنفقت من مالها الخاص لتسيير المكتب الذي عهد إليه بمسؤوليته، ثم كتبت استراتيجية البرنامج وطلبت من الوزير المختص تأمين المال اللازم.
لكن أهل الدهاليز والخبراء في تبديد المال العام، بالسرقة أو بالهدر، حاولوا أن يتقاسموا الحصص، فلما أزعجتهم رقابة ليلى بركات قاموا بإهانتها ثم بتهديدها.. ثم شكوها بدعاوى التشهير والقدح والذم، وهكذا تم تحويل الضحية إلى متهم… وتم سحب الكتاب الذي وضعته بتفاصيل المخالفات معززة بالوثائق والمستندات الثبوتية، وبينها أن أحد المسؤولين دخل عليها يوماً، من دون موعد سابق، وبغير إذن ورفع حذاءه وشهره في وجهها متلفظاً بأقوال بذيئة!
ولأن أنطوان جوزف معوض صار “مغترباً” فقد دهش من واقع أن الهيئات الرقابية والنيابة العامة قد صدعت للتدخلات السياسية فلم تفتح أي تحقيق جدي… أما ليلى بركات المقاتلة الشرسة فقد لجأت إلى سلاح الكلمة عبر ندوات حول الفساد اجتمع فيها عدد من ملوك الكلام والمتطهرين، وروت تجربتها فكان أن امتدحوا جهدها وأكبروا شجاعتها ثم انصرفوا وهم مشفقون على هذه المناضلة المكابرة التي تخوض معركة محسومة خسارتها، ثم تخرج منها مبتسمة لتخوض معركة أخرى.
وربما من باب التخفيف عن ليلى بركات قدم لها المحامي الزغرتاوي المتقاعد كتاباً منحول العنوان من الراحل سعيد فريحة “من الجعبة”، جمع فيه بعض اللطائف التي واكبت رحلة هجرته القسرية هرباً من جحيم الحرب الأهلية إلى اليونان عبر قبرص.. ومنها:
“كان اليخت الذي يؤمن الرحلات بين جونية ولارنكا معطلاً فأخذنا سفينة شحن يقودها ربان مصري يتولى الرحلة للمرة الأولى. وكان يتوجب على كل راكب أن يأخذ معه مؤونته من الماء والغذاء والدواء والأغطية إلخ.. بدأت الرحلة ليلاً وكان مفترضاً أن نصل عند الصباح الباكر. فبزغ الفجر وأشرقت الشمس ولم تظهر علينا اليابسة. صعدت إلى غرفة الربان وسألته عما يجري فقال إنه ربما أضاع الطريق ويريد تصحيح مساره، وأخذ يراسل السفن القريبة فأتاه الجواب من قطعة بحرية إسرائيلية ما لبثت أن اقتربت منا وصعد عدد من أفراد طاقمها بدا أنهم يريدون تفتيش الباخرة. توقفت في عرض البحر ساعات، وكان الماء قد فرغ منا فطلب منهم الربان تزويدنا بالمال لقاء ثمن… فأعطونا عدداً من الغالونات وصار الربان يبيعها لمن يدفع أكثر!”.
وفي جعبة المحامي المتقاعد أنطوان جوزيف معوض حكايات كثيرة معظمها يصلح لأن تكون فصولاً في كتب جديدة لليلى بركات عن الفساد والمفسدين.
ليلى بركات ما تزال تواصل معركتها ضد الفساد، الذي لا تراه طواحين هواء… فهي ليست دون كيشوت!
لكنها تستشعر أحياناً أنها لوحدها… برغم أن أمثالها من المقاتلين ضد الفساد والمفسدين والفساد كثر. لكن كلاً منهم يصرخ بلسان محمود درويش: يا وحدنا!
وليس هذا تعظيماً لشأن الفساد، ولكنه تشبيه دقيق له بأعدى أعداء الأمة إسرائيل.
لكن قدر “الفرسان”، رجالاً ونساءً، أن يقاتلوا من أجل… بعد بعد بعد غد أفضل، على ما كان يقول مولانا الفنان الذي أضحكنا من أنفسنا: بهجت عثمان!
ختاماً: عد إلى تقاعدك المريح يا عم أنطوان. أما ليلى بركات فلن تعرف التقاعد وسوف تعيش عمرها تعبة متعبة، حتى أنها تنسى نفسها، بشبابها وعلمها وكفاءتها، وإن ظلت صورتها الأشبه بلوحة لفنان كبير تزيّن ميدان معركتها التي يستحيل فيها النصر!
من أقوال نسمة
قال لي “نسمة” الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ أعترف لحبيبي ألف مرة في اليوم بأنه الأغلى في حياتي… لكن حبيبي يتحصن في حبي ليطالبني بتكرار الاعتراف مع كل نفس.
ولأنني أحبه فإنني أفترض أنه يؤكد حبه لي عبر حبي.