عن المغتربين في وطنهم والمواطنين في مغترباتهم..
في مدينة ديترويت، بولاية ميتشغان الأميركية، وخلال احتفال الجالية اللبنانية بعيد الاستقلال، سألني مواطن حديث الاغتراب: بشّرنا… هل بات بإمكاننا الآن وبعد انتخاب إميل لحود رئيساً، أن نعود، ولو بعد حين… هل بات يتسع لنا الوطن؟ لم يكن لنا مكان فيه حتى اليوم، فهل يمكن اعتباره حاضنة مستقبلنا؟!
في الليل تلقيت اتصالاً هاتفياً من وندزر التي تقع على الضفة الأخرى من النهر، وصُعقت حين سمعت الاسم، فلم أكن أتوقع أبداً أن أجد قريبي هذا هنا. قال موضحاً ومعتذراً: لقد اتخذتُ قراري بسرعة. حاولت كثيراً. جمعت إلى وظيفتي الحكومية مجموعة من الأنشطة، لبعضها الطابع التجاري، ولبعضها الآخر طابع المغامرات، أو قُل محاولات التشاطر على الطريقة اللبنانية، لكنها جميعاً لم تنفع في تأمين النفقات اللازمة لحياتي. لم يكن أمامي حلّ غير الهجرة. لقد بلغ أولادي سن الدخول إلى الجامعة، ولست أملك برغم كل محاولاتي ما يكفي لتعليمهم. هنا على الأقل أوفر لأولادي فرصة أن يربحوا مستقبلهم بعد أن ضاع منا الحاضر في بلد الإشعاع، وها هو الحاضر يتجمّد في الصقيع الكندي هنا.
وحين أعطى السماعة لزوجته، كان عليّ أن أنتظر لحظات لكي تتمالك نفسها فيتوقف النشيج، وتستطيع أن تقول لي بصوتها الباكي:
الوطن غالٍ، ويمكنك أن تحمله في قلبك.. أما مستقبل الأبناء فتقرره الدولارات. هنا على الأقل يمكنهم أن يكملوا تعليمهم على حساب الدولة الكندية.. سلِّم لي على الوطن.
وأقفلت السماعة على شهيقها وأنا أتساءل: في البلاد الرأسمالية ككندا والولايات المتحدة تتكفل الدولة بالتعليم في مراحله كافة، فماذا يمكن أن يسمى نظامنا في لبنان، وفي العديد من الأقطار العربية؛ هذا الذي يخرّب الجامعة الوطنية ويُضعف المدرسة الرسمية ويساهم في تمويل التعليم الخاص، وهو أجنبي أو طائفي أو مذهبي أو دون المستوى، مع استثناءات معروفة لا مبرّر لتحديدها.
في اليوم التالي دُعينا إلى سهرة غنائية احتفالية، سرعان ما انقلبت إلى حفلة راقصة على أنغام الطبل والزمر والأورغ الذي بات الموسيقار العربي الأعظم.
احتشد الراقصون والراقصات في الحلبة حتى ضاقت بهم فتحاضنوا.
قال صديق معي: هؤلاء من الاخوان العراقيين، كلدان العراق..
شرح صديق آخر: هجرتهم قديمة مثل اللبنانيين، لكن السنوات الأخيرة شهدت زحفاً هائلاً، حتى لقد بات يمكن القول إنه لم يتبق من الكلدان في العراق إلا عائلات معدودة.
أضاف صديق ثالث: ومؤخراً انضم إلى هؤلاء، الأسرى العراقيون في غزوة صدام للكويت ممّن كانوا في معتقلات أميركية في حفر الباطن بالسعودية. وكلٌ يعامَل بحسب انتمائه الطائفي أو العرقي، فالسني غير الشيعي، والكلداني غير الكردي، والعراق لم يعد إلا طيفاً أو حلماً… لعلهم لم يعودوا يتلاقون إلا في مثل هذا المكان، مع الكاس والطاس وسقوط الراس في حلبة الرقص على نغم هجين! ربما كاظم الساهر يوحّدهم، ربما سعدون الجابر، ربما الحنين، لكن الهوية تمزقت، إذ بات واحدهم يقدّم نفسه بطائفته أو بعرقه أولاً.
