عن دار الخالدين في »أهرام« هيكل والكبَر بالكبار..
من زمان كان يلح عليَّ السؤال ثم لا أجد الفرصة لكي أطرحه على محمد حسنين هيكل: كيف استطاع أن يجمع في »أهرامه« كل ذلك الحشد من المبدعين وكبار الكتّاب، أمثال توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ولويس عوض والحسين فوزي وصلاح عبد الصبور، وكلهم مختلف مع الآخر، والكل مختلف مع النهج العام »لأهرام« الستينيات التي كانت المعبِّر الفعلي عن أفكار جمال عبد الناصر والجهد الناجح لقراراته، والمدافع المتميّز فكرياً وسياسياً عن طروحاته الجريئة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي.
أمس الأول، جاء الكاتب العربي الكبير في زيارة جديدة ل»السفير« هي الثالثة منذ إصدارها، وهي الثالثة له إلى بيروت في الخمس وعشرين سنة الماضية.
وواتتنا الفرصة لطرح السؤال، فكانت »إجازة« لهيكل من حديث السياسة ومشكلاتها الثقيلة، ولاستعادة بعض الحميم من الذكريات عند هذا الرجل الذي يبدو وكأنه قد وُلد ليعمل، ليعرف، ليكتب، لينتج، ليقاتل بلا هوادة من أجل ما يؤمن به؛ ليحاور فيؤثر على مواقع القرار، متقمصاً في الغالب شخصية الناقد أكثر منه الشارح أو المبرّر.
يعرف كل مَن كان يتردد على »الأهرام« في عصر هيكل أن العاملين فيها كما الزوار كانوا يطلقون على الطابق السادس من مبناها تسمية »دار الحكمة« أو »دور الخالدين«، إذ كان يتجاور في الغرف الأنيقة من ذلك »الدور« حشد من ألمع الأسماء في تاريخ الأدب العربي مسرحاً ورواية وشعراً وأدب رحلات.
وكنا، نحن »المشارقة« أو »الشوام« نقصد أولئك الاعلام لنتعلّم منهم، فإن تطرقنا معهم إلى السياسة اختلفنا أشد الاختلاف، وخرجوا عن تحفظهم فألمحوا إلى أنهم يعارضون جمال عبد الناصر ويعترضون على اندفاعه العربي، مفترضين أن »التورّط في الخلافات والمشكلات ومستنقعات التخلّف العربي، كل ذلك لن يعود على مصر إلا بالضرر والإفقار وإشغالها عن خططها للتقدم واللحاق بالعصر لاستعادة موقعها الطبيعي على يمين فرنسا أو على يسار بريطانيا أو بملاصقة الولايات المتحدة الأميركية.
كنا نتألم حين تقودنا المناقشات إلى الاستخلاص أن نجيب محفوظ »مصري جداً« لا يعرف العرب ولا يرى لنفسه صلة بهم إلا من خلال العواطف وبعض الروابط الدينية والثقافية العامة،
.. وان الحسين فوزي، وهو أبرز من كتب في أدب الرحلات، هو »متوسطي« لا يكاد يعترف بأية رابطة لمصر مع وطنها أو محيطها العربي،
.. وأن توفيق الحكيم، على حذره الذي يقود إلى شيء من الباطنية، يقفز من مصر إلى أوروبا مباشرة، فإذا ما التفت إلى العرب فليس إلا بصفتهم »دول جوار« لمصر،
.. وأن لويس عوض شديد الاعتداد بمصريته، وأنه »فرعوني« النظرة إلى »المحيط«، فهو يقول بضرورة توثيق العلاقة بالمشرق العربي، ليس لأسباب قومية وإنما لعوامل وطنية أو أمبراطورية مصرية، إذ أن الدفاع عن مصر يبدأ من جبال طوروس.
وأذكر أنه أطلق، ذات يوم، مقولة خطيرة ما يزال مجرد صدورها عن مثقف كبير في مثل مستواه »العالمي« يقلقني ويهز يقيني بدور المثقفين أو بجدارتهم في أن يتولوا المساهمة في إعادة صياغة المستقبل العربي.
