طلال سلمان

هوامش.أزدحام في سماء الأمنيات…

ازدحام في سماء الأمنيات..

طلال سلمان
لا يبدأ ما لا ينتهي.
لا زمان خارج الإنسان ولا مكان. الحياة تصنع الأزمنة والأمكنة.
يحب الإنسان ان يكون البداية. ويحب أكثر أن يدعي أنه قادر على اصطناعها إن عز عليه الإثبات انه بشخصه »الحرف الأول« و»الثانية الأولى«.
يصطنع الإنسان البدايات ليستولد بنفسه فرح الوهم بقدرته.
يتخذ من يوم ميلاده عيداً. يطفئ الشموع ويجمع الهدايا ويبتسم للمصور.
يحاول نسيان انسحاقه بالزمان عبر إعادة صياغة العلاقة بحيث يبدو وكأنه »محور« الزمان، منطلقه ومؤداه وختامه، مع وعيه بأنه خارج ذلك كله، وأن الزمان يمخره آتيا ممن قبله وقبل القبل متجها الى من بعده وبعد البعد.
ولأنه مكابر، فإن الانسان يصر على ترك بصمته على الزمان، تماما كما يحاول تخليد نفسه بتماثيل يقيمها على أشكال مختلفة منها البيوت والقصور في قلب المكان لتذكر به وتستبقيه بعد الغياب ولو قليلا.
ومع أنه ساذج فهو يعرف أنه لن يكون البداية، ولذا فهو ينسب نفسه او ينشئ صلة ما ببدايات مقررة، ويتخذها فرصة للادعاء أنه سيغير او سيتغير، انه سيمحو ما كان وسيباشر تاريخا جديدا، أنه سيلغي ويصحح ويضيف ويحذف، وأنه سيعيد خلق ذاته بيديه.
وكثيراً ما يبدأ الإنسان مع غيابه.
* * *
إنتصف الليل، إذن: ها هي أصوات المفرقعات وأبواق السيارات وصيحات الذاهبين الى السكر والنسيان، او الداخلين فيهما بغير خمر إلا أوهامهم والتمنيات غير المحددة، تعلن ولادة السنة الجديدة.
يقف الناس على حافة الزمان، ويتوهمون للحظة أنهم يمسكون بزمامه فيجمدون حركته حتى يسمع ما يطلبونه فيسجله على جدول أعماله لأيامه المقبلة، وكأنه نادل في مقهى يسألهم فيلبي رغباتهم ثم ينصرف بغير كلمة شكر او »بخشيش«.
يتراصف الناس عند الثانية الفاصلة بين زمانين وينهالون عليها بأوامرهم أو بالرجاء او يتسولون منها إصغاءها لاحتياجاتهم، غير منتبهين الى أنها أقصر بكثير من ان تتسع لذلك كله، وإنها صماء، ثم أنها لا تختلف عن الثانية التي سبقتها او تلك الآتية خلفها.
تتصادم التمنيات في الأفق البارد والمعتم: الكل يطلب لنفسه وينسى الآخرين. بل إنه يحاول إزاحة الآخرين من طريقه لينفرد بالفجر الآتي فيودعه طلباته ثم يقفل بابه عليها وينصرف مرتاحاً ينتظر ان تأتيه تباعا.
كيف تصير لحظة الغياب المطلق في غياهب التمني هي لحظة الحضور المطلق لمن يتمنى؟!
يغوص في قلب زمانه عائدا الى أيام طفولته الاولى، ويجمع فتافيت أحلامه التي عجز عن تحقيقها فيرميها دفعة واحدة على ظهر ليلة واحدة، او ساعة من ليلة، او دقيقة من ساعة فيها، ثم يهدأ مطمئناً الى أن كل شيء على ما يرام.
أحيانا ندفع غاليا ثمن أوهامنا التي نعرف أنها أوهام.
في حالات الصحو قد نسخر ممن يذهب الى »البصارة« او من يحاول قراءة حظه في»الأبراج«، او يستمع الى المنجمين، ولكننا في لحظة واحدة نغادر الصحو جميعا ونزدحم أمام الباب المرصود للزمان الآتي نطلب منه ان يعوضنا ما لم نستطع انجازه في الزمان الماضي.
تتوالد الأمنيات المتضاربة، تزاحم بعضها بعضا، تلغي بعضها بعضا، ونعجز عن حصرها وتجميعها في واحدة. السماء مفتوحة، إذن فلنسمعها ما نريده دفعة واحدة قبل ان تعود مغلقة الأبواب بالضباب والضياع والآخرين.
من أين يجيء الزمان؟
إلى أين يذهب الزمان؟
يجيء الزمان من الزمان. يذهب الزمان إلى الزمان، ونكون داخله دائماً حتى حين نتوهم أننا خارجه، وأننا نستطيع ان نخاطبه من خارجه فيسمع منا ما لا يسمعه ونحن في داخله.
الزمان: نستعجله صغاراً ونستمهله كبارا.
