طلال سلمان

هوامش /ابراهيم مرزوق شامة حمراء على خد بيروت

إبراهيم مرزوق: شامة حمراء على خد بيروت
طلال سلمان
هي السذاجة وحدها تصور لنا ان عدم اعترافنا بالموت يلغيه،
وهي المكابرة وحدها تغرينا بافتراض أن الموت حدث عابر، واننا مستمرون بعده، نحمله على ظهرنا ونتابع المسير، حتى إذا جاءت لحظة الراحة أنزلناه وجلسنا إليه نسامره عن الذين ماتوا خلفنا لأنهم ظلوا »هناك«.
اعتصمت بمثل تلك السذاجة حين بلغني خبر تحول إبراهيم مرزوق الى عجين ونار وخبز وماء وطين وشامة حمراء على خد بيروت.
وأضفت الى مكابرتي كبرياءه في رفض مبدأ »الهزيمة«، و»قررت« أن أغرق في وهم أن الموت أضعف من أن يطال شفافية إبراهيم مرزوق، صلابة إبراهيم مرزوق، دفق الحياة الذي يعمر به صدر إبراهيم مرزوق وصفاء الروح الذي يتمتع به إبراهيم مرزوق ويسقينا منه نحن العطاش من عشاق الحياة.
على امتداد أكثر من عشرين عاما عانيت صعوبة الاعتراف بأن إبراهيم مرزوق قد زرع أحشاءه وعينيه وأنامله الرقيقة وفرشاته في »الطريق الجديدة أبي شاكر من تحت«، مرتحلاً إلى »فوق«.
خاطرة سخيفة: بديهي ألا يعرف الرؤساء والكبراء والوزراء والنواء من أجل السجع والمحافظ والعمدة والمأمور، مَن هو إبراهيم مرزوق،
بديهي أيضا أن تنساه جمعية الفنانين، وأن يهمله المهتمون بالبيئة والتراث، وأن يسقط سهوا من سجلات وزارة الثقافة والتعليم العالي،
بديهي، من ثم، ألا يخطر ببال أحد أن يطلق اسم إبراهيم مرزوق على تلك المحلة التي تشرّبت أرضها دماءه وماء عينيه والأحلام التي كانت تزهر في وجدانه فيرمينا بعطرها فناً مصفى..
والخاتمة البديهية أن يظل كل أولئك في »التحت« وأن يرقى إبراهيم مرزوق وحده إلى »فوق«، مرتفعا عنهم وعن الشوارع والتسميات التي يكرم بها أصحاب القرار أنفسهم إذ »يتصورون« إلى جانب الإبداع ويدعون صلة قرابة معه، وإن من خلال اعترافهم بالخالدين… أمواتا).
* * *
قبل أيام، وخلال زيارة لمرسم حسن جوني، وجدت إبراهيم مرزوق في انتظاري لعتاب طويل: لا تعترف بي ميتا وتحرمني حقوق الحي، فلا تزورني ولا تسأل عني ولا تطمئن الى بيتي وأهلي ولا تهتم بنتاجي »المدفون« مثلي بعيدا عن العيون التي يستمد منها قدرته على اختراق الصمت وصولا الى ذاكرة الآتين؟!
كان إبراهيم مرزوق بريشة إبراهيم مرزوق على الجدار امام عيني حسن جوني وداخل أفكاره وريشته وعلب ألوانه.
وحين جلسنا نتحدث عنه اكتشفنا اننا إنما نتحدث إليه،
ثم، وكالعادة، تولى وحده زمام الحديث.
* * *
قبل أن أعرف إبراهيم مرزوق كنت مشغولاً عن الفن، رسما وموسيقى وغناء، رقصا وشعرا ونحتا، جمالا في الطبيعة وفي الإنسان، بتدبير أمور معيشتي.
دفعة واحدة، في بداية الستينيات، وجدت نفسي في قلب زمرة من أولئك الذين يرون ما لا نراه، ويهيمون في دنى نتمنى أن نبلغها فلا نجد مفاتيحها،
لعل حسين ماضي كان أول مَن عرفت، ثم غرقت في بحرهم: موسى طيبا، حسين بدر الدين، مصطفى حيدر، محمد قدورة، وبعض المتقدمين عليهم كرفيق شرف ومنير عيدو وأمين الباشا الخ..
