طلال سلمان

هوامش ## هوامش كتابات على جدار مهنة الصحافة (10)

منح الصلح يكشف “الانعزالية الجديدة” محلياً وعربياً .. و”الحوادث” الأولى
عرض من رياض طه يحسّن وضع الحوت ويُخرج الفتى
أطلقت مجلة “الحوادث” في الفترة التي تلت ما يسميه البعض “ثورة 1958” ويسميه البعض الآخر “أحداث 1958″، حملة مركزة على “الانعزالية الجديدة” في لبنان، مستفيدة من احتكار التطرف لتمثيل المسيحيين (بيار الجميل والكتائب أساساً وريمون إده) في “حكومة الأربعة” التي كان يرأسها رشيد كرامي ومعه الحاج حسين العويني.
كتبت مقالات عديدة في سياق هذه الحملة التي كان مهندسها ومطلقها منح الصلح، وإن شارك في الكتابة سليم اللوزي وشفيق الحوت وآخرون.. وقد شملت الحملة بطبيعة الحال الرئيس المنتهية ولايته كميل شمعون، منوهة بالموقف المتميز للبطريرك الماروني المعوشي الذي كان لموقفه المتزن فضل عظيم في وأد الفتنة وحصر الخلاف في إطاره السياسي.
كانت المنطقة تعيش في ظلال تجربة الوحدة التي جمعت ـ لأول مرة في التاريخ الحديث ـ مصر وسوريا في دولة واحدة كان مأمولاً منها أن تستقطب دولاً أخرى، وكان العراق المرشح الأول، خصوصاً بعد ثورة 14 تموز 1958 التي أنهت العهد الملكي (الهاشمي) وفتحت الباب لعودة العراق إلى موقعه الطبيعي في حضن أمته العربية بعيداً عن الأحلاف الأجنبية وبعضها قد حمل اسم عاصمته بغداد.
في المقابل كانت الممالك العربية والقوى المعادية للتوجهات التحررية تشن حملة ضارية على دولة الوحدة، تركز على الرئيس جمال عبد الناصر وإن امتدت إلى تحريض السوريين على “الفراعنة المصريين” الذين أسقطوا استقلال سوريا ودولتها ليستعبدوا شعبها.
وكانت المقالات حول “الانعزالية الجديدة” تتجاوز لبنان لتصيب كل التوجهات الكيانية في مختلف بقاع الوطن العربي، لا سيما فلسطين ومصر وسوريا التي كانت القوى المتضررة فيها من الوحدة قد باشرت جهدها لإعادة إحياء “المشاعر الوطنية السورية” تحت شعار الدفاع عن “استقلال سوريا” وحماية عروبتها من الكيانية المصرية.
صارت “الحوادث” منتدى فكرياً، بفضل آراء منح الصلح وجهد شفيق الحوت فضلاً عن قدرة سليم اللوزي على استقطاب المختلفين… وكانت مقالات الدفاع عن الوحدة وعن الاشتراكية تتراصف مع مقالات الهجوم على الانعزالية الجديدة التي تريد إعادة البلاد العربية إلى الحماية الأجنبية.
كان الفتى يتابع المناقشات باعتبارها دورات تثقيفية. وبرغم حماسته للوحدة فقد وجد في ما يُقال في نقدها ما يستوقفه، لا سيما ما يتصل بمسألة الحريات وكذلك ما يتصل بالاندفاع السوري المباغت إلى طلب الوحدة الاندماجية وتجاوز تحفظات جمال عبد الناصر على هذا الاستعجال الذي سوف يستفز القوى المعادية جميعاً، عربية وأجنبية، قبل أن تكون الدولة التي استولدت على عجل قادرة على مواجهتها بصلابتها المستندة إلى التأييد الشعبي الذي كان كاسحاً في سوريا ومتردداً في مصر، إن لم نقل إن التحفظ قد غلب الحماسة طارحاً الأسئلة الصعبة التي لم تتوفر لها الإجابات التي يقبلها العقل، بمعزل عن العواطف والحماسة واستعجال الإنجاز قبل أوانه.
أما سليم اللوزي فكان يترجم احتدام المناقشات حول هذه المسائل الحيوية، بأبعادها الفكرية والسياسية المباشرة، زيادة في مكانة “الحوادث” كمنبر حوار ومن ثم زيادة في توزيعها، واستطراداً في إمكان حصولها على مزيد من الإعلانات.
