يحمل المكان ملامحكَ، وقد يعود فيعطيك بعض ملامحك.
وأنت تكتمل بالمكان. تكون فيه أنت »كلك«، أما في خارجه فتظل بعيداً عن الاكتمال، اذ تنقصك بصمات يديك فوق الجدران والابواب، وأنفاسك التي نفحت وجوه من تحب، وحنينك إلى شجيرة احتضنت حبك الأول، وإلى درب كنت تمشيها على رموش عينيك خلف الطيف الجميل الذي يغطي وجهه برموشه.
شوقي عبد الامير يحاول في »ديوان المكان« نقش اسمه على بوابات المدن العربية.
من قبله طاف »النقاش« بقرى جبل لبنان، وراقب أهلها فأطلق عليهم الألقاب والنعوت مستفيداً من تشابه مسلكهم مع هذا الحيوان أو ذاك (الذئب، الكلب، القطط، الثيران، الحمير، الغنم، الدببة الخ)، فانتهى شهيد ذكائه ودقة ملاحظته.
أما شوقي عبد الامير فرأى في المدن اصدقاءه، ولا سيما من غاب منهم، فأدخلهم إلى حيث لم يدخلوا، محتفظاً بدفق الحنين لعراقه الحزين.
مع صنعاء، مثلا، يستذكر جبار ياسين:
»مرة رأيت فوق احدى القمم
طائري المشدود إلى عنقي
وهو يتأهب للتحليق…/ فأمسكت اجنحته«!
ومع عدن يجيء طيف جعفر حسن:
»بين الصدأ وبين البحر/ بين الجبل وبين الموج/ عدن…«
ومع ادونيس تجيء صورة بيروت:
لن تكون الحقيقة لنا/ حتى ذكرى
لاننا نعيش الوهم/ مثل الولادة
لن تلتقي الخطوط المتوازية/ لانها متشابهة فقط،
الاختلاف صار وحده اللقاء الدائم
من بيروت تعلمنا ان الهرب/ هو ان تقطع اقدامك«
أما مع غيللفك فيطل طيف الناصرية:
»الناصرية/ قرية من هنان
شاهدة كبيرة لقبر كونوش كادر
لم يبق منه اليوم/ إلا القمر
الناصرية/ هي الدليل الاخير على ان الفرات
لم يغير مجراه
يحدها العراق/ من الشمال والجنوب والشرق والغرب…«.
أما مع البصرة فتحضر اطياف الجميع:
»العواصم طرق كالانباء/ تخرج ولا تعود
ما اصعب الأرض عندما يلتقي نهران،
القرنة معبد/ والرافدان اذ يلتقيان/
فبأي آلاء مائهما تكذبان؟!
وسنبقى معاً…«.
أحيانا يأخذ شوقي عبد الامير الشعر إلى الفلسفة، ولكن الشعر يأخذ شوقي عبد الامير دائما إلى العراق:
»المنفى بكاء يرتدي معطفا وقبعة،
ويهرول في نفق ناي عراقي…«
وحين يحاول ان يستذكر ما قاله »ارثر«، فإن العراق يفيض بدمائه فوق الصفحات المرقطة:
»الساحات التي تغص بالراقصين لا تضاهيها بالزحمة
إلا القبور الجماعية في وادي الرافدين
حيث الدماء القديمة/ كالأنهار القديمة/ غير صالحة للملاحة…
جنود فرنسيون عائدون من »عاصفة الصحراء«
يعبرون في ست ساعات بين »زقوره اور«/ وبرج »اللاديفانس«
تاركين وراءهم/ نصف مليون قتيل وستة آلاف عام
ولا يلتفتون…
} } } }
جثة بدوي عراقي قُتل قرب »نقره السلمان«
تتجول طوال الليل في ساحة الباستيل«.
و»المنفى« موطن لقصيدة شوقي عبد الامير الذي قد يحسده كثيرون من »المنفيين في الداخل المقتول« على منفاه الدولي:
»اسكن خلف ارتفاع النهار/ لي نزهة في الجذور/
وبعض العناقيد منفى«
»احيانا يهاجر الوطن/ ولا يذهب إلى أي كان
يأخذ ماضيه/ ولن يعود…«
خارج السياسة، بل داخل الداخل، منها تبرز مشكلة جدية لشوقي عبد الامير مع اللغة:
»اللغة العربية وحدها دين/ لتواطئها مع مفردة الله
الاسم الوحيد الذي/ لا يجمع ولا يؤنث ولا ينكر ولا يعرف
الاسم الصمد«.
