لبنان المهجَّر، المهجِّر، المهاجر، المهجور.. راجع يتعمّر!
هجر، يهجر، هجراناً فهو هاجر أو مهجور..
هاجر، يهاجر، فهو مهاجر أو مدفوع إلى الهجرة دفعاً،
هجَّر، يهجِّر تهجيراً فهو مهجَّر (أو مهجِّر)..
واللبنانيون الثلاثة في واحد: هاجر ومهاجر ومهجَّر.
ويمكن القول بصيغة عدائية: مهجور أو مهجِّر غيره.
نادر في الكون مَن يضيق بوطنه كل هذا الضيق، فيهجره لأي سبب، ويهاجر منه عند أول فرصة، دون أن يتعب في التحضير أو في التفسير أو في التبرير كأنما تركه القاعدة، أو كأنما وُلد فيه بالمصادفة وعليه من بعد أن يختار وطنه..
مع ذلك فهو في المهجر البعيد، يمضي الليالي يغني لوعته، ويدبك على إيقاع حنينه وأناشيده الكثيرة وأشهرها »بحبك يا لبنان يا وطني بحبك«، أو يشرب العرق لينسى واقعه فيستذكر »قطعة السما« التي استحال عليه السكن فيها (وهذا طبيعي)، ويختتم سكرة الحنين بالنشيد المستولد بعد الحرب وضمن خطة إعادة الإعمار، والذي يؤكد أنه (؟؟) »راجع، راجع يتعمّر، راجع لبنان، راجع يتحلى وأحسن أحسن ما كان«.
لبنان راجع، تلقائياً، يتعمّر.. أما هو فيكمل شرب العرق والغناء مطمئناً، ويتأمل جواز سفره الكندي أو الأميركي أو الأوسترالي الذي ناله بشيء من الرشوة أو شيء من التزوير وبكثير من الكذب المباح.. من أجل »تأمين الأولاد«.
ليس من لبناني إلا مهجَّر أو مهاجر أو مهجور.
اجلس الى كبير عائلتك واسأله عن أصلك وممَّن يتحدّر أجدادك الأولون، الآتون من الشرق عموماً أي من سوريا والعراق واليمن مع قلة من »بواقي« الصليبيين والمماليك والأتراك وسائر الأعراق التي كانت تضمها الأمبراطورية العثمانية، قبل أن يجيء بعض الوافدين الأوروبيين الذين استقروا فلتبننوا أيام المتصرفية وخلال عهد الانتداب ومن قبل أن تباشر جمهورية الطائف توسيع قاعدتها السكانية بالتجنيس المريح.
اللبناني إنسان قلق، لا يعرف الاستقرار ولا يحبه، وهو سريع التحول ومستعد لان يبرّر التحول بمعدل مرة في الساعة.
يهجر دينه أو يتحول عنه إلى دين آخر، مع أنه الى ما قبل ساعات كان مستعداً لأن يقتل مَن يسب له دينه..
يهجر هويته أو يهاجر منها إلى هوية أخرى بغير أن يتعب نفسه في إعداد التبرير أو تدبيج الفذلكة المقنعة بضرورة إسقاط الأرز عن تذكرة نفوسه!
ويهجر وطنه أو يهجَّر منه فيهاجر، أو يهاجر من دون تهجير إلى موطن جديد، فلا يشغل باله همّ الانتقال أو التأقلم مع البيئة الجديدة متمثلاً بقول المجنون: »ليلى اتركيني بلاد الله واسعة غداً أبدّل أحباباً وأوطانا«.
في الإحصاءات شبه الرسمية، أي تلك التي ترد على ألسنة مسؤولين كبار، فإن عدد اللبنانيين (الشعب العالمي) يتراقص على حافة الثلاثين مليوناً.
احسب عندك:
في البرازيل أكثر من سبعة ملايين (لبناني بالتحدر إن لم يكن بالولادة).
في الأرجنتين خمسة، وفي سائر أميركا اللاتينية مثل كولومبيا وبوليفيا وتشيلي والأكوادور ثلاثة إلى أربعة ملايين،
في أميركا الشمالية حوالى ثمانية ملايين، سبعة ونيف؟! منهم في الولايات المتحدة والباقي في كندا.. وصولاً إلى القطب المتجمد الشمالي.
في أوستراليا يصل الرقم في بعض حالات المبالغة الى ثلاثة ملايين مع أن الهجرة الى القارة الجديدة حديثة نسبياً،
في أفريقيا يمكن مط الرقم ليتجاوز المليون،
وبين سويسرا والسويد والدانمارك وألمانيا وسائر أقطار أوروبا الشمالية بضع مئات الألوف من المهجرين او المهجورين او المهاجرين المتنكرين تحت لافتة »اللجوء السياسي«.. ومعظمهم من لم يتعرف الى السياسة او الى السياسيين في كل عمره…
أما الهجرات »الداخلية« أي داخل الشرق العربي، وتحديداً السعودية وإمارات الخليج، فالرقم شبه الرسمي يتجاوز نصف المليون.
