هوامش
***
عن الخميني والثلج في عشرين الثورة الإسلامية
بالمصادفة »الطبيعية« البحتة ارتبطت الثورة الإسلامية في إيران، عندي، بالثلج ونقائه الباهر وبرده الشرس الذي قد يجمّد الأطراف لكنه لا يوقف حركة التاريخ.
من »نوفل ليه شاتو« في ضواحي باريس، التي كانت المنفى الأخير لآية الله روح الله الموسوي الخميني، حيث التقيناه أول مرة، إلى مدرسة الفيضية في قم، حيث التقيناه للمرة الثانية وقد استعادته إيران بالثورة، مروراً بطهران التي كانت تطهّر نفسها من آثار عصر الشاهنشاه، كان الثلج يواكبنا ويرسم ببياضه الناصع الطريق إلى التاريخ الجديد.
في القرية الفرنسية الوادعة التي أدخلها الخميني التاريخ، التقينا الرجل الذي يوحي عمره وقيافته وتقاليد مجلسه بأنه يسكن في الأمس، فإذا هو بإرادته وعزيمته وفي النظرة الحادة لعينيه وفي النبرة الحازمة لكلماته التي كانت تغدو مع إطلاقها دستورا، يخط الصفحات في كتاب الغد بلا تعب.
وفي قم، التي كان ينظر إليها، بكل المعايير، على أنها معقل »المحافظين« السائرين بعكس عقارب الساعة، حيث العباءات السوداء والمعممون الفقراء إجمالاً والذين يحاولون الاجتهاد في تفسير نصوص مكتوبة في زمن آخر، أو في ابتداع تفسيرات جديدة للمنقول القديم، رأينا مشهداً أسطورياً غير قابل للتكرار.
لم نستطع النوم في قلب البرد، في بيت ذلك الإيراني الطيب بقم الذي أخذنا إليه من يستحق رتبة المجاهد، محمد صالح (الشهيد بعد ذلك). كنا قد دهمنا أصحابه ليلاً وهم نيام أو على وشك النوم. كان المنزل أضيق من أن يتسع لأهله الفقراء، فكيف ومعهم أربعة ضيوف. وعبثت الفوضى بالناعسين وهم يرحلون أو يحملون ليحلوا ضيوفاً على جيرانهم الأفقر منهم، لكي يخلو لنا المكان.
في الخيمة الصغيرة المقامة على عجل في حديقة تلك الدارة في » نوفل ليه شاتو« كان المصلون الآتون من أنواع شتى من الإسلام يتلاقون حول فكرة تجديد الدين بقلب الدنيا، وعصيان ولي الأمر بتسلم زمام الأمر بأيديهم.
وفي قم، وفي باحة تلك المدرسة التي كان الخميني يدرّس فيها طلابه »من خارج النص«، كان الآتون إلى الإسلام الجديد أو المجدد أعظم عدداً من أن يتسع لهم المكان فأسقطوا الأسوار وانتشروا على مدى النظر، نساء ورجالاً، يهتفون ولا يتعبون، ويلوحون بقبضاتهم ليرسموا مداراً جديداً للنور.
كانت النساء، الأمهات والزوجات والصبايا، هن الأكثرية… وكانت هتافاتهن هي الأعلى صوتا، على رقتها… وكان الثلج المنهمر يذوب قبل أن يصل إلى الأرض ومعه تلك الأسئلة المنطقية، في ظاهرها، والتي يمكن تلخيصها بواحد مجلجل: ما الذي يجمع بين هذا الشيخ المعمّم الذي يناهز عمره الثمانين وبين هؤلاء النسوة وغالبيتهن العظمى من الشابات؟!
أي »كاريزما« تأخذ كاعباً مقبلة على الدنيا بشغف، وإن تسترت بالتشادور، إلى هذا »العجوز« الذي يحتل التفكير بالجنة تفكيره، والذي لم يعرف من »متع« الدنيا إلا الشاي والكتب والسجن والاضطهاد والنفي وكسرة خبز وجبّة مرقعة والإيمان بأنها دار عبور فحسب إلى دار البقاء التي لا موت فيها ولا يحزنون؟
بعد يومين، أخرجنا الضجيج من غرفنا وصالات الجلوس في فندق إنتركونتيننتال إلى الرصيف لنتفرج على تلك التظاهرة النسائية المعطرة التي احتشدت فيها بضع مئات من نسوة أيام العز من خلف الكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفوار وبعض الداعيات الأوروبيات الأخريات الى المساواة بين المرأة والرجل، والتي كانت بين شعاراتها الأساسية ضرورة »تحرير« الإيرانية من التشادور لكي تتبين طريقها إلى.. جسدها، وإلى الرجل!