… »ماذا لو تمردت اللغة العربية/ على الغيب؟!
لماذا اختار الله الالف/ وترك الواو/ والنون فيما يسطرون؟
ماذا اطعم الانبياء اللغة/ ليقاضوها السماء بالصحراء؟!«
… »اللغة حداد دائم/ اللغة حبل غسيل«!
… »من يخلع عن قريش/ عبارة العربية«!
شعر الخارج جميل. شعر الداخل اجمل. خطأ الخارج بشع. خطأ الداخل ابشع.
وشعر شوقي عبد الامير يتمرد عليه احياناً فيتدفق كما الفرات في فيضانه، فيصطنع »الاهوار« ويستنبت من الماء حياة، ثم تجيء »الحكمة« فتبني فوق الأرض المنتزعة من النهر جدثا للافكار العظيمة، او تحولها إلى منفى جديد.
»حلاجيون وحجاجيون/ نحن«
ومن الصعب وضع الحدود داخل شوقي عبد الامير بين الحلاج والحجاج، ما ظل خارج الكوفة ومعلقا فوق جسر المسيَّب: بين المقدس والمدنس!
لكنه، في كل الحالات، يعرف جيداً لغة الحجارة:
»قال لي الحجر: لا أرى عندما أرى…«
»الماضي نكتبه على الاشجار/ ليبقى
»الآتي نكتبه على الاحجار/ لنبقى
»عرف الغزاة ان يحتلوا الأرض/ وان يلعبوا بالتاريخ
وعرف الاطفال ان يحتلوا التاريخ/ وان يلعبوا بالأرض…«
تهويمات
} أتعبني صمتكِ. متى تتوقفين عن الثرثرة لتقولي الكلمة الوحيدة المكتوبة بوجهك؟
} اتعرفين؟ صرت اخاف »السهل« ومداه المفتوح!
كلما قصدته افتقدت قدرتي على الصهيل.
كيف ايتها التي كنت احتويها بعينيّ كنتِ تملأين كل ذلك المدى ومعه عمري؟
} كلما نقص الحب زاد الحديث عنه.
الانسان المطرود من جنة الحب كالصفيحة الفارغة تقعقع كثيراً فتزعج الأذن من دون ان تروي الظمآن.
} لا يطيق الحب ان تتحدث عنه من خارجه.
يذبل الحب ويتلاشى متى بدأت حديثه بالفعل الماضي الناقص »كان«.
لا ذكريات في الحب، لان شلاله لا يتوقف إلا اذا انقطع المطر.
وليس الحب حدثا في الزمان والمكان.
الحب يصطنع زمانه والامكنة.
مَن يُعِدْ خلق البشر قادر على ابتداع دنيا مختلفة.
أليس في الحب شيء من الالوهة؟
} قال لي بلهجة الشاكي: كثيرات هن العاشقات. خمس نساء معاً، هذا كثير، فلأهرب إلى السادسة!
} قال: أنا مدين له. لقد اعطاني امرأته!
قال الآخر: لم يكن يملك ما يعطيه! ولست تملك ما يكفي لسداد حب بالدين!
} قال متأففاً: انها من تينك النساء اللواتي يتلذذن بتعذيب الرجال! تغوي واحدهم حتى يتبعها فتضيف اسمه إلى القائمة ثم ترميه…
} قال الآخر: لا تخَف! لي قائمتي أنا الآخر! لعلني اقنعها بتبادل المعلومات فتطول القائمتان!
حكاية رجل لا يريد أن يكون ديكا
صاح بي هائجاً : عبث، عبث، عبث… كاذبة هي اسطورة المساواة بين المرأة والرجل. انهن يردن السيطرة كاملة ومطلقة. في أي حال لم تكن السيطرة لنا في أي يوم. ننفخ صدورنا في الخارج ونقول اننا مصدر القرار، حتى اذا دخلنا باب البيت تحولنا إلى »رعية« لا رأي لها ولا دور، ويعود القرار إلى صاحب القرار.
