«ثورة 1958» يسّرت للمصحح القفز إلى… سكرتيرية التحرير!
مع ثورة 14 تموز 1958 في العراق صارت الدنيا غير الدنيا: اشتعلت الأرض العربية بالحماسة ونزلت الجماهير إلى الشوارع مهللة لهذا النصر الجديد والباهر، مفترضة ان دولة الوحدة سيتعاظم شأنها بانضمام «العراق الجديد» إليها.
كان الرئيس جمال عبد الناصر، في عرض البحر، عائداً من رحلة إلى الاتحاد السوفياتي، عبر يوغسلافيا، فقرر الرجوع إلى موسكو للتشاور في أمر حماية الثورة الوليدة.
وأصاب الذعر السلطة في لبنان ومن هم في صفها، ثم عاد إليها بعض الاطمئنان حين أبلغتها واشنطن انها بدلت موقفها من طلب الرئيس كميل شمعون نجدته، وان قوات المارينز تقترب من شواطئ بيروت… وكان واضحاً ان ثورة العراق قد غيرت في القرار الأميركي مما جعله يستذكر طلب شمعون فيقرر إيفاد قواته لحماية «دول صديقة اخرى» من تداعيات الثورة العراقية التي ستضيف المزيد من الزخم إلى دولة الوحدة. أعلنت حالة الطوارئ وفرضت الرقابة على الصحف، لكن هيبة السلطة كانت قد اندثرت… وظهرت تشكيلات مسلحة في بعض بيروت (المقاومة الشعبية) وتمرد معظم الجبل وغابت الدولة عن البقاع والشمال والجنوب، وتكفلت قوات الجيش ـ معززة بقرار سياسي ـ بحماية الرئيس شمعون وتأمين منطقة القنطاري لتظل الطريق سالكة وآمنة إلى القصر الجمهوري.
صارت «الحوادث» أكثر أهمية، خصوصاً أن الباب قد انفتح امام المعركة الرئاسية، وقد كان في حسبان مناصري شمعون انهم يمكن أن يكرروا التجربة الملعونة للرئيس بشارة الخوري بالتجديد «لزعيمهم» الذي افترضوا ان دولة الوحدة قد زادت من حظوظه بالبقاء رئيساً لولاية ثانية لضرورات تتصل بمصالح الغرب.
…وتحول مطعم فيصل المواجه للجامعة الأميركية في بيروت إلى منتدى سياسي من الدرجة الأولى، خصوصاً ان «زبائنه» خليط من الفلسطينيين والعراقيين والسوريين والأردنيين مع قلة من اللبنانيين… ثم انهم متعددو التوجهات والانتماءات السياسية، فيهم البعثي والقومي العربي والقومي السوري والمتغرب إضافة إلى بعض الأميركيين المستعربين.
وكان لـ«الحوادث» طاولة في فيصل يتصدرها «البيك» منح الصلح، وتشكيلة عربية من المحللين متعددي الانتماء السياسي، وينضمّ إليها غالباً شفيق الحوت ونبيل خوري وقد يخترقها كلوفيس مقصود… ونادراً ما «يُدعى» إليها الفتى، بدافع الحرج، ولوجوده عند التوجه من «المركز» في المجلة إلى «المقر» في مطعم فيصل.
كان اللواء فؤاد شهاب، آنذاك، قائداً للجيش، يحظى بشعبية واسعة كمرشح اول لرئاسة الجمهورية، خصوصاً وقد تعامل مع الأزمة التي تعصف بالبلاد بحكمة دلت على انه يتمتع بعقل سياسي ممتاز تحتاجه البلاد في هذه المرحلة الدقيقة.
لم يكن التلفزيون قد وصل إلى المنطقة العربية بعد، وظلت الإذاعة هي مصدر الخبر والتعليق. وكانت إذاعة لبنان في غاية الضعف وبالكاد تسمع، بينما الجمهور منقسم بين إذاعات القاهرة وصوت العرب ودمشق، وعلى الضفة الثانية الإذاعة البريطانية بالعربية، وكانت تبث من قبرص تحت اسم «محطة الشرق الأدنى».