لا تُسقَط الحداثة بالمظلات،
وهؤلاء النسوة الحاسرات، أو اللواتي لعنّ التشادور من باب التحدي، يتعرضن للسب والإهانات، وتسابق الإيرانيات رجالهن إلى إمطار المتظاهرات باللعنات.
والتقدم ليس بضاعة جاهزة للتصدير، والقيم الباريسية لا مجال لها في بازار طهران الذي اندفع يساند ثورة الخميني، مخالفا المعايير الموصوفة لارتباط التقدم الاجتماعي بمستوى الدخل.
لا مشترك بين الضاحية الباريسية والعاصمة الإيرانية، إلا الثلج.
والعمامة السوداء تطل من فوق الأبيض الناصع لترسم معالم الطريق نحو غد مختلف تماما: إنها كلمة الله على الأرض.
الضجيج يجتاح إيران. ملايين الأصوات ترتفع. مئات الآراء تعرض نفسها على الناس، والنقاش محتدم في كل مكان.
ونحن نسير في قلب النقاش، فإذا ما بلغنا مقام »المعصومة«، وسمعَنا الإيرانيون نرطن بالعربية، تقدموا ليتبركوا بنا، وبيننا »جوزف« و»مارون«، وليهتفوا لفلسطين.
هي دنيا أخرى تطل من تحت العمامة السوداء لتقلب الموازين والمعايير والمفاهيم السائدة.
»روح الله« سرت في الجماعة فغيّرت وجه العالم.
والإيرانيون الفقراء ما زالوا فقراء لكنهم اصطنعوا تاريخا جديدا، ليس لبلادهم وحدها، بل لكل أقطار الكون.
في الذكرى العشرين للثورة الإسلامية في إيران: تحية لذلك »العجوز« الذي جدد شباب الأفكار والقيم والعقائد، وفتح طريقا للتقدم الإنساني في قلب الصقيع الرأسمالي المتوحش.
تحية إلى هيكل في عيده ميلاده الثاني
****
لم أشر إلى المناسبة ولا أشار إليها »الأستاذ«، لكنني كنت سعيداً بأن ألتقي محمد حسنين هيكل في الأول من شباط (فبراير) تحديدا، وان أشاركه »الاحتفال الصامت« بذكرى إخراجه من »الأهرام« قبل خمس وعشرين سنة، في قرار أشبه ما يكون بالبلاغ الرقم واحد الممهد للانقلاب السياسي الشامل.
كنت حريصا على أن أهنئه بكتابه الجديد »الجيوش والعروش«، الذي يتابع فيه صناعة ذاكرة عربية غنية بالمعلومات الموثقة والشهادات اللاغية للدعايات والأكاذيب والأضاليل التي أسهمت في إسقاط ثقة المواطن العربي بنفسه وبتاريخه، ماضيا وحاضرا ومستقبلاً..
وكان حريصا على أن يعرف رأيي في المجلة الشهرية الجديدة التي يرعى إصدارها عن »دار الشروق« والتي تحمل اسم »الكتب وجهة نظر«، خصوصا أن المسؤولين عن تحريرها بعض تلامذته: جميل مطر وسلامة أحمد سلامة.
وفرحت: انه، وبعد خمس وعشرين سنة، من مقاومة الحجر على رأيه وفكره، ما زال ولاّدة أفكار وحاضنة ممتازة لإصدارات جديدة، إضافة الى كونه منتجا غزيرا ومتميزا بكفاءته ودقته ودأبه وحضوره الطاغي، كاتبا ومحاضرا ومعلما، يأخذك إلى الغد، ولا يجلسك أو يجالسك على ذكرى ما كان.
لقد كتب الغد عبر إعادة صياغة وقائع الأمس بالتصحيح والتحليل والقراءة المتأنية التي لا تأخذها عاطفة الإعجاب إلى طمس الخطأ، ولا يأخذها الغضب الى تسفيه الصح حتى لو صدر عن خصم أو عن المندفع إلى الخطيئة بالرغبة في تمييز الذات.