حاولت تهدئته فلم انجح إلا في اثارته مجدداً… قال:
انها تريد كل شيء. نخرج معاً، فإن طلبت ساخناً حاضرت في مضار الساخن وطلبت لي بارداً. ان حياني صديق اصرت على افتراض انني ما جئت إلا لكي ألقاه، اما ان ضربني حظي العاثر، بصديقة فحيتنا من بعيد، او جاءت للسلام علينا، فتلك بداية لمحاكمة لا تنتهي إلا بالادانة والسجن الانفرادي لبضعة ايام. ان تحدثت قاطعتني لتلفت نظري إلى انني أكثر من الثرثرة، وان جلست مستمعا تاركا لها حبل الكلام اتهمتني بأنني اتشاغل عنها واتركها تخطئ لاكشف جهلها، اما ان تدخلت مصححا واقعة او رقما فإن ذلك يكون لحظة انفجار الحرب الاهلية. ان تصادف ان تأخرت عنها خطوتين تساءلت ان كنت اخجل من مرافقتها، وان تصادف ان تقدمت عنها خطوة، تجنبا لحفرة موحلة، اتهمتني بأنني اتصرف كشرقي متخلف وأعاملها كحريم لا كشريكة حياة ورفيقة عمر.
صمت لحظات ثم قال:
كيف السبيل لان نحظى بالمساواة؟! هل تقبل شكواي تلك الجمعيات والهيئات العاملة لاستخلاص حقوق الإنسان؟!
كل المستعمرات تحررت، إلا الرجل…
كنا في مقهى معظم رواده من النساء. وجاءت باقة منهن إلى طاولة مجاورة فرأيته يهتف بلا وعي: يحيا الاستعمار!
وقلب الاسطوانة، وانطلق يحدث ذاته عن اكسير الحياة الذي اسمه المرأة: تصور العالم من دونها! كان سيغدو مزبلة نتعارك عليها نحن الديوك فنقضي اعمارنا في العبث،
ونسي، ونسيت ان اسأله من أين تأتي الديوك ولا حريم!
سطور في كتاب الزمن الجميل
انفتح باب الفرح ودخلت كالأعشى…
كان الشوق يلعثم بصري ويديّ والسجادة والكرسي واللسان.
طاف بي عطركِ فأسكرني، ورأيت شقائق النعمان تنبت في السقف، وامتلأت أرض الغرفة بالاقحوان، وفي الثنايا اطلت بخفر بضع بنفسجات منتشية بدفء اليدين المتعانقتين.
هربت العين من العين لتحمي الاحتضان والهمس الحميم.
جاءت لحظات الهناءة متسارعة من خلف النافذة الموصدة على الزمن الجميل.
تهاوت السنوات مخدرة بالنشوة: عمرك في قلبك، وليس قلبك في عمرك.
ثم جاء الخوف، لكأن الحب والخوف توأمان. تخاف الحب وتخاف عليه. تخاف عيون الآخرين ويخاف الآخرون ان يجعلك حبك أغنى وأبهى وأجمل.
ما أروع المراهقة!
يتغلغل المعنى في قلب الكلمات العادية، فإذا هي ترهج بالنشوة، وإذا هي تتخابث فتهرّب إليك المقصد والدلالات من فوق الرؤوس المسطحة للآخرين!
الفرق شاسع بين من يسمع بقلبه وبين من يحشو آذانه بالحكايات اللزجة للنهارات المملوءة بالتعب والتفاهات وتفاصيل الهم الانساني الثقيل في ظل النظام العالمي الجديد!
لكن اللغو ممر آمن لتهريب الشوق.
لكم يمنحك الحب من نعمه: يكفي انه يوفر لك هذا الشعور بالتفوق، وبالتميز، وبأنك »لست مثلهم«.
يطير بك الحب، خفيفاً، من فوقهم، ويأخذك إلى دنياه الرحبة، من دونهم، ويعيد تشكيلهم كإطار للصورة وموسيقى مصاحبة.
وحين اكتملت النشوة، سمح لهم بالتثاؤب، وأمرهم بالانصراف، وأغلق خلفهم باب الليل مستبقياً لنا فرصة ان نخط سطراً جديداً في كتاب زماننا الجميل.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
سمعت مَن يوصي صديقه فيقول له: لا تهدر أيامك، املأها بالعششق. إن عز عليك أن تكون العاشق فكن المعشوق!
سخيف هذا القول. العشق ليس مباراة، تخسر فتخسر ولا تعوضك خسارة الآخرين. ومَن لم يعشق تعذر عليه ان يكون المعشوق. العشق ليس مفرداً، ولا يولد الا بحمى تجتاح طرفي الوتر فتنتشي الدنيا باللحن الانساني الانبل.