طلال سلمان

هوامش ## كتابة على جدران الصحافة (11)

الطموح إلى النيابة يلتهم رياض طه الصحافي.. ودار الكفاح العربي!
في اللقاء الأول مع رياض طه كان الفتى في صحبة شفيق الحوت، يستمع ولا يشارك في التفاوض للانتقال من «الحوادث» إلى مجلة «الأحد».
أما حين استرضى سليم اللوزي شفيق الحوت واستبقاه في «الحوادث» فقد وجد الفتى نفسه معلقاً في الهواء: تأبى عليه كرامته ان يتراجع عن مطلبه بتحسين مستوى دخله وقد بات الآن أصعب منالاً، فضلاً عن انه سيكون بعد اليوم موضع انتقام رب عمله و«شماتة» زملائه «العقلاء» إذا ما تناسى ما جرى وعاد صاغراً إلى مكتبه.. كذلك فإن كرامته تأبى عليه ان يبادر بالذهاب إلى رياض طه «عارضاً نفسه»، خصوصاً ان رب العمل الجديد المفترض هو ابن منطقته ذاتها (بعلبك ـ الهرمل) كما انه نجم سياسي فيها، وقد رشح نفسه للانتخابات النيابية مرة، ثم انسحب بناء على طلب «أصدقاء» له كبار في دمشق، وينوي ـ بالتأكيد ـ ان يرشح نفسه في الانتخابات القريبة (1960)، وسيصير الفتى «ناخباً»… بل ربما حوله العمل مع هذا الصحافي الذي ينظر إلى نفسه كقائد سياسي إلى «مفتاح انتخابي» بكل ما يشكله ذلك من مخاطر على مهنيته، فضلاً عن انه لا يقبل مثل هذا الدور ويعرف انه لن يتقنه حتى لو ارتضى القبول به كارهاً.
ولقد عرف المشرق العربي رياض طه من خلال مجلته «الأحد» التي شكلت، لفترة، منبراً للحركات الثورية العربية وداعية لسياسة جمال عبد الناصر، وهي قد تحولت ـ عملياً ـ إلى منشور حماسي، في مواجهة العدوان الثلاثي على مصر في خريف العام 1956، وكان لها جمهور عريض من القراء في سوريا والعراق وبعض أقطار الخليج العربي، لا سيما الكويت والبحرين وسلطنة عمان.
وبفضل المد القومي ورصيد «الأحد» فقد وجد رياض طه في دولة الوحدة من يساعده ـ جدياً وبشكل مباشر ـ على مغامرة تحويل المجلة إلى دار صحافية مؤثرة تصدر عنها جريدة يومية باسم «الكفاح العربي»، في بدايات العهد الشهابي الذي أنهى حكم كميل شمعون وأرسى أسس العلاقات المميزة بين الجمهورية العربية المتحدة بقيادة جمال عبد الناصر ودولة «النهج» بقيادة الرئيس اللواء فؤاد شهاب.
كذلك فقد اعتبر ان من حقه على هذا المد الشعبي العريض ان يدعمه كي يفوز بالنيابة، ومن بعدها الوزارة، وربما برئاسة المجلس النيابي التي سبق ان احتلها، ولفترة طويلة، ابن مدينته، الهرمل، صبري حماده.. وقد آن الأوان لكي يهزم شباب الثورة الإقطاع القديم!
ويبدو ان الحاجة كانت ضاغطة على صاحب «الأحد» فاتصل بالفتى مباشرة، طالباً ان يلتقيه في مكتبه في «الدار» التي باتت مؤسسة صحافية كبرى لها جريدتها «الكفاح» ومجلتها ومعها «وكالة أنباء الشرق» المحلية، وتملك مطابعها الخاصة في المبنى الملاصق لجريدة «الحياة» في الخندق الغميق، غير بعيد عن مكاتبها في شارع مار منصور المتفرع من طريق الشام ـ وفي الجهة الخلفية من مبنى اللعازارية المعروف.
دخل الفتى على «الأستاذ» الوسيم والمتميز ببياض بشرته وشعره الأشقر وعفويته ونبرته البعلبكية الواضحة، فاستقبله بترحاب أسقط عن كاهله بعض تهيبه وجعله يستعد لتفاوض افترضه صعباً.. لكن رياض طه سأله بشكل مباشر: أريدك معي. سوف تتسلم «الأحد» وأنا إلى جانبك، وهذه فرصة إضافية كي نهتم بمنطقتنا المنسية.
بهُت الفتى: هل بات على مثل هذه المكانة المهنية لكي يتسلم مجلة؟!
استطرد رياض طه فقال: مع الأسف لم ننجح مع شفيق الحوت. لكنني أعرف، وهو قد أكد لي، انك مؤهل لتقوم بمثل هذه المهمة.. معي. ثم انني سمعت من بعض زملائك ما يشهد لك.
