حتى لا يلتهم الإسلام السياسي الدولة والوحدة الوطنية
يتوالى تفجّر المجتمعات العربية بانتفاضات شعبية تنهي عصر تحجرها بالقمع مولّد اليأس إلى حد الاستقالة ليس من السياسة فقط بل من دورها الفكري والثقافي والاجتماعي وتسليم مصيرها للسلطان.
نتيجة لهذه التفجّرات التي أطلق عليها «الربيع العربي»، ثم سحبت إنجازاتها لتوظف في إنكار هوية المجتمعات المنتفضة، تتوالى الاعتراضات من خارج السلطات التي «صادرها» الإسلام السياسي، وتعود إلى الصدارة مسائل فكرية كان يفترض أنها حسمت منذ عهد بعيد، وتطفو فوق السطح مفاهيم سياسية مستجدة كان الاعتقاد أنها باتت من الماضي، لكن جهد المنتصرين المفترضين يريد فرضها مجدداً بقوة الأكثريات التي حملته إلى السلطة في أكثر من بلد عربي.
تشن حروب شرسة الآن لإعادة المجتمعات إلى الخلف، تحت الشعار الديني، عبر الإفادة من الربط بين الأنظمة الدكتاتورية التي أسقطتها الانتفاضات والمفاهيم والقيم الجديدة التي تحمل هوية العصر…
لكأن الأكثر تخلفاً يحاول أن يمد ظلاله على الأكثر تقدماً، بالمعنى الفكري وبموجبات التطور الذي أصاب مختلف نواحي الحياة.
أعيد الاعتبار إلى مفهوم كان قد سحب من التداول لمجافاته حقائق الحياة، وتأكد الإصرار على الربط بين الدين والدولة.
وبرغم أن المفهوم السياسي للدين ليس واحداً، بل هناك مفاهيم عدة لموقع الدين في الدولة، وتحديداً في دستورها وفي آليات الحكم فيها، وحقوق مواطنيها، إلا أن تجارب السلطات الجديدة التي ترفع الشعار الإسلامي تتصرف وكأنها تريد التخلص من الوطنية وليس فقط من القومية والعروبة تحديداً.
فالاستخدام السياسي للدين يذهب بالديموقراطية ويلغي التنوع لفرض دكتاتورية «مقدسة» ستكون أسوأ بما لا يقاس من دكتاتورية الطغاة الذين افترضوا أنهم مخلدون وانتهوا إلى السجن أو إلى المنفى.
بين الطرائف أن بين قوى التطرف السياسي في لبنان من يدّعي أن «ثورة الأرز» هي والدة الربيع العربي، مما يقتضي البحث عن والده!
ثم إن إسباغ الشعار الديني على هذا الربيع يأخذ لبنان إلى الفتنة ليس فقط بين أبنائه المسلمين والمسيحيين بل بين المسلمين أنفسهم المختلفة أكثرياتهم حول التفاسير والموجبات وموقع «الحاكم» في النظام…
أما الربيع الليبي، بالتوصيف الرائج، فيأخذ إلى الحرب الأهلية بين المواطنين، وكلهم مسلمون.
.. والربيع اليمني، بالتوصيف ذاته، يأخذ إلى الانفصال والتشظي عبر سلسلة لا تنتهي من الحروب الأهلية، التي قد تكون طائفية وقد تكون جهوية وإن ظلت في الغالب قبلية… والنتيجة خروج الجميع من وطنيتهم، يمنيتهم، وبالتالي من عروبتهم، وهم الأصل في العرب والعروبة.
أما الربيع المصري فيأخذ، جهاراً نهاراً، إلى الشقاق وضرب الوحدة الوطنية… إذ يميز بين المواطنين في شعب واحد على قاعدة معتقدهم الديني. وها نحن نشهد البدايات المثيرة للقلق في الجدل حول الدستور وموقع الدين من الدولة، وبالتالي مواقع مواطنيها في حكمها وحقوقهم فيها.
وليس أكثر من الأسئلة التي يطرحها الشعار الديني للدولة: فمن هو الممثل الشرعي والوحيد للعزة الإلهية؟ ومن هو الناطق الرسمي باسم الإرادة الإلهية؟! من يستطيع ادعاء الحق في تفسير القرآن؟ وأين موقع الاجتهاد والعقل في هذا كله.
إن خطر تهديم المجتمعات بالشعار الديني قائم.. وكذلك خطر ضرب طلائع الوعي، في حين أن أكثر ما تحتاجه المجتمعات العربية هو تعزيز وحدتها عبر احترام تنوعها.