فمرة وخلال نقاش حاد حول دور مصر ومسؤولياتها العربية وجدارة جمال عبد الناصر بقيادتها، سألني لويس عوض محتداً:
هل تعرف لماذا هرب ضباط الجيش المصري في حرب حزيران 1967 ولم يهرب ضباط الجيش المصري خلال حرب 1948؟!
قبل أن أستوعب »السؤال« أضاف لويس عوض بنبرة أرستقراطية مستفزة:
لأن، ولا مؤاخذة، ضباط 1948 كانوا من أولاد الباشاوات، أما ضباط 1967 فهم من أولاد البوابين.. وأبناء الباشوات سيخجلون ولن يستطيعوا مواجهة مَن يسألهم خلال »جريهم«: لماذا تهربون وبأي وجه ستقابلون أهلكم… أما أبناء البوابين فممَّن سيخجلون؟! من أبناء البوابين والشحاذين أمثالهم؟!
المهم أننا خلال زيارة هيكل فتحنا الباب لذاكرته عن هؤلاء، وكيف استطاع إستدراجهم إلى »الأهرام«، وكيف نجح في إنشاء علاقة ود واحترام معهم برغم الاختلاف السياسي.
ومفهوم أن هيكل كان صاحب القرار، وأنه كان يملك أن يوفر لهؤلاء »الكبار« الراحة المادية، إضافة إلى تعزيز القيمة المعنوية، وتأمين أقصى درجات الرواج لانتاجهم من خلال »الأهرام« التي كان توزيعها في أيام الجمعة، قبل ثلاثين سنة أو يزيد، يصل إلى مليون نسخة، داخل مصر وفي مختلف أرجاء الوطن العربي، الذي كان برغم كل شيء مفتوحاً بمعظم أقطاره للكلمة وللرأي ولو مختلفاً عن رأي الحاكم.
في اللقاء مع أسرة »السفير« استعاد هيكل بعض الأطرف من الذكريات عن هؤلاء الكبار، ولا سيما عن توفيق الحكيم الذي كانت تربطه به علاقة صداقة سابقة على توليه رئاسة تحرير »الأهرام« إذ كان قد التقاه من قبل ولسنوات طويلة في »أخبار اليوم«.
وكان طبيعياً أن تتركز النوادر حول نجل توفيق الحكيم، وهو نجل موصوف، ينافس به كل ما يروى عن »أشعب«، ويرشِّح صاحب »يوميات نائب في الأرياف« و»أهل الكهف« و»يا طالع الشجرة« لأن ينضم إلى تلك الشخصيات التي خلّدها الجاحظ العظيم.
على أن أهم ما قاله هيكل في هذا المجال: إن الأدباء الكبار والمبدعين الكبار عموماً كانوا بحاجة دائماً إلى رعاية، ولولا رعاية الملوك والأمراء عبر التاريخ لمن استقرت أسماؤهم كمبدعين في الذاكرة الإنسانية لما تمكنوا من الإنتاج، ولما حفظ إنتاجهم، وأنه شخصياً قد حاول فنجح في إحلال »المؤسسة« وهي هنا »الأهرام« محل الأمير أو الملك.
لقد رحل الآن معظم أولئك الكبار،
وترك هيكل »الأهرام«، أو هو أجبر على تركها، فظل كبيراً، بل لعله صار أكبر.
وأغلقت، بالتالي، »دار الحكمة« فيها، أو »دار الخالدين«،
ومع أن »الأهرام« كمؤسسة باتت أعظم دخلاً من الاعلانات كما من أرباح المطابع مما كانت عليه (ربما) في أيام هيكل، إلا أن الوهج قد انحسر ملتصقاً بصاحبه الذي كانت له القدرة على الاستقطاب والإقناع، والأهم: القدرة على أن يزداد كبراً بالكبار، بينما العديد غيره يخاف من الكبار فيبعدهم بوهم أن ذلك يبقيه وحده كبيراً!
العشق من الخلف..
لطالما لمحته عند ناحية الشارع، يقف مستندا الى الجدار وقد ثنى جذعه وأخفى عينيه تحت نظارتين شمسيتين، حتى في عز الشتاء، ويديه في جيبه حتى في عز الصيف، يتابع السابلة ببصرة فإن لمح بين »العابرات« من تستحق خفض النظارتين قليلا ورماها بنظرة فاحصة قبل أن يقرر اللحاق بها أو يقلب شفتيه متبرما وقد يبص للتعبير عن ضيقه بتردي مستوى الجمال في بلاده.
