نقتل تاريخنا ثم نندبه!
يكره العرب تاريخهم، قديمه والحديث.
إنهم ينظرون إليه من خارجه فيخافون منه أو يخجلون، ويفتشون عن مهرب منه ولو إلى التواريخ المصطنعة أو المدعاة.
فأما تاريخهم القديم فيثقل عليهم بمآثر الأقدمين من الفتوحات تحت راية الإيمان إلى دحر الغزاة وحماية الأرض والمساهمة في صنع الحضارة الإنسانية، فيظهرهم وكأنهم لا يستحقون أجدادهم. يستشعرون حيالهم الضآلة ويعذبهم العجز عن إكمال ما باشروه.
وأما تاريخهم الحديث فيكشف ضعفهم عن المواجهة وتهالكهم على طلب السلامة، ولو على حساب القيم والدين والأرض، فيظهرهم صغاراً، عاجزين، لا يستحقون أبناءهم، ناهيك بأوطانهم.
الهزيمة تعمي، والمهزوم كيس من المرارة والأحقاد وكراهية الذات.
الهزيمة ليل بلا نجوم ولا فجر. وهي ذريعة ممتازة لأصحاب النزعة الانتحارية كي يدمروا كل ما يذكرهم بقدراتهم حتى لا يتبقى لديهم ما يمكن أن يلاموا عليه.
والعرب يخبون اليوم في هذا الليل الذي كلما دنا صبحه ولو كاحتمال عادوا يمطونه بانكسارات جديدة لكي يدعوا من بعد أنهم عجزوا عن ابتداع مخرج منه.
العذر في »الآخر«، يستوي أن يتمثل في القوة غير المحدودة للعدو، أو في التخلي المطلق من طرف الأخ الشقيق. والعذر متبادل: فالمتخلى عنه ينقلب إلى متخل، والقوة غير المحدودة قد تصبح ذريعة للاستسلام.
والقراءة الانتقائية للتاريخ جاهزة لتوفير المبرر دائماً.
في هذه الأيام، تعلو أصوات النائحين وهم يندبون ثلاثة: انفصال سوريا عن مصر وانهيار أول دولة للوحدة العربية في التاريخ الحديث، والوفاة المبكرة والفجائية لجمال عبد الناصر، والنتائج الكارثية التي انتهت بها أول حرب بقرار عربي مع العدو الإسرائيلي في السادس من تشرين الأول 1973.
بين النائحين من كانوا ضد تلك الوحدة ودولتها وقد قاتلوها، ومن حضن أي عدو، بلا هوادة وشهروا بها حتى غدت كلمة »الوحدة« تهمة أو شبهة أو بيت سيىء السمعة لا يدخله إلا الساقطون والمستسلمون للدكتاتورية وقمعها المنهجي،
وبينهم من لطخوا صورة جمال عبد الناصر بالوحل، في حياته ثم بعد وفاته، وصوّروه طاغية سفاحاً معادياً للفكر والمفكرين، قاتلاً محترفاً لكل ما هو جميل أو أصيل، في الفن كما في الثقافة، وفي الطبيعة كما في الإبداع الإنساني!
قالوا عنه انه »فرعون« وانه »هتلر«، وانه »ستالين«، وانه »قراقوش«، وانه »إقليمي مصري يزور شعار الوحدة ليتحكّم بسوريا وسائر العرب«،
وقالوا إنه »كافر« لأنه ينادي بالاشتراكية،
وقال »الاشتراكيون« إنما هو عميل للامبريالية الأميركية،
وقالوا انه ضد تحرير فلسطين،
وقالوا إنه متواطئ مع الإسرائيليين تحت الرعاية الأميركية،
ثم قالوا إنه متهوّر، ذهب إلى الحرب بغير إعداد، فانتهت مغامرته بهزيمة ساحقة للأمة!
وبين النائحين اليوم من كان يفضل طلب الصلح والقبول بالشروط الإسرائيلية بدلاً من الذهاب إلى الحرب لتحرير الأرض في تشرين 1973.