لا يمكن أن يكون ربيعاً هذا المناخ الذي يهشم الدكتاتورية السياسية ـ العسكرية ليفرض الأحادية الدكتاتورية باسم الدين.
عن معايشة ظافر الحسن للدبلوماسية اللبنانية..
قلة من السفراء يتمتعون بملكة الكتابة للجميع، إذ إن معظمهم لا يهتمون باللغة والصياغات التي تتجاوز «التقرير» ربما لأنهم يفترضون أن المطلوب منهم تقدير الموقف السياسي استناداً إلى اتصالاتهم ومتابعتهم وعلاقاتهم الخاصة مع بعض أصحاب النفوذ ومواقع القرار.
لكن تلك القلة من السفراء من ذوي الثقافة والذوق الأدبي هم من أغنوا المكتبة الدبلوماسية، إذا جاز التعبير، وقدموا للناس ـ من خلال تجاربهم الشخصية ـ مؤلفات غنية، تعرفهم إلى البلاد التي مثلوا لبنان فيها، بتاريخها وطبيعة نظامها وموقع الشعب منها، فضلاً عن العلاقات مع الغير.
ولقد عرفت الدكتور ظافر الحسن منذ زمن طويل: بداية وهو سفير طال مكوثه لدى «طويل العمر» في السعودية، ثم بعد ذلك في الإدارة المركزية بوزارة الخارجية في واحدة من الحقب القاسية من تاريخ لبنان المثقل بتراث حروبه الأهلية.
لفتتني، في البداية، أناقته في اختيار كلماته، ثم في طريقة تناوله للمسائل المطروحة، والدقة التي تفيض عن الحاجة، بالنسبة إلى العديد من المسؤولين الكبار الذين يفضلون الشفهي على الخطي والموجز على التفصيل حتى وإن أخل الإيجاز بالدلالات السياسية.
لكنني لم أكن أعرف أن ظافر الحسن، المتحدر من بتوراتيج، في الكورة التي تطل على طرابلس من خلال حقول الزيتون، شاعر رقيق وله ثلاثة دواوين: «إشارات الظمأ وخطوط الرماد»، «السفر في علامة استفهام» و«حالات الطوفان».
ظافر الحسن قد انتهى تقريباً من تسجيل ما يمكن اعتباره حصيلة عمله في خدمة دولته، وأعطاها عنواناً دقيقاً: «الدبلوماسية اللبنانية ـ معايشة شخصية».. هي «مذكراته»، بمعنى ما، وتقع في سبعة مجلدات، أولها يحمل عنوان «الأزمة اللبنانية من الشرفة السعودية» حيث عمل لمدة 12 سنة.
لم ينس ظافر الحسن حديث القلب، ولو عبوراً، وهكذا عبر على وقوعه في شراك الحب مع «شابة من آل البزري»، سلمى أحمد البزري التي ستغدو رفيقة العمر، مع أنه لم يكن من المتعشقين لفكرة الزواج بل أقرب إلى المنصرفين عنه والمتمسكين بحريتهم «وهكذا دخلتُ صباح 20 ك2 1979 واحداً إلى بيت البزري وخرجت اثنين».
يروي ظافر الحسن تفاصيل التفاصيل: من لحظة تقديم أوراق الاعتماد إلى بعض الإشكالات في العلاقات اللبنانية ـ السعودية، إلى السياسة الخارجية السعودية في العام 1982، مروراً بالاجتياح الإسرائيلي للبنان، وصولاً إلى كامب ديفيد حيث أخرج أنور السادات مصر من الصف العربي.
وبديهي أن العديد من وقائع التمهيد للمؤتمر الذي أنجب «اتفاق الطائف» قد جرت أمام عيني السفير الدقيق في المتابعة، كما في الاستنتاج، فكيف إذا كان «الشاهد العدل» على ما جرى.
من بين الوقائع التي أثارت جدلاً طويلاً في بيروت ودمشق وعواصم أخرى، الزيارة السرية التي رتب للشيخ بشير الجميل أن يقوم بها إلى الرياض، حيث التقى اللجنة العربية لتسوية الأزمة في لبنان، التي كان يرأسها الأمين العام للجامعة العربية الشاذلي القليبي، فضلاً عن المسؤولين السعوديين… وعلى هامشها اللقاء الذي لم يعلن عنه رسمياً مع وزير الخارجية السورية آنذاك عبد الحليم خدام.