قال الفتى بصوت خافت: ولكنها مسؤولية خطيرة.
قاطعه رياض طه: هي هينة عليك. انك تعرف أصول المهنة، وتميز بين المقالة والتحقيق الصحافي، وتهتم بالكاريكاتور والصورة، وقد أمضيت نحو سنتين على الطريق بين المطبعة والمكتب تنسق المادة وتصححها وتكتب كلام الصور كما قال لي شفيق الحوت.. ولا تحتاج معرفة الأصول، فتدريبك القاسي جعلك تختصر زمن التجربة، ولسوف تنجح.
سكت لحظة ونظر إلى الفتى في عينيه وأضاف قائلاً: سوف تتقاضى خمسمئة ليرة لبنانية في الشهر. كان عرضي في البداية أربعمئة ليرة، على اعتبار انك ستكون نائباً لشفيق الحوت، أما وانك سوف تتحمل المسؤولية فقد قررت ان أزيد مرتبك.
بوغت الفتى بالرقم كما بوغت بالمهمة… فتمتم بكلمات غير مفهومة افترض رياض طه أنها تعني الموافقة، وهكذا فقد استدعى بعض العاملين في الدار لإتمام التعارف بينهم وبينه، ثم رافقه إلى ما سوف يكون مكتبه ليباشر عمله على الفور.
[ [ [
افتقد الفتى في عمله الجديد أجواء النقاش التي كانت تتميز بها «الحوادث»، ولم ينجح في إقامة علاقة ود جدية مع «الزملاء» في «الكفاح العربي». أما في «الأحد» ذاتها فكان المحررون العاملون قلة، وبعضهم يوزع جهده بين المجلة والجريدة، وحده المخرج المصري الممتاز علي جمال الدين طاهر كان يشكل «الأسرة»… فقد كان يترجم ويعيد الصياغة ويختار الصور ويخرج الصفحات ويستدرك ما قصر في استكماله المحررون. أما في الظل فكان يقبع الشيوعي السابق الذي سيظل شيوعياً في اهتماماته الياس عبود.
ولسوف تنهض المجلة بعد ذلك على عمودين اثنين: علي والفتى… مع مساهمات محدودة من زملاء آخرين يوزعون نتاجهم بين «الأحد» و«الكفاح»، فضلاً عن الافتتاحية ـ الموقف، التي كثيراً ما اتسمت بلهجة خطابية، كان يكتبها رياض طه على صفحتين وربما ثلاث.
على ان الياس عبود كان يستمر في اهتمامه بشؤون الناس بمنطق التعاطف مع الكادحين. ربما من باب النكاية بالحزب الذي يرى انه يفرط بدوره في خدمة البروليتاريا.
ومع اقتراب موعد الانتخابات النيابية تحولت المؤسسة إلى مكتب انتخابي للمرشح، تعج بالوجهاء و«المفاتيح» وطالبي الوظائف أو المساعدات من «النجم الشعبي» ذي العلاقات الواسعة والنفوذ المؤكد.
«ناضل» الفتى طويلاً لاستنقاذ «الأحد» قائلاً لصاحبها: هذه مجلة أسبوعية وجمهورها الأساسي عربي عام وليس ـ بأكثريته ـ لبنانياً، وليس على وجه التحديد من ناخبي منطقة بعلبك ـ الهرمل… وبالتالي فهي لا تفيد انتخابياً إلا بحدود ضيقة جداً… وعندك «الكفاح» وهي يومية.
قاطعه رياض طه: كنت أحسبك متحمساً للمعركة، وانك ستقاتل معي.
قال الفتى بلهجة المغلوب على أمره: أتحدث عن حماية المجلة… فهي كانت قبل الانتخابات وستبقى بعدها، والمهم ألا تخسر جمهورها.
وجاءه الرد: كنت أتوقع ان تبلغني بعدد الناخبين الذين تحدثت إليهم وضمنت أصواتهم لنا، في بلدتك وبين أهلك والأقارب.
قال الفتى: سأساعد بقدر طاقتي، لأنني أرى فيك المرشح الأفضل، وليس لأنني أعمل في مؤسستك، ولكن…
وقاطعه رياض طه بشيء من العتب الغاضب: في أي حال يهمني أن أطمئنك أن الفوز مضمون وبأكثرية ساحقة،.. وحتى ضيعتك ستعطيني أصواتها نتيجة وعي أهلها، وليس بفضل جهودك!