… وحين استغل الإسرائيليون تجميد القوات المصرية عند ضفة القناة ونجحوا في الاختراق وإحداث »الثغرة« في الدفرسوار، هلّل النائحون اليوم لاحتمال أن تكون حرب أكتوبر تشرين آخر الحروب، يجيء بعدها الصلح رخياً ندياً، يحملهم إلى الحسن والجمال والمتعة الحلال على شواطئ يافا وحيفا وتل أبيب.
النواح لا يبني أوطاناً، بل يعجل في هدمها وتخريبها،
والهروب من الانتماء ليس مخرجاً من الهزيمة، بل هو توغل فيها ينتهي بالإنسان لأن يصبح غباراً أو هواماً تأخذه الريح من أقصى الأرض إلى أقصى الأرض فلا يستشعر ضيراً ولا يعترض و»يذوب« في أي مكان جديد كبقايا لم تجد من يدفنها.
لا تواجه نفسك ولا تواجه الآخرين فأين المفر؟!
لو أن العرب يحبون أنفسهم قليلاً!
لو أن العرب يحترمون أنفسهم قليلاً!
لو أن العرب يكرهون عدوهم بقدر ما يكرهون أنفسهم!
لو أن العرب يحترمون أنفسهم بقدر ما يحترمون عدوهم!
لو أن العرب يحبون الفرح وبهجة النصر والأطفال والأرض قليلاً!
لو أن النوَّاحين اليوم يكفّون عن اغتيال أحلامنا غداً..
موكب الحب حزيناً ..
مهلاً، إنه الخريف!
مهلاً، إنه زمن الشعر يتهادى موكبه البهي عبر البطاح والوهاد، السواحل والجبال، يرمي اللون والبهجة على الأرض والشجر، يزركش الغيم ويموسق الهواء، ويكشح القتامة عن وجوه النجوم ويعيد إلى القمر ضياءه المغيّب خلف ضباب الرطوبة،
لكأنه الموعد مع الفرح والحب والجمال: تستخرج الطبيعة من حناياها ألوان الطيف فتنثرها على الأمكنة والأوقات، ثم تضخ فيها من دمها فيتوهج تورّدها، وينادي العشاق: إليّ، إليّ، فأنا خيمتكم وخميلتكم وعندي محفظة السر، أخبئكم عن العصافير وألسنة السوء، لتحاولوا إكمال قصصكم المبتورة دائماً بالأصوات الخشنة للمدرسين الذين تخطاهم العشق أو تخطوه وما أشبعهم ولا أشبعوه.
الحب في الطرقات، يمشي متهادياً في مهرجان اللون، يزاوج الأخضر والموردي، الأصفر والبني، الأزرق والأرجواني،
يزاوج سمرة اليد المعروقة وعاج الخد المضرّج بحمرة الوجد،
يزاوج النظرة الوسنى وليل السهد المزروع بنجمات القلق،
يتطاير الخريف حفيفاً من حولك يدعوك لأن تمخر فيه مسافراً إلى الضفة الأخرى، بعيداً عن أثقال الحر ولزوجة العرق الصيفي، مستبقاً مطر العيون بارتشاف قطر الندى،
إذا مرَّ بك موكب الخريف فانخرط فيه، ولا تخشَ الضياع فهو يعرف العناوين جميعاً، وفيه ستلتقي مَن أضاعك أو أضعته في زمن الصهد والوقع الثقيل للوقت الذي تتعجّل انطفاءه وأنت تعرف أنك إنما تخسر من عمرك عمراً،
عنواني بين الأخضرين، على بُعد قبلة من الأرجوان، وبعد ضمتين من بنفسج الخدين، قبل الأزرق بهمسة، وبعد الأصفر المنطوي على رماده بغمزتين.
قصص مبتورة!
} هتفت به وقد اشتد بها الاضطراب: دع يدي! تكاد تأخذني منها!