وكان بين المصادفات القدرية ان معظم العاملين في القسم العربي من تلك الإذاعة كانوا من الفلسطينيين ومعهم بعض اللبنانيين وقلة من سائر الهويات العربية. ولقد اتخذت أكثرية هؤلاء قراراً تاريخياً بالاستقالة جماعياً من المحطة البريطانية، على اثر العدوان الإسرائيلي على مصر في خريف 1956، وجاء معظمهم إلى بيروت يحاولون ان ينشئوا فيها استديوهات للبرامج الإذاعية (المسرحيات التاريخية، والاسكتشات الكوميدية، وتسجيل مميز للأغاني صار مقصد الكثير من المطربين والمطربات).. ويمكن لغيري أن يؤرخ لدور هؤلاء في نهضة الفولكلور اللبناني على ايدي الرحابنة وزكي ناصيف ووديعة ومروان جرار، وكانت مهرجانات بعلبك أحد تجليات ذلك الدور.
قال نبيل خوري لشفيق الحوت: الخطوة الأولى بعد انتخاب الجنرال فؤاد شهاب رئيساً ان نجعل إذاعة لبنان من بيروت مسموعة ومرغوبة وذات نفس وطني… و«الشباب» الذين خرجوا من الشرق الأدنى جاهزون.
زكى الفكرة منح الصلح واتفق على التحضير للتنفيذ بسرية تامة.
[ [ [
÷÷ نتيجة للاحتياج، سمح شفيق الحوت للفتى الذي بات الآن زميله الوحيد، ان يكتب في السياسة، ولقد جرّب، وكان مستحيلاً ان يتحاشى «رقابة» البيك الذي داهمه قبل أن يسلم ما كتب إلى مديره، فقرأ وهز رأسه وهو يقول: برافو حبيبي، برافو… ثم حمل المقالة وذهب إلى شفيق الحوت يهنئه على قراره. وهكذا بات الفتى محرراً في السياسة، خصوصاً وقد بات متعذراً إنتاج التحقيقات إلا في ما ندر.
ولأن الفتى كان يقصد طرابلس كل أسبوع، لزيارة الأهل في بيتهم فيها، فقد تبرع بأن يحاول إجراء مقابلة مع القطب المعارض رشيد كرامي، ثم مع مسؤول حزب البعث الدكتور عبد المجيد الرافعي، مع محاولة لكتابة «تحقيق سياسي» عن «الشارع» في طرابلس وسائر الشمال.
وفي وقت لاحق استفاد من مصادفة من خارج التوقع جعلته يلتقي احمد الاسعد في مجلس صائب سلام، فجاء بمقابلة قصيرة. وقصد مرة إلى صبري حمادة في مزرعته بحزين، وهي غير بعيدة عن بلدته شمسطار، فعاد منه بدردشة… وفي طريق العودة دفع ما تبقى من ليرات معه ليصل إلى المختارة حيث مركز قيادة الثورة في الجبل، بأمل ان يلتقي كمال جنبلاط. ولقد التقاه فعلاً لدقائق، حاول خلالها تذكير الزعيم الكبير بالتلميذ الذي جاءه غير مرة، حاملاً مع زملائه مطالب المدرسة الرسمية في المختارة بعدما كان كميل شمعون قد نقل أساتذتها جميعاً، تأديباً لجنبلاط، شريكه الأبرز والأخطر في انتفاضة 1952 التي جعلت رئيس الجمهورية آنذاك، بشارة الخوري، يستقيل ويعتزل السياسة. ولقد تذكره جنبلاط، وسأله عن أحواله، ثم قال له: سأعطيك سبقاً مهماً. إن الرئيس جمال عبد الناصر ودولة الوحدة، التي تؤيدنا وتمدّنا بالسلاح، تعتبر ان وصول اللواء فؤاد شهاب إلى سدة الرئاسة ضمانة لها… وهذا يوحد المعارضة ويجعل المبادرة في يدها.
سعد شفيق الحوت بنجاح تلميذه الفتى، وكان «البيك» يشجعه بتهنئته على ما ينجز… وصار مستعداً لأن يطير إلى أي مكان ليحصل على حديث لسياسي بارز، او ليعود بتحقيقات سريعة عن «الأحوال» في بعض المناطق خارج العاصمة… كل هذا من دون ان يهمل واجبه في التصحيح وكتابة «شطحة»… خصوصاً أن النجاح كان يستدرّ مزيداً من إعجاب النقيب فؤاد ومن تقدير الآنسة هيفاء.
[ [ [
÷÷÷ حان الموعد الحاسم: انتخاب رئيس الجمهورية، في ظل ظروف غير التي كان يريدها كميل شمعون ويأمل في ان تيسر له أمر التجديد.