[ [ [
لم يكن في المجلة من يمكن الثقة بكفاءته إلا علي جمال الدين… وكان طبيعياً ان تتوطد العلاقة بينه وبين الفتى، إذ كانا معظم الوقت معاً، يناقشان ما يجب تحضيره من «المادة»، سواء على شكل تحقيق أم ريبورتاج أم أحاديث مع السياسيين، وكذلك الموضوعات العربية التي يتوجب إعدادها بما تيسر من مصادر، إذ لم تكن وسائط المعلومات متاحة دائماً، ولم يكن أرشيف «الدار» غنياً بما يكفي.
كان الفتى يحاول «تصيّد» أي زائر عربي له دوره السياسي لإجراء مقابلة معه، في محاولة لإغناء المجلة فقيرة القدرات التحريرية… بل إنه كثيراً ما سعى إلى لقاء بعض الفنانين العرب المعروفين من مطربين وممثلين، خلال وجودهم في بيروت للغرض ذاته. وكان يحظى بتقدير رفيقه علي جمال الدين لإخلاصه لمهنته وحرصه على إغناء المجلة بالمادة الخاصة التي تميزها فتشد إليها جمهور قرائها.
ولقد وجد الفتى ملاذاً وسنداً في بعض أصدقاء رياض طه و«الأحد» من المساهمين في الكتابة فيها مثل الصحافي الكبير لويس الحاج والذي كان يخصها بمقال أسبوعي يوقعه باسم مستعار احتراماً لالتزامه بموقعه الممتاز في رئاسة تحرير جريدة «النهار»، ومثل الشاعر الكبير موسى الزين شراره الذي أنس إليه فصار يخصه بزيارة بعد كل لقاء مع رياض طه… ولقد سمع من هذين المبدعين نصائح مهنية ممتازة وتشجيعاً على المضي في المغامرة، برغم بؤس «الواقع» الانتخابي المهيمن على المؤسسة جميعاً، الجريدة والمجلة والعلاقة بالجمهور.
على أن أجمل اللحظات كانت تلك التي يمضيها مع الشاعر ابن بنت جبيل وهو يروي العديد من المنادمات والمساجلات أو الهجائيات الشعرية التي نظمها أو حفظها عن آخرين من أصدقائه ـ الأعداء وأبرزهم عبد الحسين العبدالله خاصة، وشعراء آخرون من جبل عامل كانوا يشكلون كوكبة من المبدعين الذين لم يتركوا فناً إلا وخاضوا فيه، وإن ظل ألطف شعرهم الغزليات، أما أقواه وأفخمه فقصائد المقاومة بأشكالها كافة من مقاومة الاحتلال الفرنسي إلى المشروع الإسرائيلي في فلسطين وانتهاء بمقاومة الإقطاع واحتكار النفوذ.. مع التنويه بأن أحد أبرز المعنيين بالهجاء، وهو أحمد الأسعد، كان يلتقي بعض هؤلاء الشعراء ويطلب إليهم أن يسمعوه ما قالوه فيه، فإن تمنعوا ـ حرجاً أو حياء ـ اندفع يتلو مطلع القصيدة فيضطرون إلى إكمالها وسط تهليل السامعين.
وبحسه المرهف أدرك موسى الزين شراره أزمة الفتى في محاولة الحفاظ على «الأحد» واستنقاذها من وحول المعركة الانتخابية. ولقد تمنى على رياض طه ان ينسى المجلة التي لن تفيده كثيراً في حربه المحلية، لكنها تساعد كثيراً في استنقاذ رصيده العربي إذا ما فشل في النيابة، وبهذا فإنها تحدد خسارته.
[ [ [
انتهت الانتخابات بفشل رياض طه في تحقيق أمنيته بالوصول إلى المجلس النيابي كدار عبور إلى الزعامة السياسية، مع ان آلاف الناخبين، لا سيما من جيل الشباب قد أعطوه أصواتهم. كانت المشكلة في «الوجهاء» و«زعماء العشائر» الذين رأوا فيه ما رآه صبري حماده من خطر على مكانتهم الاجتماعية، خصوصاً، انه نجح عبر الشبيبة الذين وجدوا فيه «مشروعاً مستقبلياً» في كسر هيبة الإقطاع، ولبوا نداءه لإلغاء الألقاب جميعاً «البيك» و«الزعيم» و«الشيخ» وصولاً إلى «السيد» الذي يتصل بالنسب، وليس بالوجاهة ذات المنبع السياسي.
ولقد وجد الفتى نفسه، بعد إعلان النتائج مباشرة، في مواجهة معضلة تستعصي على قدرته على اجتراح حل لها… إذ كتب رياض طه مقالاً يبرر فيه فشله في معركة الانتخابات باجتماع «الأعداء» و«الأصدقاء» عليه، وذلك عبر تلخيص متسرع لا يمكن قبوله بالعقل.