ارتبك وحاول أن يسحب يد المصافحة فدهمه الإنذار الثاني: إن تركتني الآن سقطت على وجهي! اسندني حتى لا يصل الى الناس من أمرنا إلا ما أحبهم أن يعرفوه!
همهم بما يشبه الاعتذار فقالت متسامحة: لقد رأوا ما يملأ أخيلتهم ففرحت واكتفيت. أحب أن أدخل الآخرين »حبيبة« يتمناها كل لنفسه بينما أمسك أمنيتي بيدي!
} قالت من خلف زوجها: هنيئاً لك حريتك فلا تفرّط بها!
ورد عليها من أمام زوجها: قد تتساوى الحرية والفراغ والعبث..
قال الزوج بلهجة الحكيم مدارياً عنها الخديعة: .. وقد نموت امتلاء!
} لم تأتني أمس. لم تأتني اليوم. ما أطول المسافة إلى الغد. إنها بطول ذراعيك.
* * *
} أنت جبان! لم تلفظ كلمة »أحبك« مرة واحدة؟
وهل تلفظ »أحبك« أكثر من مرة. وهل بعد »أحبك« لفظ؟!
} حين أعطى اسمه جاء الصوت ندياً: ولو! أتحسب أن الأذن لا ترى!
قال وهو يصلح من هندامه: أنتظرك لأسمعك بعيوني!
تهويمات
} ضاق الزمان بالحب فخرج منه هائماً على وجه المكان!
ضاق المكان بالحب فاحتضن ذاته ونام في الزمان!
} الحب كثير الأسئلة التي تدور وتدور ثم تعود إليه باعتباره الجواب.
} قالت: لست أطلب أن تعطيني! فرحي أن تأخذ، فرحي أن أعطيك كلي..
قال: الفرح اثنان.. إن أخذت فقدت فرحي!
} قالت: صمتك يغريني بمزيد من الثرثرة. لماذا تتركني دائماً أتحدث عنك إليك؟! لماذا تجبرني أن أملأ بك وقتي وعقلي وجسدي…
قال: لعله التوحّد! لم تتحدثي إلا عن نفسك. ولست أشكو مثل هذا التوحّد!
} تقول المرأة للعاشقة: لو طلبت من حبيبي النجم لأتاني به..
وتقول العاشقة للمرأة: أما أنا فلا أطلب من النجم إلا أن يأتيني حبيبي،
تقول المرأة للعاشقة: يعطيني حبيبي فوق ما أطلب ويأخذ مني دون ما أريد أن أعطيه،
وتقول العاشقة للمرأة: أنا له وهو لي، والى الأرض الحساب،
} قالت لمرآتها: علينا أن نفترق، لم أعد أطيق الفضيحة التي أرى نفسي عليها فيك،
قالت المرآة: لو كان لي ذاكرة لاستخرجتك منها، لكن شرط وجودي ألا يكون لي ذاكرة..
قالت لمرآتها: ولكنني أهرب من ذاكرتي التي تستحضرينها ببلادتك وخلو مخك من الذاكرة،
قالت المرآة: ليست إلا قطعة من زجاج مطلي بالزئبق، فارحميني،
قالت لنفسها: ذهب الزئبق ولم يبق مني إلا الزجاج وموعد الانطحام.
ثم التفتت الى مرآتها بغضب: أيها الشاهد الأبكم، الأعمى، البلا حس، سأحرر نفسي منك الآن…
أدارت المرآة الى الحائط فسمعت حشرجة نحيب ثم أفاقت على دموعها وهي تكرج على خديها وتنساب عبر العنق لتطفئ لهيب الذاكرة.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
حبيبي أخذني إلى الشعر وتذوّق الألوان. قبله كنت أعتبر الشعراء مهووسين أو بلهاء. كنت أتوقف عند حدود النص ولا أتوغل داخل الصورة والمعنى. بعيني حبيبي قرأت الشعر ففهمته وانتعشت، وبعيني حبيبي فهمت اللون فارتويت.
الحب هو الجمال.
أشفق على المحرومين من الحب لأنهم لا يفهمون الشعر ولا يقرأون الألوان.