وصار مألوفاً أن يتردد على “صالون الحوادث” العديد من المفكرين، حزبيين ومستقلين مثقلين بالهمّ القومي، وإن ظل البعثيون هم الأبرز، خصوصاً أنهم يرون في مقالات منح الصلح التي يعرفونها من أسلوبه برغم غياب توقيعه عنها ما يعبّر عن هواجسهم وعن تمزقهم بين الخوف على الوحدة التي لها الموقع الأول في شعارهم الأثير “وحدة، حرية، اشتراكية” وبين رفض الذوبان في التنظيم الأوحد لدولة الوحدة: الاتحاد الاشتراكي، والذي تحرّف معه الشعار بإعادة ترتيب الأولويات فصار “حرية، اشتراكية، وحدة”.
[ [ [
÷÷ كان سليم اللوزي بارعاً في الإفادة من صداقاته وعلاقاته، كما من صداقات أصدقائه.. ومع النجاح الذي حققته “الحوادث” فقد أخذ يفكر، ثم قرر فنفذ واشترى أرضاً على كورنيش المزرعة الذي جرى افتتاحه في تلك الفترة في الأرض التي كانت رمالاً تفصل بين المزرعة وبين ما سوف يسمى “الطريق الجديدة” نسبة إلى الكورنيش الذي امتد كتتمة لشارع فؤاد الأول حتى الروشة وصولاً إلى عين المريسة. ولم يكن في المنطقة، جنوب الكورنيش، إلا الملعب البلدي وسجن الرمل، ومدرسة البر والإحسان، وفي العمق شارع حمد الذي يمتد ليصل إلى صبرا وشاتيلا.
في تلك الفترة تحديداً، لمعت فكرة “جامعة بيروت العربية” في أذهان بعض وجهاء بيروت ومعهم كثير من اللبنانيين الذين كانوا يشكون من احتكار الفرنسيين والأميركيين التعليم الجامعي، عموماً، لا سيما مع الضعف أو الإضعاف المقصود للجامعة الوطنية.
وكان أن ذهب بعض وجهاء بيروت إلى جمال عبد الناصر بمطلب إنشاء جامعة عربية في بيروت، لا سيما مع احتدام الأزمة حول تدريس الحقوق في الجامعة اللبنانية والإضراب الذي شنته القوى الحريصة على احتكار العلم في وجه تدريس الحقوق باللغة العربية.
ولقد وافق جمال عبد الناصر على الطلب، وهكذا قدّم آل الحوري الأرض وقدّمت مصر المساعدة المالية الكافية لإشادة المباني، والكادر التعليمي اللازم لمباشرة الدراسة، فضلاً عن تكليف جامعة الإسكندرية بتأمين الأساتذة والمدرّسين وفقاً لمنهجها.
في المقابل تمّ حلّ مشكلة البكالوريا ـ القسم الثاني، بأن أقرت الحكومة معادلة “الموحدة” السورية و”التوجيهية” المصرية بتلك الشهادة التي تشكل المدخل إلى التعليم الجامعي عموماً، والانتساب إلى كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية والجامعة العربية المستحدثة، بالاستطراد.
ربح فقراء لبنان جامعتين: اللبنانية والعربية دفعة واحدة.. خصوصاً أن الجامعة اللبنانية شهدت نهضة عظيمة فاستحدثت فيها كليات علمية عديدة (هندسة، علوم، ومن بعد صيدلة وطب وطب أسنان)، فضلاً عن كليات الحقوق والآداب والعلوم الاجتماعية.
أما داخل “الحوادث” فكان شفيق الحوت يتألق يوماً بعد يوم، ليس فقط ككاتب وإنما أيضاً كمحور لعلاقات واسعة مع المثقفين وأصحاب الرأي على اختلاف مواقفهم. وصار شريكاً فعلياً في القرار داخل “الحوادث”، يستمع له سليم اللوزي باهتمام، ويعمل على تنفيذ مقترحاته… إلا المالية منها.
ولقد شكّل شفيق مع منح الصلح ثنائياً فريداً في بابه: الأول بحماسته وإخلاصه لقضيته (فلسطين) التي تلخص العروبة والمستقبل بالنسبة إليه، لا الماضي، والثاني بثقافته الواسعة وقدرته الفائقة على التحليل، واستنطاق التاريخ، بأحداثه ورجالاته وتراثهم الباقي في فهم التطورات عربياً، فضلاً عن كونه مرجعاً مميزاً في ما يتصل بالنظام اللبناني وكيف استولد، وما هي التحولات التي شهدها ما بين “المتصرفية” و”دولة لبنان الكبير” ثم الجمهورية اللبنانية خلال فترة الانتداب ثم في بداية عهد الاستقلال، برئيسه الأول بشارة الخوري والثورة عليه بعد الخطيئة المميتة بتزوير انتخابات 1947 لتجديد ولايته في العام 1949، ثم عهد كميل شمعون بإطلالته المشرقة ثم بنهايته التعيسة بعد محاولته تجديد ولايته في العام 1958، واصطدامه بحركة القومية العربية الناهضة التي كانت قد باتت محرّك السياسة وأهدافها، خصوصاً مع الهبة الشعبية العظيمة طلباً للوحدة العربية تحت قيادة جمال عبد الناصر.