هنا بعض التفاصيل التي أوردها ظافر الحسن عن تلك الزيارة:
«ثم عادت اللجنة للاجتماع بكامل وفود أعضائها في قاعة أخرى بعد منتصف الليل بقليل، حيث قدم الأمير سعود يساعده القليبي والحسين عرضاً لمداولاتهم مع بشير الجميل. وملخصها أن الشيخ بشير يرفض بقاء أي فلسطيني مسلح على أرض لبنان ويطلب انسحاب جميع الغرباء، ويعد بعد بناء الدولة أو الحكم القوي بأن يجري النظر في قبول عودة قوة فلسطينية رمزية تقل أو تزيد عن 500 عنصر.
انفض الاجتماع في الثانية والنصف تقريباً من بعد منتصف الليل لتناول السحور (باعتبار أننا كنا نعيش فترة رمضان شهر الصوم لدى المسلمين) ومتابعة المباحثات بين رؤساء الوفود على مائدة سحور الأمير سعود الفيصل في جناحه، في قصر المؤتمرات حيث نقيم جميعاً.
توجهنا (حسين العبد الله وعادل إسماعيل وأنا) إلى شقة بشير الجميل وجلسنا معه سحابة نصف ساعة. كان يلبس بيجاما بلون أزرق غامق وعلى صدرها بالعربية رسم حرفين متداخلين بج أي بشير الجميل.
قال إن إسرائيل ستهاجم بيروت الغربية إذا لم يغادرها الفلسطينيون، وإن أبو جهاد (السيد الوزير) اتصل به قبل يومين، فأخبره الجميل بذلك.
وأضاف: الشيعة أخذوا نصيبهم في الجنوب. والآن جاء دور السنّة في بيروت. وبعدها كيف أجد بينهم من يجلس معي الى طاولة واحدة؟ سيقولون بشير الجميل حليف إسرائيل ولن نتعامل معه. وقال: أنا أمثّل مسيحيي لبنان، بل والشرق أيضاً.
«… نحن نريد بناء لبنان القوي، الحرّ، الديموقراطي، النظيف. الآن دخلت إسرائيل. والله يعلم ما ستطلبه منا لتخرج. المهم من زيارتي هذه للطائف أن أنزع عني صفة المعادي للعرب والمسلمين (لم يقل هذا بالحرف بل استعمل بالفرنسية عبارة me dédouaner يعني حرفياً أن أسدد رسومي الجمركية ومجازاً أن أعيد الاعتبار الى نفسي، أن أبرئ نفسي). كان واضحاً أنه يريد غطاءً عربياً وإسلامياً وأن الزيارة أتاحت له هذا الغطاء.
كان هذا اللقاء أول لقاء لي مع بشير الجميل وجهاً لوجه. عندما قُدّمت له باسمي وصفتي، قال: سمعت عنك الكثير من كلام التقدير. لم أتأثر. اعتبرتها مجاملة عابرة.
للرجل جاذب هو بساطته وعفويته وتصميمه.
وله جانب منفّر هو ضيق أفقه… ورؤيته للأمور والقضايا والناس بالأسود والأبيض… وجهله بالآخر… وضعفه باللغة العربية… إذ عندما قيل له مثلاً رفعت الجلسة للسحور، قال وما هو السحور…».
[ هذه لمحات بسيطة اقتطعت من مجلدات احتاجت عمراً لكتابتها وتحتاج زمناً لقراءتها، ولنا عودة إليها بعد اكتمال صدورها.
«أناشيد بعدي القريب»: جنة الصمت العشق
هي إطلالة واحدة في السنة يتلاقى فيها رفاق العمر من حول كتيب جديد يضم ما تختار نور سلمان أن تنشره من كتاباتها التي تشبه الشعر وإن تجاوزته تمثلاً بطريقة التعبير في الشعر الصوفي بين المعنى الظاهر والمعنى الباطن.
«أناشيد بعدي القريب» هو الديوان الجديد الذي وقعته نور سلمان محاطة بتلك الكوكبة من الصديقات، حتى ليبدو الرجل الذي يخترق حرمتها وكأنه قد سقط في بعض كمائن الحريم اللواتي طالما خضن المعارك من أجل التحرر من هيمنة «المجتمع الذكوري»!
الكتيب الجديد يشكل إضافة نوعية إلى نتاج نور سلمان في الشعر الحر والنثر الوجداني» «لفجر يشق الفجر، الوجد يكتبني، أنثر أنشودتي فوق الخيبة، إلى رجل لم يأت، رغم كل هذا، والهجرة إلى الورق».