جاء في مقال رياض طه ما مفاده: ان الكتائبيين في بعلبك الهرمل قد صوتوا ضده، ما يعني ان فرنسا والفاتيكان وبعض الغرب قد شنّ عليه حرباً سافرة، وان القوميين السوريين لم يعطوه أصواتهم مما يعني ان بريطانيا قد نزلت إلى الساحة لمقاتلته، وان البعثيين والناصريين وسائر المحسوبين على التيار القومي قد حجبوا عنه تأييدهم ومسحوا بألسنتهم التعهدات التي كانوا قد وفروها له في مناسبات عدة، مما يعني ان الجمهورية المتحدة وقيادتها قد وقفتا ضده، وان الشيوعيين لم يصوتوا له مما يعني ان الاتحاد السوفياتي قد نزل إلى الميدان لقتاله، وان الوجهاء وفيهم رؤساء البلديات وزعماء العشائر قد خضعوا لضغوط المكتب الثاني أو المخابرات في سوريا (سابقاً) ودولة الوحدة حالياً، فحرموه من أصواتهم برغم تعهداتهم قبل المعركة.
ولقد وجد الفتى نفسه في موقع لا يحسد عليه: فهو لا يستطيع منع نشر المقال الذي يعتبره «فضيحة»، ولا يستطيع في الوقت نفسه أن يقبل منطقه.
على هذا قرر، بعد كثير من التردد، ان يدخل على رياض طه مناقشاً، في محاولة لثنيه عن خطأ نشر المقال الافتتاحي الذي رأى أنه يشكل إدانة لكاتبه.
قال الفتى لرب عمله: اعذرني على تطفلي، لكنني أرى ان هذا المقال ليس في مصلحتك كمرشح، ثم انه ضد مصالحك كصاحب جريدة ومجلة ووكالة أنباء، وصاحب سمعة نضالية ممتازة..
رد رياض طه: وكيف اكتشفت ذلك أيها العبقري؟!
ابتلع الفتى الإهانة، وعاد إلى الكلام بنبرة وضع فيها كل شجاعته: أنت تعلن في المقال أن القوى السياسية جميعاً، يمينها ويسارها والوسط لم تمنحك أصواتها.
قال رياض طه: وهذا واقع.. لقد خانني الجميع، وبعضهم قد طعنني في ظهري. كنت قد نلت وعوداً قاطعة من جهات نافذة بعدم التدخل… ولم أكن لأطلب منهم أكثر من الحياد..، لكنهم تدخلوا فأسقطوني!! هل تريدني ان أسكت على هذه الفضيحة؟!
سمع الفتى صوته يقول بشجاعة لم يألفها في نفسه ما مفاده: إذا كان كل هؤلاء قد اجتمعوا على حربك، الناصريون والمخابرات المصرية ومعها جماعة عبد الحميد السراج، الكتائب والشيوعيون، القوميون السوريون والمكتب الثاني، العشائر والوجاهات… فمن تبقى لكي يؤمن لك الفوز بالنيابة؟!
قال رياض طه بمرارة واضحة: أن يجتمع عليّ العالم فهذا لا يعني انني على خطأ. لقد وقف الناس البسطاء والطيبون معي، لكن الضغوط تعاظمت حتى انفضوا من حولي… ولسوف أكمل المعركة! هيا، ادفع المقال إلى النشر، لا ينقصني دروس في السياسة من فتى لم يختبر الحياة بعد ولم تختبره!
خرج الفتى مكسور الجناح فطالعته ابتسامة موسى الزين شرارة الذي أدرك بذكائه أن رياض طه لا بد قد أخطأ مع هذا «المهني» الحريص على كرامة عمله، فمشى معه إلى مكتبه وهو يقول: إهدأ. انه غاضب ومفجوع بصداقاته، وهو الآن لن يسمع صوت العقل، فتابع عملك واتركه ريثما يهدأ. انه جريح. لا يتعلق الأمر بالفشل بل بالكرامة. انه مثلوم الكرامة، وعلينا ان نساعده بأن نتحمله في غضبه. وبعد أيام سوف يهدأ، فينتبه إلى ان نهر الحياة يستمر في مجراه فيستعدّ للمعركة التالية بأفضل من حساباته. وعلينا ان نساعده على حصر خسائره في أضيق نطاق! انه يستحق ذلك.. ألا توافقني؟!
هز الفتى رأسه وعاد إلى مكتبه يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من.. المجلة!
من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب.
ـ يشعل الغياب الحب. يصير رنين الهاتف آهاً متصلة باللهفة، ويصير الصوت سريراً ممتداً عبر المسافة إلى آخر الدنيا، يتيح للعاشق أن يسرح مع خياله بأكثر مما يتيحه الواقع.
إذا كان الحب عالمك فالحبيب هو شمسه وهو صورته التي لا يطويها الغياب، بل يزيدها توهجاً بالشوق المصفى!

Exit mobile version