اليوم، وبعد خمس وعشرين سنة، ومن خلال ما آلت إليه الأوضاع في مصر وفي مختلف أرجاء الوطن العربي، وفي ما طرأ من تحولات على الصراع العربي الإسرائيلي، يمكن أن نقرأ بالوضوح كله مغزى قرار أنور السادات بإخراج محمد حسنين هيكل من »الأهرام« التي كانت تحت قيادته منارة تنشر ضياء المعرفة في جنبات هذا الوطن الكبير الذي عاش طويلاً تحت الإظلام المفروض.
لم تعد »الأهرام« ما كانته، ولم تعد مصر ما كانته.
لكن هيكل ازداد رفعة، لأن موهبته وكفاءته وإرادته الصلبة؛ كل ذلك قد تأكد عبر فيض الإنتاج الممتاز الذي أكد فيه ان الصحافي والكاتب بل المبدع إجمالا، لا يعيَّن بقرار ولا »يُعفى« بقرار.
وقبل قرار السادات كان محمد حسنين هيكل مظلوماً إذ ان كثيرين كانوا يعتبرونه ظلاً لجمال عبد الناصر.
أما بعده فقد أكد هيكل انه قيمة بذاته، لا هو ظل لغيره، ولا مجرد شارح لأفكار »القائد« أو كاتب خطابات لصاحب رأي مختلف.
ولعل علينا أن نذكر للسادات أنه أكسبنا بقراره »المفهوم« تماما، شخصية تاريخية أخرى إضافة الى جمال عبد الناصر، هي شخصية محمد حسنين هيكل، الذي يتصدر مرتبة أساتذة الجيل، ليس فقط بالمعنى المهني (الصحافي أو الإعلامي) بل أساسا بالمعنى الحضاري العام (الفكري، السياسي، الثقافي وصاحب المنهج العلمي).
إن هيكل ما بعد عبد الناصر هو الأخطر والأبقى.
إنه كشاف المستقبل وواضع العلامات الصحيحة على طريقنا إلى غدنا الذي تكاد تطمسه المؤامرات والمناورات واتفاقات الإذعان والقرارات أو القراءات الخاطئة.
مبروك لهيكل عيد ميلاده الثاني: الأول من فبراير.
تهويمات
****
قال لها: كنتِ زماني فكنتُ شبابك،
أنتِ الآن طفولتي فأنا كهولتك.
* * *
قالت الصبية ضئيلة الحجم: قلبي أكبر مني، لا تخفْ عليّ من الحب.
وحين تاهت يده في كفه الكبيرة رفعت إليه عينيها بالسؤال: أتصدق الآن ان حواء هي بعض أضلع صدرك؟!
لا تخشَ عليّ، تكفيني المساحة بين الضلعين.
* * *
قالت تسأله: كيف يصير العالم واحداً وقُتل الحب والمحبون؟!
كان الحب يحفر في الصدور والأفكار عميقاً ليبني عالماً يليق بالإنسان،
أما وقد قُتل الحب بالبورصة فكيف تُبنى المنازل الجديدة للأطفال الآتين إلى حياة لا شمس فيها؟!
* * *
قال: متى التقينا آخر مرة؟ هل تذكرين؟!
قالت بنبرة غاضبة: أخشى أن تكون الآن. ليس اللقاء تجديدا لما قبله، بل قد يكون توكيدا للقطع، ويغدو واحدنا صورة على جدار الذاكرة سرعان ما يطمسها الغبار.
* * *
قالت وهي تشير إلى السيدة ذات اللقب: لا يُشترى النبل بالرئاسات. المال يشتري الثياب، الثياب قد تشتري النظر، أما العقل فيخترق المظاهر ليقف على الحقيقة، وأما القلب فلا يدخله مَن لا يسمع الموسيقى ولا يرتعش لانعكاس بدر القاهرة على نيلها العظيم، ولا يهزه بكاء طفل أو ترنيمة أم تنتظر عودة غائبها الذي قد لا يعود.
من أقوال »نسمة«
***
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
أعجب لمن يعيش في قلب كراهيته للآخرين، كيف يدّعي أنه يحب، وأعجب أكثر حين أجد من تحبه. لا يلتقي كاره الناس مع الحب. الحب هو الناس، والممتلئ بالكراهية يبقى خارج الناس مهما جاملهم أو نافقوه.
في حبيبي أجد كل ما أحبه في الناس جميعاً، وعبره أحب الناس جميعاً، وهذا منبع السعادة الذي لا تغيض مياهه أبداً.