طبعاً يمكن أن يرتفع العدد مع كأس عرق زحلاوي إلى مئة مليون أو الى أكثر إذا ما أردنا تحقيق نظرية الأستاذ الكبير سعيد عقل حول لبننة العالم، (وقد لبنناه بمعنى معاكس، ارتد علينا إذ باتت اللبننة أقصى درجات الوحشية والضياع في الحرب الأهلية).
في لبنان ثلاثة ملايين وفي الخارج ثلاثون! إنها الوطنية مصفاة!
من أصل الثلاثين مليوناً لا تعرف إلا قلة، تعد بالآلاف، أرض الأجداد، ولا يعرف إلا قلة من الصامدين مثل ذلك »البيت الذي يحرسه الله في الجنوب«، عملة أولئك المهاجرين، المهجرين، المهجورين…
ومن أصل الملايين الثلاثة يكاد يكون الثلث من مهجري اليوم والثلث الثاني مهجراً قبل مائتي سنة أو يزيد والثلث الآخر مهجراً في زمن الاستقلال الأول (على يد فخر الدين المعني الكبير… برغم أنه كان قصيراً ومات خنقاً وبلا وريث)..
المهجَّر سابقاً صار مهجِّراً لاحقاً،
والمهجِّر سابقاً صار مهجَّراً الآن،
لا الأول أشفق على الثاني ولا الثاني رحم الأول،
مَن لم يهجِّر هاجر، ومَن لم يهجَّر هجره الذين لم يهاجروا، والذين لم يهاجروا تبادلوا التهجير…
يا هاجرني… وطن الهجران أنظر أتذكر مَن أنا!
وملف المهجرين سيبقى مفتوحاً حتى يعود آخر مهاجر إلى الوطن المهجور وسكانه (أو مَن تبقى منهم) فيه!
ومع ان »التهجير« مأساة وطنية، الا ان المهجّر اللبناني وإن فقد مسقط رأسه فهو قد احتفظ برأسه، وإن كان قد فقد بيته في قريته فإنه قد ربح ثلاثة أو أربعة جوازات سفر بحيث بات مواطنا عالميا فعليا، خصوصا ان جوازاته صادرة عن دول منثورة في قارات عدة،
وهكذا فهو يضيف الى تهجيره القسري تهجيرا إراديا يجعله ينتمي إلى.. لا مكان! عشتم وعاش لبنان!
مسلسل مفاجآت عنوانه سلام بدر الدين!
لا مجال لأن تدعي أنك قد فوجئت بصورة جديدة او بوجه جديد لسلام بدر الدين. ان سلام مفاجأة مفتوحة، تتجدد في كل لحظة وتجدد ذاتها بذاتها فتظل على وشك الاكتمال في انتظار المفاجأة التالية.
هي كذلك، لا تتقصد ان تقدم نفسها بما يغاير واقعها المفتوح على طموحات بغير حد، وايضا بغير ادعاء وبغير تقصد الاستقرار في صورة مصنوعة او مرسومة على الموضة او على الطلب!
ان لم تملأ المكان غادرها،
وان لم تملأ الناس غادرتهم،
كأنها امرأة بألف: حيثما التفت هناك نسخة منها تتابع ما بدأته، وهي قد بدأت كل شيء.. ومستمرة في كل شيء!
لم يشغلها الزواج والأسرة عن الاستمرار في طلب العلم مع مواصلة التعليم، ومع الانهماك في العمل السياسي، اما الوقت الأصلي فهو للأنشطة السياسية، ومن خلالها تطل على الصحافة.
لكأنها استنسخت من نفسها ما يملأ الأمكنة والأزمنة،
وحين ناءت طاولتي بأطروحتها »التطورات الاجتماعية الاقتصادية لحرب الخليج الثانية في العراق والكويت، من خلال الخطاب الصحافي اللبناني من 1/1/1991 ولغاية 30/4/1991«، شهقت للمفاجأة الجديدة التي ترفع سقف التوقعات الى مدى غير معلوم!
إنها رسالة أعدتها سلام بدر الدين لنيل »شهادة دبلوم الدراسات المعمقة في العلوم الاجتماعية علم الاجتماع الاقتصادي« وقد أشرف عليها الدكتور أحمد أمين بيضون.