* * *
في طريق العودة، التقينا من حول مائدة غداء في واشنطن: بعض السفراء العرب، وبعض الوجوه ممن بات يسمى الآن »العرب الأميركيون«، وبعض المراسلين الصحافيين العرب العاملين هناك.
تداخلت الموضوعات… فقد كانت آخر أزمة افتعلها النظام العراقي مع فريق المفتشين الدوليين، والتي استثمرتها الإدارة الأميركية في الإعداد »لمسح العراق عن الخريطة«، كما هدّد بعض أركانها، تطغى وإن هي لم تخف تماماً الآثار المترتبة على »اتفاق واي«؛ آخر منجزات السلطة الفلسطينية في سياق اتفاقاتها المنفردة التي تسرّع في تصفية فلسطين كقضية وفي طمس أو إلغاء أو تمزيق وحدة شعبها وفصم عرى علاقته بأرضه، عدا عن إسقاط حقه في العودة إليها من الشتات.
لم يكن بالإمكان الفصل بين الهموم ولا بين المخاطر التي لم تعد مجرد تحديات.
وطغت على الحديث نبرة استسلام غير مألوفة، بل هي لم تكن إلى ما قبل سنوات قليلة مقبولة ولو كوجهة نظر، والأهم أن »اللغة« لم تكن واحدة وإن ظل شيء من الرابط العاطفي يظلل مناخ الكلام.
فلقد سُحبت من التداول، نهائياً، تعبيرات سياسية وذات دلالات محددة مثل الوطن العربي، المصير العربي، بل وحتى الخليج العربي، أُسقطت عنه عروبته فبات مجرد »مكان«، تعبير جغرافي، المشرق العربي، الجامعة العربية، القمة العربية، التضامن العربي.
بل ان الخليج صار أمكنة: فالسعودية غير الكويت، وقطر غير البحرين، وعُمان غير الإمارات، بل ربما دبي غير أبي ظبي، واليمن خارج البحث.
أما العراق فصار أعراقاً: الأكراد غير العرب، والسنة من العرب غير الشيعة، ولمن يداري عاره فإن التعابير الجغرافية ملجأه، إذ يحدثك عن الشمال والجنوب والوسط.
وأما فلسطين فهناك الطامة الكبرى: ذلك أن الأرض المحدودة والمبرزخة التي أُعطيت للسلطة ليست وحدة »جغرافية«، بل هي جزر متناثرة فوق المساحة التي اقتطعت إسرائيل منها ما يزيد على 60 في المئة من أرض الضفة الغربية التي صارت ضفافاً ولا نهر، وصارت مدناً وقرى معزولة واحدتها عن الأخرى ولا دولة.
أما »شعوب« فلسطين فصارت عديدة، سواء داخل أرضها أو في ديار الشتات الكثيرة: فالفلسطيني داخل الكيان الإسرائيلي ليس فلسطينياً تماماً، وابن غزة غير ابن رفح وابن نابلس غير ابن الخليل وابن رام الله غير ابن بيت لحم. أما ابن القدس فجنسيته بل وجوده قيد الدرس. والذين في الأردن هم أردنيون بالإكراه ومن الدرجة الثانية، أما الذين في سوريا فهم شبه سوريين، أما الذين في لبنان فغير محدَّدي الهوية لأنهم لم يعودوا فلسطينيين (بالمعنى القانوني للكلمة وبعد مسلسل الاتفاقات النافية لمن هم خارج نطاق السلطة التي هي خارج نطاق الأرض)، ثم إنهم لا يريدون أن يكونوا لبنانيين، ولا اللبنانيون يقبلونهم شركاء في المواطنة.