لكن مع إبراهيم مرزوق عرفت أبا علي (حسين) الخطيب وعوده العتيق والصوت الشبعاوي الطلي والقوي والمكسور بالفقر، ونبيه الخطيب الذي كان يدرس العلوم في بعض المدارس الخاصة ويدرس الموسيقى في الكونسرفاتوار، ويمارس عزف الهواة على العود والكمان والقانون والرق،
لم أكتشف بداية كم أخذنا جميعا نتغير بتأثير إبراهيم مرزوق لكن عليَّ الاعتراف اننا فجأة انتبهنا بعد حين الى أن أحدا لم يعد حيث كان وكما كان.
ظل حسين ماضي »جلمود صخر حطه السيل من عل«، لكن عينيه انفتحتا فجأة على أسرار الجمال وتحولاته بالحركة التي قد تصير موسيقى فهاجر الى العصافير يبني لها أعشاشا من اللون ويتركها ترسم بأجنحتها حروف لغتنا الجميلة مضفية على تكويناتها البديعة بعض بهاء المقدس من تراثنا.
وانتبه نبيه الخطيب الى ان العود ليس آلة بل هو وعاء للروح لا تحرك أوتاره الأنامل مهما برعت بل ينطقه الحب، حب الحياة والناس، وتعلم نبيه من إبراهيم مرزوق أن يستخرج من شغاف قلبه ريشة، وأن يفتح للعود تجويف الصدر فيحضنه داخله، فإذا النغم سلسبيل النشوة يتدفق فيرفع الساهرين الى ذرى العوالم الباهرة للأحلام المختزنة في صدور الرجال التائهين عن أنفسهم.
اقتحم إبراهيم مرزوق كلا منا فغيّره. أيقظ الغافل وأعاد الثقة بالنفس الى المهزوزة ثقته بكفاءته، وسحبنا من أيدينا فرمانا في قلب التيار الزاخر لنصارع مستخرجين كل عناصر القوة الذاتية، مستكشفين في نفوسنا القدرات المنسية والمواهب الموءودة.
الأخطر أن إبراهيم مرزوق جعلنا نفهم العلاقة بين الفن والسياسة، بين الثقافة والاقتصاد، بين الإنسان والحياة، فإذا الغناء بالكلام واللحن والمعنى موقف، وإذا إهمال التراث خيانة، وإذا الانغلاق داخل الموروث خيانة، وإذا فينا من العزم والأهلية ما يعطينا الحق بدخول العصر.
عصف بنا إبراهيم مرزوق فشالنا من وهدة العادية والتقليد والمياومة ورمانا في قلب التحدي: تحدي الذات.
أخذنا إلى أفياء محمد عثمان وسيد درويش وسلامة حجازي وزكريا أحمد، وعرفنا على مناخات الأوبرا الايطالية، وأسمعنا بعض ضروب الغناء الهندي،
أكد لنا أن الفن سياسة، وان الناس هم المنبع وهم المجد، وأن الحياة هي الجنة إذا ما نحن أعدنا صياغتها وهي الجحيم إذا ما صنعها لنا الآخرون.
علمنا إبراهيم مرزوق الحب، فغنينا معه حتى ثمل العشق على عتبات »كادني الهوى«، ورقصنا في قلب الموج وفوق الثلج، وطفقنا نتعبد للجمال المنثور أمامنا بمدى البصر والبصيرة، طبيعة وبشرا وأخيلة تقرب الغد من أيدينا.
فتح لنا إبراهيم الباب المرصود فعرفنا أن الإنسان بأرضه، وأن الحياة بالناس، وان في كل إنسان فنانا وان الحرية هي مصدر كل جمال وكل إبداع.
ومع إبراهيم تعلمنا أن »الحياد« اغتيال للانسان. لا حياد بين النور والظلمة، بين الحق والباطل، بين الصح والغلط، بين القبيح والجميل. و»الموقف« ليس في أن تقتل خصمك، بل في أن تحاوره، في أن تساعده على فهم نفسه، على هجر المفاهيم الخاطئة، والأهم في أن تقتل التعصب لتحرره من تعصبه.