÷÷÷ انقسم لبنان معسكرين متمايزين مع فشل كميل شمعون في التجديد لنفسه. ومن أسف، فقد اتخذ الانقسام، كالعادة، سياقاً طائفياً ولم تنفع محاولة الرئيس فؤاد شهاب في استيعاب الكتائب والكتلة الوطنية في “حكومة الأربعة” لإخراجهم من الشارع، بل لعلها عززت الانقسام مستولدة الطبعة الجديدة من الانعزال في لبنان (الذي سيمتد عربياً) والتي أطلق عليها منح الصلح تعبير “الانعزالية الجديدة” التي تحتوي ـ ضمناً ـ النفوذ الأجنبي، الغربي الذي بات الآن أميركياً بعد أن كان في ما مضى فرنسياً وإنكليزياً.
وبينما اكتسح “الشهابيون” المؤيدون، عموماً، للعلاقة المميزة مع دولة الوحدة بقيادة عبد الناصر، الانتخابات النيابية في العام 1960، فإن قوى الاعتراض كانت ذات قاعدة شعبية لا يستهان بها، وكانت الكتائب تستقوي بهذه القوى لممارسة تحفظات واعتراضات على السياسة المعتمدة.. وكان كميل شمعون حليفها المؤكد، وإن ظلت “الخصومة التقليدية” قائمة مع “الكتلة الوطنية” بقيادة ريمون إده.
في عهد فؤاد شهاب عرف الحكم في لبنان “الخطة الشاملة” التي ترسم مهام الحكم، وتلتفت بالاهتمام إلى المناطق التي كانت الحكومة تستبعدها وتهمل أهلها فتتركهم للريح. وهو قد استعان ببعض الخبراء الفرنسيين لإعداد خطة تنمية شاملة للبنان جميعاً، بجنوبه وبقاعه وشماله، فضلاً عن العاصمة والجبل.
كذلك فقد أقام هذا العهد مجموعة من المؤسسات التي من دونها لا تكون دولة، ومنها: مجلس الخدمة المدنية الذي يختار الموظفين عبر الامتحان الصارم، وهيئة التفتيش المركزي بفروعها الإدارية والمالية والقضائية الشاملة، والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الذي يحفظ للأجراء حقوقهم في الاستشفاء والعلاج وتعويض نهاية الخدمة.
تبدى وكأن لبنان سيعرف الدولة أخيراً. ولقد واكبت “الحوادث” هذا التطور بالتأييد، خصوصاً أن العهد الشهابي قد التزم في سياسته الخارجية مساندة مواقف الجمهورية العربية المتحدة.
وكان طبيعياً أن ينشط الفتى كمحقق يركز اهتمامه على القضايا الاجتماعية وأوضاع “المناطق” التي كانت مشطوبة من ذاكرة الدولة فأعيدت إليها… هذا بالإضافة إلى مهمته كسكرتير للتحرير، يتابع إنتاج “المادة” ورسم الصفحات، والتصحيح وقد جاء إليه مَن يساعده فيه.
أما شفيق الحوت الذي كان قد بدأ يمارس، عملياً، دور رئيس التحرير، فكان يرى أنه لا يأخذ ما يستحق من الأجر، لا سيما أن “العلاقات العامة” كانت تكلفه فوق ما يطيق.. إذا ما أراد التصرف كما يقتضي الموقع، بدءاً من الغداء في الموقع الحواري الممتاز، مطعم فيصل، وصولاً إلى الإطلالة بين الحين والآخر على بعض مواقع السهر التي يتلاقى فيها “نجوم” البلد من السياسيين وأهل المجتمع، من دون إغفال جلسات السمر في الدولتشي فيتا مع دهاقنة المحللين السياسيين والضيوف الآتين من أقطار عربية عدة، سوريا والأردن وفلسطين، على وجه الخصوص بكل ما يحملونه من أخبار وأفكار وتصورات لما سوف يكون، فضلاً عن العائدين من القاهرة بوقائع الاحتدام بين السوريين والمصريين في الحكومة المركزية، والتي تثير القلق على تجربة الوحدة.