نريده أحياناً أن يختصر ذاته في ليلة حب، وأن يمط يومه الواحد أحيانا ليغدو تاريخاً كاملاً للناس جميعا حتى يبقي لنا ما نحن فيه من سعادة، متناسين أن الملايين يجاهدون للخروج من بؤس حاضرهم، ويحاولون صرع أيامهم الكالحة لكي يكون لهم غد يمارسون فيه إنسانيتهم.
* * *
تدلت الأمنيات من السماء التي يتبدى سقفها في هذه الليلة بالذات واطئاً، تحتشد فيه الآذان الصاغية
البعض لا يرى في الغيم المتكاثف بعتمته إلا حشداً من النساء لم يستطع في زمانه الماضي أن يحظى بواحدة منهنّ،
والبعض يرى السماء وقد انقلبت الى خزان من الذهب لا يحتاج إلا إلى ميزاب لكي تتهاطل عليه الثروات فتعوضه أيام العوز والحرمان وغصة العجز عن شراء حذاء،
بعض ثالث يحول السماء إلى ساحة مبارزة بينه وبين خصومه السياسيين، تأتيه النجوم لتساعده فيجندلهم واحداً واحداً حتى يخلو له الجو فيبيض ويفرخ،
يكتشف الغني أنه أقل ثراء مما يجب فيطلب المزيد،
يكتشف الصحيح البدن أن غيره أمتن بنياناً منه فيطلب لنفسه الزيادة ولغيره النقص في الصحة والعمر، فإن لم يكن له الربح فلتقع على غيره الخسارة.
فجأة يتعرى الخلق، فإذا من هو راض بحياته قليل قليل.
ما هذا الزمان الذي لا يرضي أحداً ثم مع ذلك يتوجه إليه الجميع بالرجاء؟
تكتسب الليلة سمات إلهية لم تكن لها أبداً،
تكشح ليلة الإسراء والمعراج، وتطغى على ليلة الميلاد،
تختلط في الليل المضاء بالتمنيات والرغبات والشهوات والأدعية صور الله والقدر والحظ، ويتصاغر الإنسان فإذا هو متسول يدور من باب الى باب، مستعينا على كل بالآخر، ملحاً على كل من هذه القوى ان تنصفه فترد عنه ظلم الزمان الماضي.
فجأة يكتشف الإنسان أنه كان مضطهداً طيلة عمره، وأنه الآن فقط يستطيع إعادة النصاب الى العدالة…
ثم في العام الذي يلي يعيد تقديم شكواه من العام المنصرم، بل ويزيد الى الرجاء اللوم على التقصير في تلبية ما كان يطلب وما يستمر في طلبه وما سوف يعود إلى طلبه مع إضافات عديدة بعد سنة الا ليلة واحدة.
* * *
لا يبدأ ما لا ينتهي،
النهايات، كما البدايات، داخل الزمان. والزمان داخل الإنسان.
أطلب من داخلك، لا تطلب من خارجك.
وكل عام وأنت طيب.
زيارة..
ذهبت الى غيابك فامتلأت بحضورك.
لفّنا طيفك الذي يملأ المكان، وتنفسنا أنفاسك ففقدنا الوزن وأخذنا نسبح في الغرفة التي تحتشدين فيها بعطرك ولمساتك وذوقك في اختيار الألوان وتنسيق الزهور واختيار مواقع اللوحات.
سمعتك تهمسين وأنا أهم بالجلوس: أبتعد قليلاً حتى لا تلفت أنظارهم،
وحين رفعت بصري إلى السقف لمحت ابتسامتك تنسرب عبر مصابيح الثريا: أنا لكم النور ولولاي لما تبينتم مواقع.. أياديكم!
على الأرائك الفارغة كنت: تتربعين هنا، تتمددين هناك، تلفين الساق على الساق ثم تهبين واقفة وتندفعين بلهفتك لتلتقطي إيماءة كادت تفلت منك، وتتقافزين في أرجاء المكان فتملأين العيون وترشين ملامحك في الكؤوس فيشربك الجمع حتى الثمالة.
لم تكوني هناك، لكننا كنا نسمع في كل حركة حفيف ثوبك فيشغلنا عن هذا الكلام الذي نتشاغل به في انتظار يأسنا من اقتحامك مجلسنا على طريقة »يا مية هلا، طلوا من الجردين سمر اللحى«.
حرت أين أهرب ببصري، فرسوم السجادات تعيد تشكيل نفسها لتقارب صورتك، وقد تتحرك معابثة ونحن نعبرها فنكاد نتعثر ببعض مشاغباتك.
لم تكوني هناك. لم يكن هناك غير فراغك يملأ علينا القاعة.
لم يكن ثمة »هناك«.
»هناك« حيث تكونين، تماما كما »هنا«.
عند الانصراف المبكر والمرتبك سمعت عتاب الغد مغناجا ولائماً: كيف لم تعرف أنني لن أكون.. كيف جئت الى غيابي وتركتني وحيدة؟!