بين العناوين الذكية او الخبيثة او البريئة:
} كيف وتحت أي عنوان وصل الخبر الاجتماعي والاقتصادي الى الشارع اللبناني، أي الى المتلقي من صحف تباينت في تمويلها وتوجهاتها واختلاف انتماءاتها؟
} هل كانت الثقة موجودة بين القارئ والصحافة في نقلها لخبر المجتمع واقتصاده في سياق حرب العراق الكويت؟!
} ما هو الدور الحالي الموجّه لتلك الأداة وهي الصحيفة في التأثير على تكوين قناعات الشارع اللبناني والعربي؟ وهل أفرز التنوع السياسي والصحافي اللبناني ما كان منتظرا منه عادة من تنوع المواقف؟ أم أن المواقف الوسيطة تقاربت فيه الى حد غياب التعبيرات القصوى المساندة لهذا الطرف أو ذاك؟!
هذه نماذج فقط من الاسئلة الصعبة التي قررت سلام بدر الدين أن تتصدى للإجابة عنها، على طريقتها في اقتحام حقول الألغام، وليس من السهل إصدار حكم قاطع حول مدى النجاح الذي حققته،
وأغلب الظن ان سلام بدر الدين قد أنجزت الشق التاريخي من هذا المبحث الدقيق والخطير في نتائجه، والذي شمل إشارات الى طريق الهند الانكليزي والى المسيرة النابوليونية الأمبراطورية، والى ألمانيا والشرق، واكتشاف النفط العربي، والباب المفتوح للأميركيين والخط الأحمر.. أنجزت هذا كله فيما هي تخوض معركتها الأطرف والأصعب لاقتحام المجلس البلدي في مدينة »يفترض« أنها محافظة كالنبطية.
وفي الحالين فان الجرأة تظل هي العنوان، وبالتالي فهي أهم من النتائج!
سلام بدر الدين: محكمة الصحافة… مفاجأة جديدة لا بد من الانتظار قليلاً لنرى المفاجآت المكملة لها!
قصص مبتورة!
} قالت له: أنت تكتب على هامشي بقلم لا حبر فيه.. وأنا أكتب بحبري ولا قلم على متنك روايات وقصصاً قصيرة كضحتك في لحظة التعارف.
ألا تريد أن تملأ قلمك؟!
} التفتت إلى هاتفها الخليوي بغضب وكأنها تراه عبره ويراها، أو كأنه في قلب الجهاز الصغير وقد وقع أسيراً في قبضتها ويمكنها الآن تعنيفه!
تمتمت بكلمات حادة النبرات، وبرغم النظارتين الشديدتي السواد فقد كان واضحاً أنها باتت على حافة البكاء!
طلقة »لا«، وطلقة أخرى خافتة ولكنها قاضية، ثم رمته (والخليوي) على المقعد المجاور، وبعد لحظة التفتت لتتأكد من أنها قد كسرت له ضلعاً أو أنه أصيب بجرح في وجهه.
نظرت في الفراغ الأسود أمامها ومسحت دمعة تسللت من تحت النظارة، ثم التفتت إلى سائق السيارة المجاورة فتشاغل عنها لكنه سمعها تقول: كلكم أنذال!!
وتبعها مشغوفاً بالدمع المتحدر من تحت النظارة السوداء، وبالشتيمة التي لم يفهم منها إلا الاستدراج… ثم أنه عطوف بطبعه على كل مصدومة في حبها!
} انتبه متأخراً إلى أنه قد استخدم للترحيب بها الاسم الخطأ.
احتقن وجهها بدم الغضب، لكنها لم تعلق. هزت رأسها صامتة، في حين أحرقته عيناها بنظراتهما الملتهبة.
كيف يمكن الاعتذار عن غياب الوعي؟!
قال: لطالما شغلتني عن نفسي، فنسيت حتى اسمي، وها أنت الآن تشغلينني أكثر فتنسينني اسمك!
قالت ضاحكة: حين تتذكر تعال..
} امتد السمر قمرين.
استحمت بالنور وتعرّشت متسلقة حبال الضوء حتى كادت تدانيه.
رأت في صفحته ملامحها رائقة كالطيف. غزلت من نعاسه جدائل.
رمت إليه باسمها فأضاعه، وعندما اكتملت هالة البدر ثغرت صائحة: أينك حبيبي؟!
ونزلت باحثة عن حرارة تحترق فيها وتحرق الأقمار الباردة!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
لكل مُحب لغته. كان جدي يشبِّه حبيبته ببقرته »صبحة« التي كانت مصدر دخله وغذائه اليومي. أما صديقه فكان ينادي حبيبته »يا قمحي« لأن القمح كان الأغلى في حياته..
أما أنا فلا أحتاج إلى مناداة حبيبي: إنه يسمعني من قبل أن أتلفظ باسمه، وأجيئه من قبل أن يناديني.
لا مسافة بيننا للصوت.