أما العدو فهو وحده العدو: الغاصب محتل الأرض والإرادة.
* * *
لم نعرف من إبراهيم مرزوق إلا أقله. لقد كان قد استقر في داخلنا فلم نعد نراه كله.
ربما لأننا كنا قريبين جدا فلم تتح لنا فرصة ان »نرى« لوحاته.. وربما لأننا كنا ننتظر دائما جديدا يتميز عن القديم بإضافات غنية. ربما لأن مهرجان النغم واللون والأفكار والمعابثات والمواقف كان يشغلنا عن تأمل كل نتاج على حدة، أو ربما لأن إبراهيم مرزوق كان أغنى من كل ما أنتج وكان يفاجئنا شخصه دائما بالجديد والطريف والمؤثر والجدي والخارق فيسحبنا الى دنياه المشكلة من قوس قزح المواهب فنتوه فيها ولا نعود نرى نتاجه الأصلي والأصيل والمرشح لأن يتجدد دائما.
* * *
مع الصباح سرى الخبر كلحن جنائزي عميق الشجن: لقد التهم الوحش اللون والنغم وحطم الفرشاة والعود ومزق أرغفة الخبز والهواء ونثر العجين والطحين والإسمنت والتراب.
لسنوات ظل صعبا عليَّ التصديق، وأنا الذي طالما احتضنت الموت واحتضنني فتعانقنا وتناكبنا وتواكبنا حتى أضعت وجهي فيه.
فإبراهيم مرزوق كان قد تجاوز، ومنذ زمن بعيد، حدود جسده وهام روحا مشعة في أرجاء مدينته ودنياه، يعطي كل من عرفه قبسا، يقتحم الأحياء جميعا بمقاهيها والبيوت، يصعب في الجبال معرجا الى المدن والقرى ناشرا الفرح وحس الجمال.
صار أرغفة من الخبز معجونة بالدم،
لم يتبدل كثيرا. كان هو خبزنا اليومي. ها قد صار خبزنا الأبدي: كلوا هذا هو جسدي، إشربوا هذا هو دمي، المهم ان تعودوا بشراً. المهم أن تخرجوا من الموت، أن تهزموا الموت وأن تنصروا الحياة. هبوا أنفسكم للحياة.
* * *
بيروت إبراهيم مرزوق هي مدينتي، عمري ومهجع أحلامي، هي اللون والنغم، الفكرة والذكرى، الشمس والطيف، بيت البحر وطائرة العودة، الريشة والقلم والكتاب والصحيفة، العود والقانون والرق والآه التي تحملك على جناحها فتتوغل بك داخل حلمك لتجعلك إنسانا يعطي الحياة ولو بعض ما أعطته.
بيروت ليست فرن الموت. بيروت إبراهيم مرزوق هي فرن الحياة.
ومحمود درويش قال شعرنا جميعا في قصيدته معجزة الخبز:
»كان إبراهيم يستولي على اللون النهائي،
ويستولي على سر العناصر،
كان رساماً وثائر
كان يرسم
وطناً مزدحماً بالناس والصفصاف والحرب
وموج البحر والعمال والباعة والريف.. ويرسم
جسداً مزدحماً بالوطن المطحون
في معجزة الخبز… ويرسم
مهرجان الأرض والإنسان
خبزاً ساخناً عند الصباح«.
إبراهيم مرزوق يعود إلينا ليتفرج علينا، وربما ليحاسبنا، بدعوة خاصة من غاليري دار بخعازي (نادر وجورج بخعازي ورياض فاخوري) يوم الاثنين المقبل،
من خلف الموت سيجيء إبراهيم مرزوق بالفرح،
… ولكن أين بيروت: سيسألنا غداً إبراهيم مرزوق فنطرق ونهرب من جديد إلى الصمت، وقد نعترف مرة أخيرة ونهائية بأنه قد مات، حقاً مات!