عن الحب والزمان والناس ..

الحب ليس القصائد وليس الشعراء. الحب هو السيرة الذاتية لأبناء الحياة، وداخل الحياة، وليس على هامشها أو خاصة خارجها.
الحب ليس تهويماً في الفضاء، وليس ذوباناً في المطلق أو في التخيّلات التي لا تقف على قدمين، ولا تصلح أساساً لحياة تمتد به ومعه وتقوم به وعليه لتعطي إنسانها أجمل ما تختزنه وتحفظ له.
لا يحتمل الحب الفلسفة ولا يحتاج إلى شرح. إنه بسيط. هل تحتاج الشمس إعلاناً عن قوة النور فيها.
مع ذلك كله، فأنت تكتب عن الحب، ويحرق كتابك الغباء.
ينزف قلمك متعة بينما تدور روحك معذبة بين الأنانيات وحطام الأماني والخيبات التي تتجرعها متوالية، فلا تجد مَن يرفق بها أو يحنو عليها فتهيم على وجهها طلباً للمسترحانية، لوعد غامض بمغامرة لا تقدر عليها ولكنك تسعد بمجرد مرورها كخاطر في البال، يمنحك فرصة الإحساس بوجودك الذي ينفيه طوفان حب الذات الذي يجتاح دنياك.
الكل مشغول عنك بنفسه أو بالانشغال بانشغال الآخرين عنه: يظل يلح عليهم أن يتركوه ليهتموا بأنفسهم، فإن هم فعلوا جلس يندب سوء حظه وضياع تعبه على الذين لا يستحقون ولا يقدرون بل وينكرون الجميل.
لا يعيش الحب كصدقة، والمنة تلغي النبل في العاطفة كما في السلوك.
لا يُطلب الحب »توصاية«، ولا يعرض في المزاد العلني: تريد أكثر، أعطني إذن أكثر، إن لم تعطني فلن أعطيك.. وعليك أن تبدأ أنت، فمن يدريني، قد تأخذ ما تعطيه وتنساني!
يعطي المتعب نفسه ليريح المرتاح.
البعض يطلب أن تعلق لافتة على الحب تحدد، وبالدقة، تفاصيله الكاملة: متى وُلد وأين؟ وهل هو عارض أم دائم؟! وهل يحمل علامات فارقة؟ وهل هو مشاع أم يمكن إدراجه في خانة الملكيات الخاصة؟!
كل توصيف للحب ينقصه ولا يضيف إليه.
لا يجيء الحب من خارج،
في الداخل يولد، ومنه ينساب دافئاً، ندياً، يغمر الناس بالبهجة والاطمئنان إلى أن الحياة عظيمة وأنها تستحق كفاحنا النعيشة.
مَن يفرض الشروط على الحب يفقده أو يئده حياً في صدره، ثم يشكو برودة في قلبه سرعان ما تمتد إلى الأطراف لتستقر على طرف اللسان.

تهويمات
} لا تقنع المرأة بما حبتها به الطبيعة، وتظل تطلب المزيد حتى آخر الزمان!
إنها تزيد من ارتفاع كعب الحذاء وترضى بأن تمشي طيلة العمر على رؤوس الأصابع، مقلقة، لتبرز ما عندها، ولتبدو أطول.
لا تكفيها الحقيقة ولا ترضيها.
وهي لا تتوقف عن الإضافات: الكحل للعينين، والمزجج للرموش، والتسريحات والمشابك والتيجان المخففة للشعر، الأحمر للشفاه، والأزرق لما تحت العينين، وللصدر الحمالات، والمشد للبطن، وللأظافر الملونات، وللسيقان الجوارب التي تعيد صياغة السبك، وللآذان الحلق والأقراط، وللعنق العقود، وفوق القلب على يسار الصدر »البروش« المتبدل حسب المناسبة، وفي المعصم الأساور، وفي الأصابع خواتم متعددة بحسب الفصول وطبيعة الطقس في ذلك اليوم.
لكن الداخل لم يتبدل منذ »ستنا« حواء وهو لن يتبدل حتى قيام الساعة.
} انطلق الشاعر يقرأ قصيدته فاندفعت تملأين كل الصور فيها.
لم يتبق في الصور مكان لحبيبته، ولم يكن في قلبك للشاعر مكان فمزق قصائده جميعا وارتحل الى الصمت.
} قالت »البعلبكية«: أتراني أشبه سهل البقاع؟!
قال: ينقصك يدان تمتدان بامتداد السلسلتين الجبليتين، تحنوان عليك، وتذبان عنك الفراش والنحل وتحميان ضفاف نهرك بالصفصاف.
قالت: لا عليك مني، لكن يديك قصيرتان ونحيلتان لا تقويان على حمل فراشة.

من أقوال »نسمة«

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
أخجل من حبيبي إذا ما وجدني اليوم كما تركني أمس. أطالب نفسي كل ساعة بأن أضيف جديداً، علماً أو معرفة، لأليق به. يخجلني جهلي، وأقاتل بشراسة لأفتح الباب لطموحاتي. أعمل أكثر، وأتقن عملي لكي يقال لحبيبي أنه أحسن اختيار شريكه المؤهل لصنع المستقبل الأفضل. أطالب نفسي كل ساعة بأن أصير أقرب ما يكون إلى صورة ذلك المستقبل كما أشتهيه وأريده وأريد حبيبي فيه.

Exit mobile version