بمر الأيام ألف وجهي وألفت رؤيته وحركاته، حتى صرت أستطيع التخمين سلفاً ما إذا كان سيتحرك ليمشي خلف الجميلة العابرة، أم أنه سيكتفي بإطلاق شتيمة من بين أسنانه للسائقين الذين لا يحترمون حق الراجلين في التحرك بحرية بين رصيف وآخر.
ذات يوم فوجئت به يمشي الى جانبي. قال مباشرة: سأرافقك. أنست إليك، ويعجبني انضباطك، فأنت تمر بي يوميا في الساعة عينها، وأحيانا ألمح في نظرتك نحوي شيئا من العطف.
غمغمت بما يشبه التحية، وقبل أن أتعثر بالجملة الثانية كان قد عاد يستلم زمام الحديث، قال: هوايتي تأمل الناس، أشكالهم، حركاتهم، تعبيرات وجوههم وهم يثرثرون فتلهث كلماتهم خلفهم وقد يضيع معناها قبل أن تبلغ آذان رفاق الطريق.
قلت بسرعة: قد يكون الآخرون مصدر متعة طالما ظلوا عابرين..
قال كمن يحدث نفسه: لا أطيق منظر الرجال، بل انني أكاد لا أراهم. في أي حال لا تعنيني الوجوه كثيرا، وان شئت الحق فإن »الأقفية« هي التي تلفتني، ثم السيقان..
ندت عني الكلمة بشيء من الاستهجان: الأقفية؟!
قال كمن يباشر حديثا طويلا: سأسليك في مشوارك.. نعم الأقفية، ليس أمتع من القفا، يا صاحبي، بالطبع النساء هن موضوع الحديث، أما الرجال فكثير منهم أقفيتهم أفضل من وجوههم التي لا تستوقفني أبدا.
التفت إليَّ فلحظ الدهشة تحتل عيني ومساحة وجهي، فاطمأن الى انه عثر على مستمع جيد، وهكذا أضاف بثقة: جرّب مرة هذه المتعة. ان المرأة قد تجمّل نفسها فتخدعك بوجهها المثقل بمستحضرات التجميل وعينيها المزورتين لونا وحجما وحواجب ورموشا والشعر الذي قد يكون مستعارا أو مصبوغا أو مجملاً بتسريحة مكلفة،.. أما القفا فهو هو، لا صنعة فيه ولا تزوير لطبيعته، حتى لو ضغط »المشد« فلن يبدل لا في حجمه ولا في موقعه من التشكيل العام للجسد.
لاحظ أنني أخفف من سرعيت فتأكد انني أصغي إليه بانتباه، فارتاحت أساريره وعبر عن سعادته مباشرة: كنتف أعرف انني سأجد فيك صديقا طيبا، ولذا لن أخفي عنك خلاصة تجربتي الغنية… خذ عندك يا سيد، هناك القفا الرجراج، وهناك المفلطح، هناك التلة وهناك الجبل وهناك ما يشبه سنام الجمل. ثم هناك القفا الممسوح، وهنا »المعظِّم« أي الذي لا لحم فيه. من تحمل مثل هذا القفا تستفزين. أحس أنها قد اعتدت ولو عن غير قصد على ذوقي وعلى النساء اللواتي هن »النعمة« و»الفتنة تمشي على قدمين«. وحدهن تينك النساء المتناسقات الأجساد هن من يلفتتني. وبالإجمال فجميلة القفا جميلة الوجه، ولكن العكس ليس صحيحا دائما. أنظر مثلا الى هذه التي تتقدمنا.. ألا تلاحظ التناسق في الشكل والتناغم في الحركة بين ارتجاج القفا وحركة الساقين وتهدل الشعر وتلك اللفتات المواربة التي ترميها أمامها ومن حولها وعلى الجانبين ومن خلفها أحيانا، ولو بسرعة تكاد لا تلحظ. أراهن أنها قد تأملتنا بهدوء وان وجودنا وراءها قد أسعدها، وأنها تتقصد الآن أن تثبت لنا، بظهرها، كم هي جميلة ومرغوبة وجذابة… انها، في النهاية، أنثى! اسألني أنا عن الأنثى!