حق الأنثى وكرامة المرأة

} قالت الأرملة للأرملة: لاحظت انه قد ركز اهتمامه عليك، هل تعرفينه؟
ردت الأرملة على الأرملة: يوم كنتُ لم يكن،
ولكنه هنا الآن، امنحيه طرف عينيك،
لا، أظنه قد جاء ينتقم.
ذلك هو الماضي، أحب أن تفكري أكثر بالمستقبل،
لم تهن عليَّ نفسي بعد، لن آكل من صحن رفضته من قبل،
المهم أن نأكل. في مثل وضعنا لا نملك أن نفرض الشروط وإلا هلكنا جوعاً..
أفضل أن أهلك ملكة من أن أعيش جارية. عشت من العز والشبع ما يمنحني المناعة وحرية الاختيار.
ولكنك امرأة،
لأنني امرأة… ثم انك تعرفين ليست النساء حصيلة جمع امرأة وامرأة وامرأة، وليس الرجال مجموع هذا الرجل. ان لواحدهم أن يختار، وكذا نحن، لكل منا حق الاختيار. بين حق الأنثى وكرامة المرأة أفضل كرامتي..
إذن فهل تتخلين عنه لي؟
ليس لي لكي أتخلى، وليس ملكا لك لكي تتصرفي به..
إنه يعجبني، فساعديني عنده..
لا شفاعة في العلاقة بين رجل وامرأة. ولكنني سأعرفك عليه وأمضي..
تقدمتا في اتجاهه وكأنهما تقصدان طاولة الطعام، فسمعتاه يقول لصديق له كان يتابعهما بنظره:
أما الأولى فأمرها هين، إن حبي كامن في صدرها وسأوقظه، ومن ثم اتخذها طريقا الى الثانية… حرام أن تترك الأرض عطشى، وحرام أن نزيد من عذاب الأرامل، تكفيهن قسوة الدهر. هيا تقدم لأعرفك بهما فتكون المتعة.

تهويمات
} تقول المرأة للعاشقة: لو طلبت من حبيبي النجم لأتاني به..
وتقول العاشقة للمرأة: أما أنا فلا أطلب من النجم إلا أن يأتيني حبيبي،
تقول المرأة للعاشقة: يعطيني حبيبي فوق ما أطلب ويأخذ مني دون ما أريد أن أعطيه،
وتقول العاشقة للمرأة: أنا له وهو لي، والى الأرض الحساب،
} قالت لمرآتها: علينا أن نفترق، لم أعد أطيق الفضيحة التي أرى نفسي عليها فيك،
قالت المرآة: لو كان لي ذاكرة لاستخرجتك منها، لكن شرط وجودي ألا يكون لي ذاكرة..
قالت لمرآتها: ولكنني أهرب من ذاكرتي التي تستحضرينها ببلادتك وخلو مخك من الذاكرة،
قالت المرآة: لست إلا قطعة من زجاج مطلي بالزئبق، فارحميني،
قالت لنفسها: ذهب الزئبق ولم يبق مني إلا الزجاج وموعد الانحطام.
ثم التفتت الى مرآتها بغضب: أيها الشاهد الأبكم، الأعمى، البلا حس، سأحرر نفسي منك الآن…
أدارت المرآة الى الحائط فسمعت حشرجة نحيب ثم أفاقت على دموعها وهي تكرج على خديها وتنساب عبر العنق لتطفئ لهيب الذاكرة.

من أقوال »نسمة«

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
أعجب لمن يقول لحبيبه: زدني من حبك، هو الحب طوفان لا تزيده أمطار الدنيا قطرة ولا ينقصه أن تغرف منه الناس جميعا. أما الحبيب فيزيد، لأنه يشعر انه في امتحان يومي. ان الحب يلزمه بتوكيد جدارته… يخجل المحب من حبه فلا يتصاغر، ويحمي نفسه من الهوان، ويهذب ألفاظه، وتأخذه عزة النفس إلى أعلى مكانة. انه الممتلئ بين متشوقين إلى الاكتمال بالحب.

Exit mobile version