وبرغم التكتم فقد عرف شفيق الحوت ان «البيك» التقى الرئيس العتيد، فؤاد شهاب، أكثر من مرة بصحبة عمه تقي الدين الصلح، وقدّر ثم تأكد ان منح الصلح هو المكلف بكتابة «خطاب التنصيب».
كان «البيك» يلمّح ولا يصرّح… ثم مع اقتراب موعد الجلسة الحاسمة بدأ يردد جملاً ذات رنين موسيقي فضلاً عن دلالتها السياسية. ولم يكن صعباً على شفيق الحوت ان يستنتج انها مطلع الخطاب الرئاسي. ثم شاع الأمر بين الحواريين في مطعم فيصل، وكان طبيعياً ان يبلغ مسامع «عسس» فؤاد شهاب، فتقرر في آخر لحظة التبديل في صياغة «المطلع» وإن ظل المضمون واحداً: «من مبنى وزارة الدفاع حيث الصمت هو السيد إلى مجلسكم الكريم هذا، حيث السيادة للكلمة، جئت لأطلب مساعدتي ـ وقد شرفتموني فاخترتموني رئيساً للبلاد».
انتقل شمعون إلى المعارضة، معتمداً على «الشارع الآخر» بقيادة حزب الكتائب.
ومع تشكيل الحكومة الأولى للعهد الجديد، انفجر ذلك الشارع في حركة احتجاج اتخذت طابعاً طائفياً، فشلت الحكومة التي كانت برئاسة رشيد كرامي. وفي تبرير استبعاد صائب سلام، وهو قائد الثورة وزعيم بيروت، قيل إن الرئيس شهاب لا يحب «عنجهية» ابن دار الوجاهة في المصيطبة، وينزعج من دخان سيكاره.
[ [ [
÷÷÷÷ عاد سليم اللوزي من منفاه الاختياري سعيداً بالانتصار السياسي الذي تحقق لخطه في «الحوادث» وان كان مكلوم الفؤاد لفقده وحيده «ربيع».
ومع عودته استعادت أسرة الحوادث عناصرها «الهاربين» او «المحتجبين» لأسباب أمنية… ثم انضم إليها عنصر من خارج السرب هو احمد شومان.
بعد أيام استدعى سليم اللوزي «الفتى» الذي بات الآن أكثر ثقة بالنفس، خصوصاً مع جرعات التزكية التي كان يتلقاها من «البيك» اضافة إلى تشجيع شفيق الحوت الذي اكتشف فيه ـ وهو المبتدئ ـ عوناً في إنجاز المهمة.
دخل «الفتى» برأس مرفوعة الآن. كان شفيق الحوت يجلس مرتاحاً، بينما سليم اللوزي واقفاً وتغطي وجهه ابتسامة واسعة. قال: لقد تابعت نشاطك عن بعد، وحدثني شفيق عن الجهد المميز الذي بذلت، كذلك شهد لك «البيك» بأنك تتقدم بأسرع مما قدرنا. على هذا قررت…
صمت اللوزي للحظات رمق فيها الفتى شفيق الحوت فرآه يبتسم وهو يغمز له بعينيه، وبقي واقفا ينتظر ان يكمل سليم اللوزي كلامه، ولقد فعل، إذ قال بلهجة فيها قدر من الاعتزاز: هذه هي «الحوادث» تظل قوية وقادرة على التعبير عن نبض الشارع حتى لو بقي فيها محرر واحد.
قال شفيق الحوت: “كنا نعمل بكامل طاقاتنا، ونحن قلة، لتعويض غيابك، ولقد اجتهدنا أحياناً”.
قاطعه سليم اللوزي: بلا تواضع.. لقد اصدرتم أفضل مجلة بأقل جهاز تحرير، ومن حقكم، بعد التهنئة، ان تكافأوا بشكل ملموس.
صمت سليم اللوزي وهو يتأمل وقع كلامه على «جهاز تحرير الغيبة» ونظر كل من الرجلين إلى الآخر، ثم عادا ينظران إليه يستعجلانه أن يتم ما بدأه… قال بلهجة فيها نبرة فخر: المكافأة ان يصبح شفيق الحوت مديراً لتحرير «الحوادث» وأن تصبح أنت، ايها الفتى، سكرتيراً للتحرير… وهذه سابقة عليك ان تقدّرها، فأنت في القصر منذ البارحة العصر، كما يقولون.. اما شفيق الحوت فلم يكن عبثاً أن نستعيده من الكويت التي كان هرب مني إليها. لقد أثبت جدارة وكفاءة ترشحه لأن يكون من أهم رؤساء التحرير مستقبلاً.