حاولت التثبت من صحة استنتاجه فضبطت نفسي أمد عنقي وبصري إلى الأمام علني ألمح وجهها، ولكنه فاجأني بهمسة حانقة: ولو يا أخ، علمناك الشحاذة سبقتنا الى الأبواب، هذه طريدتي. هذا صيدي وليس صيدك.. وطالما انك مهتم بالوجه فلماذا تسير معي وتستمع الى فلسفتي التي صغتها بتجربة العمر؟! ليس هذا من حقك، وان كنت من عشاق الوجوه فاسبقني أو سر في الاتجاه المعاكس فتكحل عينيك بالطلق البهية لكل النساء اللواتي تجاوزناهن في مسيرتنا هذه،
صعقت لحدته فتوقفت عن المشي لأجبره على الاستماع إليَّ، لكنه صفعني بكلماته الأخيرة وهو مستمر في التحرك خلفها، قال: لم تكن تستحق صحبتي، وفي أي حال فقد وفرت لي الخدمة التي أطلب، فأنا منذ أيام الحق بذات القفا الجميل هذه، وقد غمزت صنارتي.. كنت أبحث عن ذريعة لألحق بها اليوم بغير ان ألفت نظر قريب لها يسكن في هذا الشارع، وقد أفدتني كذريعة، واجتزنا منطقة الخطر فعد الى الوجوه الملطخة بالبويا واتركني لغرام العمر.
وقفت مشدوها بينما مضى صاحبي في مشيته محاولا تحقيق الانسجام بين خطواته وبين ارتجاجات القفا الذي يجذبه كالمغناطيس.
في الغد، وحين مررت به أشاح بوجهه عني وهو يسعل، وسمعته وأنا أتجاوزه يقول كمن يحدث نفسه: ناس بلا همة، يريدون أن تجيئهم المتعة بلا تعب..
وكنت قد غدوت على بُعد أمتار حين سمعته يغني بصوته النشاز: القفا هواي، يا قفا السعد، يا قفا الهنا.. وراك وراك والزمن طويل، ياجميل..
تهويمات
} تقول المرأة للعاشقة: لو طلبت من حبيبي النجم لأتاني به..
وتقول العاشقة للمرأة: أما أنا فلا أطلب من النجم إلا أن يأتيني حبيبي،
تقول المرأة للعاشقة: يعطيني حبيبي فوق ما أطلب ويأخذ مني دون ما أريد أن أعطيه،
وتقول العاشقة للمرأة: أنا له وهو لي، والى الأرض الحساب،
} قالت وهي تغمز بعينها: أما زلت تفكر فيها؟
دارى حرجه باستفسار لم تقبله فمضت تستفزه أكثر: وهل نسيت اسمها أيضا؟! اما أنا فأذكر تفاصيل التفاصيل عن رحلة العمر تلك.
حاول الخروج من دائرة الحصار فامتدح تسريحتها وثوبها فلوت عنقها ومطت شفتيه وكأنها تقول: إلعب غيرها! أما حين تغزل بعينيها فقد التفتت إليه، ثم أشهدت عليه الحضور وهي تردد: أعرف انك تريد تغيير الموضوع، لكن حيلتك ناجحة، فلم تخلق أنثى لا يغرها الثناء… سأنساها الآن، لتبق في غيابها طالما انه يؤكد حضوري.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
لا تنقلب العيوب في الحب إلى حسنات، لكن الحب يملك قدرة هائلة على تغييرك إلى الأفضل. فأنت إن أحببت اجتهدت في أن تظهر أجمل ما فيك، وجاهدت نفسك لتمنعها من التورّط في ما يسيء إلى صورتك في عيني حبيبك.
ثم استدرك فأضاف بلهجة الحكيم:
أتعرف، لو أن الطغاة الذين يحفظ التاريخ أسماءهم في صفحاته السوداء قد أحبوا فعلاً لما كانوا ارتكبوا من الجرائم والأغلاط ما ارتكبوه.
إن النقص في الحب يشوّه النفس والإنسانية، أما انعدامه فلا يدمر المعني فقط بل قد يجرّ إلى كوارث كونية.