وكان بديهياً أن يباشر شفيق الحوت المطالبة بزيادة راتبه، وأن يضم الفتى إليه ومعه وجيه رضوان ونيازي جلول. ولقد تراجع الأخيران بسرعة، في حين ظل الفتى على تضامنه مع مدير التحرير الذي رعى تجربته وشجعه دائماً وهو يتقدم “في المهنة”، فينجح كسكرتير للتحرير وكمحقق ومتابع دقيق لشؤون المجلة حتى الطباعة.
جادل سليم اللوزي، بداية، في عدالة المطلب. ثم أصرّ على أن يأخذ كل حالة على حدة، فالبعض يستحق في حين أن البعض الآخر ينال من الأجر أكثر من حقه.
وذات يوم، جاء شفيق الحوت إلى الفتى يهمس له بأن رياض طه قد عرض عليه منصب رئيس تحرير مجلة “الأحد” فاشترط أن يكون معه كسكرتير للتحرير براتب يكاد يوازي ضعفي ما يتقاضاه في “الحوادث”.
ولأن الفتى يثق براعيه فقد فوّضه أن يتفاوض باسمه متعهداً له بأن يرافقه إذا ما قرر ترك “الحوادث” والذهاب إلى “الأحد”.
ولقد طال التفاوض، أو أنه أطيل عمداً، ليتمكن سليم اللوزي من إنجاز خطته للفصل بين شفيق الحوت وبين الفتى… وهكذا فقد قدم عرضاً جيداً لشفيق مشترطاً عليه التخلي عن الفتى الذي “ما زال في مطلع شبابه، وأمامه زمن كاف للتقدم مهنياً ولتعزيز دخله، ولا يجوز أن نقفز به قفزاً حتى لا تختل عنده المعايير”.
اعتبر الفتى أن الوضع قد بات مهيناً له، خصوصاً أن سليم اللوزي قد استدعاه ليؤنبه على “الغدر به” وهو الذي جاء به من “تكية” كان يمكن أن يعيش عمره فيها ثم يموت مجهولاً لا يعرفه أحد، بينما قد وفرت له “الحوادث” الفرصة ليغدو صاحب اسم في دنيا الصحافة، وأن عليه أن يتعب أكثر ليتقدم بوتيرة طبيعية، فالمستقبل أمامه، ولسوف تأتيه عروض أفضل من هذا الذي جاءه من “ابن الهرمل” الذي اقتحم دنيا الصحافة بالخطابات السياسية والكتابة الحماسية التي تكشف ضحالة ثقافته وغربته عن مهنة الصحافة.
لم يقبل الفتى التشهير برياض طه لأنه من أبناء منطقة بعلبك ـ الهرمل، خصوصاً أنه الوحيد من أبنائها الذي بنى رصيداً طيباً لمجلة “الأحد” قبل أن تساعده الموجة الناصرية على إطلاق جريدة “الكفاح العربي” يومية، فضلاً عن امتلاكه لوكالة أنباء محلية، ولمطابع، أي كل ما يدل على أنه اختار الصحافة بقرار واع، حتى مع افتراض أنه رآها الطريق الأقصر إلى النيابة وما بعدها… لا سيما أن رئيس المجلس النيابي صبري حمادة كان من أبناء الهرمل.
بل لعل “تشاوف” الطرابلسي ابن بائع النمورة الجوال، على الكاتب بقلم من نار، بلسان أهالي تلك المنطقة المحرومة التي يتحدر هو أيضاً منها، قد استفزه وجعله أقرب إلى قبول عرض الخروج من “الحوادث” إلى “الأحد”، لا سيما وقد أبلغه شفيق الحوت ـ معتذراً ـ أنه لم يتمكن من إقناع سليم اللوزي بأن تشمل “الزيادة” راتب الفتى.
تحوّل الأمر برمته إلى نوع من التحدي… وكان على الفتى أن يقرر: هل يقبله فيخرج، أم ينحني فيبقى مكسوراً؟!
وكان خروج سيدفع بالفتى، من غير تخطيط مسبق، إلى آفاق غير التي قررها أو فكّر فيها أو قدر أنه سيبلغها.

من أقوال نسمة
قال لي “نسمة” الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ يرق الحب مع البعد. تشف صورة الحبيب فتصير في الهواء، ويتردد الصوت همساً يحيطك بغلالة من النشوة… لكن ذلك جميعاً يزيد اللهفة إلى الذوبان في أحضان التلاقي.

Exit mobile version