أما «الترجمة العملية» لهذا التنويه فتمثلت برفع مرتب شفيق الحوت إلى خمسمئة ليرة ومرتب الفتى إلى مئتين وخمسين ليرة.
خرجا من المكتب مبتهجَين، لكن شفيق الحوت سرعان ما علق ضاحكاً: لو حوّل «النجوم» إلى ليرات لكان ذلك أفضل بكثير!
أما الفتى فقد كاد يطير فرحاً: سكرتير تحرير وهو في العشرين من العمر… أي حظ طيب! انه دعاء الوالدين بالتأكيد!
[ [ [
÷÷÷÷÷ بعد أيام سيقود شفيق الحوت ما يشبه «الهجوم» على الإذاعة اللبنانية: اصطحب مجموعة من الكفاءات الفلسطينية، أولئك الذين تركوا محطة الشرق الأدنى احتجاجاً على العدوان الثلاثي على مصر، سنة 1956، في سيارات عسكرية، فاقتحموا المقر المتواضع، اسفل السرايا الحكومية، ليتسلموا المسؤولية عن الإذاعة الرسمية. كان بينهم: عبد المجيد ابو لبن، ناهدة فضلي الدجاني، صبري ابو لغد، ومن خلفهم كامل قسطندي وسميرة عزام (كاحتياط استراتيجي)… وكان نبيل خوري يحضر نفسه لهجر منصبه في إذاعة صوت أميركا، ليكون ـ في ما بعد ـ مديراً للإذاعة الرسمية.
وصارت للبنان إذاعة خلال فترة قياسية: أعاد هؤلاء الإذاعيون المميزون صلاتهم مع من كانوا يتعاونون معهم في محطة الشرق الأدنى، فإذا محمد مرعي ينال الاعتراف به مطرباً شرعياً، وإذا الرحابنة ينالون حقهم ومعهم فيلمون وهبي والمطربة وداد وسامي الصيداوي، وإذا حليم الرومي يبني فرقة موسيقية محترمة… ثم إذا بالثنائي شامل ومرعي يقدمان اسكتشات طريفة، والأهم أن هذه المجموعة المميزة اهتمت بأن تنشئ ما يشبه مركز تدريب للممثلين والممثلات، والعديد منهم صاروا نجوماً في ما بعد.
وسيكون من حظ الفتى ان يشارك، إلى جانب شفيق الحوت ونبيل خوري، ومنح الصلح، أحياناً، في اجتماعات لمناقشة خطة الإذاعة الجديدة، وأن يسمع مقترحات وأفكاراً مضيئة، وان يباشر التعرف إلى هذا «العالم» الذي لم يكن معروفاً بما يكفي من الإعلاميين اللبنانيين. استمع إلى أحاديث عن دور الثقافة في الإعلام، وعن الفرق بين الإخبار والإبلاغ، وبين الأخبار والتعليق، عن الاختصار والإيجاز الذي يؤكد المعنى مسقطاً التطويل المملّ…
واستمع إلى من يقرأ الشعر فيطرب، وإلى من يجسد شخصيات عدة عبر تموجات الصوت، او عبر الإفادة من المؤثرات الصوتية او من حسن استخدام الفواصل الموسيقية.
قال له عبد المجيد ابو لبن: الإذاعة صحافة أيضاً، لكن الكلمة هنا قد تفعل وهي على شكل همس أكثر مما تفعل إذا اتخذت شكلاً خطابياً. القاعدة هي هي: أن تبلغ الناس ما قد عرفت من مصادر عدة، لكن الأسلوب يلعب دوراً مهماً، ثم ان الصوت لا يقل تأثيراً عن العين، المهم كيف وبأي نبرة تقول.
وسيكون لهذه التوجيهات أثرها في الفتى في المستقبل، إذ سيطلب إليه بعد شهور ان يكتب نصاً لبرنامج صباحي ستذيعه ذات الصوت الإذاعي المميز ناهدة فضلي الدجاني، وسيكون عنوانه «مع الصباح».
[ [ [
IIـ من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ قد تعيش ألف قصة حب، بعضها تبدأ ثم لا تجد أفقاً للحياة فتذوي وتنطفئ تاركة ندوباً خفيفة، وبعض آخر قد يتدفق نحوها غزيراً ويفيض طوفانه فيجرفك بعيداً عن المنبع…
حبّ أوحد يسري بهدوء كتيار كهربائي يغزل عمرك فإذا أنت، محباً ومحبوباً، عنوان للحياة.