هذا قبل أن نتحدث عن الفلسطيني الأميركي والفلسطيني الكندي والفلسطيني الأوسترالي، عدا عن اللاجئين السياسيين الذين تندثر هويتهم تدريجياً في الدانمارك والنروج والسويد وألمانيا.
* * *
كل وطن تقريباً صار أوطاناً.
كل شعب تقريباً صار شعوباً.
الجغرافيا تتغيّر، الواقع الديموغرافي يتغيّر.
والهجرة هجرات، بعضها يحمل دلالات خطرة بل مدمرة لفكرة الوطن: فبينها ما يهجر فكرة الوطن أو بعض مكوّناته الأصلية، خصوصاً إذا ما توقفنا قليلاً أمام هجرة المسيحيين العرب، بشكل خاص، التي تكاد تتحوّل إلى كارثة قومية، إذ هي تشمل العراق والأردن وفلسطين، وإلى حد ما سوريا ولبنان.
أما في مصر فهي تتخذ أبعاداً سياسية لا تهدّد فقط وحدة الكيان التاريخي لمصر، ولكنها تتحوّل إلى سلاح سياسي يمكن استخدامه في تركيع مصر أو إذلالها لإخضاعها للابتزاز الإسرائيلي كما للضغوط الأميركية المتكاملة معه. وما قانون مكافحة الاضطهاد الديني الذي أقرّه الكونغرس مؤخراً، والذي يُراد استخدامه لاصطناع قضية الأقباط في مصر، إلا عنوان للوجهة التي يمكن أن يتخذها المجهود المعادي في ضرب الوحدة الوطنية المصرية، وإلزام الحكم بموقع دفاعي ضعيف.
كأنما يُراد القول إن المنطقة كلها لا هوية لها،
لم يعد معترفاً بالعرب كأمة وبأرضهم كوطن.
فلكي تكون إسرائيل الدولة المهيمنة والقائدة، لا بد من أن يبدو العرب مجموعات من الأعراق والأديان والطوائف والمذاهب المقتتِلة في ما بينها، والتي لا يربط بينها رابط من وحدة التاريخ أو من وحدة الأرض، عدا عن الدين واللغة والمصالح والموروث الثقافي.
المنطقة مجموعة من الأقليات وإسرائيل هي الأقلية الأقوى، حتى لو لم تكن الأكثر عدداً. وهي بمعنى من المعاني الدولة النموذج، حيث تتمازج القوميات داخل الدين الواحد، أو تتماهى الأعراق وتذوب داخل الكيان السياسي الموحد.
والقوة ستار العيوب،
أما الضعف ففضاح.
لا المشرق وحدة، ولا المغرب وحدة، ولا وادي النيل وحدة.
لا الجزيرة وحدة، ولا الخليج وحدة.
بل ان الوطن الواحد ليس وحدة: لا يُراد لموريتانيا البعيدة والمرمية خارج النسيان وحدة إلا مؤقتاً، حيث الحرب الأهلية بين الأفارقة السود والعرب البيضان على الباب.
ولا يُراد للمغرب أن يكون وحدة مع صحرائه الغربية التي استنبتت من رمالها جمهورية ضاع في سرابها الكثير من الدم والجهد والمال والسلاح والقيم والأفكار والثوابت اليقين.
ولا يُراد للجزائر أن تكون وحدة، بل يُصوَّر عربها وكأنهم غير بربرها وغير الشاوية، ثم ان الإسلاميين غير المسلمين، والجيش غير الشعب، و»الإنقاذ« غير »الجماعات« واللغة العربية تصوَّر كعامل تشتيت وتقسيم لا توحيد. وإذا استحال التفاهم »بالأمازيغية« فالفرنسية حاضرة لتكون الحاضن الموحّد للشعوب المقتتِلة في المساجد كما في الجبال والسهول والوديان التي طالما احتضنت الثوار الأماجد الذين قاتلوا دهراً لاستعادة هويتهم ولسانهم وأرضهم وخيراتهم من أيدي المستوطنين الفرنسيين الذين سبقوا المستوطنين الإسرائيليين إلى شطب الهوية القومية لأرض وشعب.