يلعلع السخط في الصفحات القليلة للديوان الذي ينز وجعاً بدءاً من الإهداء:
«إلى وطني المؤجل وأبنائه»:
«وطن السلاطين في وطني/ وطن السلاطين حرم عليّ إنقاذ الفقير/ من مسيرة الفقر الطويلة/ طوال عمره المذلول/ الفقر شريعة السلاطين»
«لم أبكِ مع الفقير/ الدموع في بلادي مشاع خسارة/ الدموع في بلادي لا تقيم البناء..»
حتى في الغزل تطفح أبيات نور سلمان مرارة:
«لماذا تركتني أتبعثر في الجفاف/ لماذا تركت شرودي هائماً يعاني عطشه، كأن الهروب يروي العطش ويكسر مخالبه»…
تنتبه، أحياناً، إلى الوجه الأخر، الأبهى والأجمل للحب:
«تفتح الورد في وجنتي/ أشرقت شفتاي بكلمة سرك، أسرعت أنفاسي إلى بعدك/ تساقطت عني أثواب الزمان، ثوبا بعد ثوب/ حتى عري الفرح على أعتابك».
وبعدما تصرخ «جملني بعنفوان الحب يا حبي» تعود إلى الوجع:
«صديقي نسي انه صديقي/ أقفل ذاكرته/ قال لي: صرت أقوى من الانتظار المرهق/ من الانتظار البليد»..
لكن الهم السياسي يأخذها مرة أخرى:
«سمعت حسرات شهدائنا تواسي أرضنا، تعلنها مقدسة
«ألقيت دموعي في حضن صلاتهم، وأسلمت الكلام لإبداع البطولة»
ثم تكاد تصرخ:
«آه يا وطني، آه يا لبنان، من تحكم بكتابك؟ من استبد بحريتك، من قطع تاريخك، من قطع أرضك..».
لا مفر من الحب برغم «الأوجاع في مركب الليل»، وهكذا تعود الى جنة الصمت، أي العشق، «هاربة أنا من زوائد تنقصني لكن النور الصعب يختصرني، يبدعني وقطرة حبي تروي عطش دنياي»..
على أن السياسة تغلب، أحياناً، فيتفجر وجع من طبيعة مختلفة خصوصاً مع استذكار «الرغيف المهدد والماء الشحيح، والطلاق بين الحرية والديموقراطية والعنفوان» وأيامنا المضرجة بالهزائم التي صارت مدافن وسجونا للحقيقة.
تعود نور سلمان لتتأرجح على خيوط القلق في انتظار أن يتفجر الحب نهراً:
السؤال، السؤال، السؤال: أيحبني؟ أنا منكسرة في الغربة؟ أتحبني؟ حبك أنت فجر سفري».
ولأن «قصصنا ترن كالخلخال في رجل الجارية»، فهي تستنجد بمعذبها:
«احمني.. احمني، يا حب نهاري القاسي، يا حب ليلي الصعب»
نور سلمان مسافرة أبدية إلى حب مطلق:
الحب بداية تتكرر. الحب يبدع الربيع في مدى القرب وفي مدى البعد.
لولا سحر بعدك الخفاق لسقطت في قرب الكلام المهزوم في ساحات الزيف
وارحل من جديد إلى قلبي. خذه من ليلي ونهاري انه وردة لحبك»
ويتبدى تأثير الشعر الصوفي واضحاً في محاولاتها الشعرية التي يتوجب عليك أن تقرأها مرتـين، مرة في ظاهرها ومرة أخرى في باطنها.
«وإذا كان العشق هو جنة الصمت فإن من ينادي الحب يجيبه عارياً كالمرمر، ويهوي على الفراش المسطح غارقاً في بدايات تلوح له بالنهايات».
نور سلمان أخذتها الوردة إلى قلبها وغفت في عطرها، وفي الصباح قالت الوردة: أنتم غزاة الورد لا عشاقها…
وهي لا تقول حتى عندما يهتف لها «حبي لك» لكن صمتها كله شعر إليه.. أليست جنة الصمت العشق؟!
وعــسى أن تجد نور سلمان أخيراً رفاق طريقــها الذين أضاعتهم، فلها رفاق لم يضيّعــوها.. وها هم قد تحلـقوا من حولــها ليكملوا معها الطريق.
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ لا يقبل الصبا الاعتذار بالعمر… صديقــي الذي استقــبل الفتاة الخارجة من الحلم عاتبهــا قائــلاً: هرب مني الزمان فلماذا تصلين متأخــرة… لكن جوابــها صعــق ضــعف ثقــته بنفــسه. قالــت: أنا الزمــان!. وشبــابك ينبــع من إرادتــك وليــس مــن عــيون الآخــرين.