* * *
الوجه الآخر للصورة تراه وتلمسه ويثقل عليك فيوجعك، تجده في مسلك »الآخرين« ازاءك، كائنة ما كانت هويتك »الوطنية«، يستوي في ذلك الأميركي والأوروبي والأفريقي والآسيوي وصولاً إلى العدو الإسرائيلي: فأنت عربي حتى وأنت ترفض عروبتك! تحاسَب كعربي، على مجمل تاريخك (من زمن الفتوحات إلى مرحلة النهوض الثوري، من بداية الخمسينيات وحتى الانطفاء القومي بعد حرب 1973 ثم بعد الانسلاخ الفلسطيني عن جسد الأمة بعد مسلسل اتفاقات الإذعان ابتداء من أوسلو 1993 وحتى واي 1998..).
خلال زيارة لراعي الأبرشية المارونية في ديترويت فهمنا أن الاسم الرسمي الذي كان ما يزال معتمداً إلى أمد قريب (أميركياً): الكنيسة السورية..
وخلال مجمل اللقاءات، وعبر حوادث وأحداث كثيرة، تبيّن أن »الآخرين« يتصرفون مع اللبناني والسوري واليمني والعراقي والمصري إلخ على أنهم جميعاً »عرب«!
أما مع تفاقم التنصل من »العروبة« فقد انقسم هؤلاء »الأقوام« إلى »مسلمين« و»مسيحيين« وسقطت هوياتهم »الوطنية«. فإذا لم تعد عربياً لم تعد لبنانياً، بل أصبحتَ »مسيحياً« أو »مسلماً«.
حتى عند الغربي تتماهى هويتك الوطنية مع هويتك القومية، إذا كنت عربياً، فإذا سقطت الثانية سقطت الأولى ولم يتبق لك إلا العرق أو.. الدين!
بالمقابل، فإن الصيني واليوناني والبولوني والألماني والطلياني والعربي والياباني والأفريقي إضافة إلى الإيرلندي والإنكليزي إلخ، هو أميركي في أميركا بغض النظر عن منبته، وهو »إسرائيلي« في إسرائيل، بغض النظر عن هويته القومية الأصلية، بينما يسقط حقك في أرضك وحتى في اسمك إذا ما حاولتَ التنصل من هوية »الوطن الكبير« إلى هوية الإقليم. تكون هذا فتكون ذاك أو لا تكون أحداً.
إلا »الفلسطيني« فهو »فلسطيني« لقطع صلته بهويته القومية، أي بالعروبة، وليمكن من بعد اعتباره أقلية قومية داخل الدولة العظمى متعددة القوميات: إسرائيل! ولما كانت »قومياتها« الأخرى جميعاً يهودية، وقابلة للذوبان في الدولة التوراتية، فإنه سيبقى وحده خارجها، وهو داخلها، وسيظل وهو داخلها وحده خارجها!
* * *
ما أضيق وطن يصبح المهجر أرحب منه!
وما أقسى الحكم الظالم الذي يمنع إنساناً من أن يكون »مواطناً« إلا إذا اغترب عن وطنه!
في المهجر وجدتُ »مواطنين« أكثر مما في الوطن،
أما في الوطن فما أكثر المهاجرين والمهجرين والمهجورين والمغتربين!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
مَن أحب أثبت اسمه في سجل الخالدين.
مَن أحب أضاف بيتاً من الشعر الى ديوان العشق، وسكن في وجدان الناس جميعاً، الذين يتعارفون بالحب وحده، ويستحقون نعمة الحياة بالحب وحده،
مَن لم يحب مسكين، عبر في الدنيا فلم يترك فيها أثراً، وعاش مثل دابة. أما العاشق فإن الدنيا تسلمه نفسها وتعطيه الحياة لأنه يعطيها المعنى.