السعودية غاضبة على مضض. ارتكبت حماقات كثيرة، أخافت اللبنانيين على يومهم وعلى غدهم. برهنت انها مستعجلة. أقدمت على مسرحية فاشلة. لم يدم خطف الحريري أياماً، ولبنان لم يركع.
للسعودية دين على لبنان. ظنت انها تستطيع تحصيل ديونها بسياسة التهديد. فشلت. عاد سعد الحريري “بطلاً”. ظهر الرئيس ميشال عون قائداً، “ينام ملء جفونه عن شواردها”. بدا الرئيس نبيه بري ممسكاً بالعصا من طرفها، لا من طرفيها، فيما كان السيد حسن نصر الله يزن مواقفه، بهدوء ما بعد العاصفة.
لم يتوحد اللبنانيون من زمان. السعودية وحدّتهم. لا قيمة لأصوات النشاز. الذين يبخرون للملكة أخفوا بخورهم. استتروا. لا تستطيع السعودية أن تملي شروطها. اللبنانيون يوالون السعودية وإيران و… بدا انهم ليسوا خداماً عند أحد. هذا على الأقل في المدى المنظور. فهل يُبنى عليه؟ أم أن الأمور تعود إلى نصاب التبعية العمياء في ما بعد؟ هذه فرصة.
فرضت المظلة الدولية حمايتها للكيان: ممنوع المس باستقرار لبنان. غير مسموح تصفية الحسابات الإقليمية على حساب لبنان، حتى ولو كان “حزب الله، متورطاً”. بادعاء سعودي. في القصف الصاروخي على مطار الرياض، انطلاقاً من اليمن. فماذا بقي من السبهان، شقيق بعيد على أحمد سعيد، بوق القاهرة في زمن عبد الناصر؟
الأمور لم تستتب بعد. السعودية على مضض. كانت تتوقع أن يَهبّ سنة لبنان دفاعاً عنها، لا عن الحريري. ظل الشارع هادئاً. لا تظاهرة تطالب ببديل سعودي عن الحريري. وئدت فكرة توريث بهاء في مهدها. لم تعش أربعاً وعشرين ساعة. الحردانون من سعد الحريري، بدوا كالأيتام ولا أحد يتصدق عليهم بموقف. ظهروا وكأنهم يهوذا.
المشكلة، كيف ستتصرف السعودية مع السنة في لبنان. انهم ليسوا كالخاتم في إصبعها. أظهروا انهم مستقلون، على الأقل، في هذه المحنة. إن سكت لسانهم فان قلوبهم تنطق. هم موالون للسعودية بشروط لبنانية. فالحريري، وان كان سعودياً بالهوية، وسعودياً بالثروة، فهو ليس كذلك في الكرامة.
الانتفاضة السنية المكتومة كانت انتفاضة الكرامة. والكرامة، تتقدم على السياسة. فهل تفهم السعودية ذلك؟
أما بعد، فلبنان أمام امتحان غير مسبوق. كيف يزيل غضب السعودية عنه؟ كيف يتحاشى انتقامها؟ لديها اسلحة كثيرة صالحة للاستعمال ضد اللبنانيين. لا تقبل السعودية بأن تبدو وكأنها هزمت، وهي بالفعل كذلك. بيدها مستقبل العمالة اللبنانية في الخليج. بيدها المساعدات الموعودة، المتوقفة عن الدفع. بيدها أن تؤلب دولاً عربية على لبنان وعلى سياسته… كل هذا صحيح، ولكن، ليس بيدها أن تقلب الرأي العام السني رأساً على عقب. الحريري باق في السلطة وعائد اليها بعد الانتخابات، فكيف ستتصرف المملكة مع من عاملته معاملة السجناء؟
عيب.
أمام اللبنانيين فرصة وجيزة كي لا تضيع. هم بحاجة إلى حوار عميق حول القضايا الخلافية الإقليمية. وهذا ليس جديداً. طول عمره لبنان منقسم بين العواصم والمحاور. هل يستطيع أن يجد أرضية مشتركة لكل هذه القضايا، واعتبار الخلاف، مهما تعاظم، هو خلاف بين اللبنانيين، وليس بين العواصم العربية والإقليمية على أرضه. ليس خطأ أن يكون فريق لبناني مع السعودية وآخر مع إيران. وهذا أمر طبيعي ومن طبيعة التكوين الكياني للبنان. الخطأ، أن تصبح السعودية لبنانية وإيران لبنانية. عندها يتحوّل لبنان إلى ملعب ملطخ بدماء اللبنانيين.
هل هذا مستحيل؟
فان ذلك مستحيلاً قبل احتجاز الحريري وتغير مزاج السعودية. أما اليوم، فالطريق مفتوحة، فأهل لبنان أدرى بشعابه.
تفاؤل مبالغ فيه؟
لم لا؟ هذه فرصة تفتح الطريق أمام مصالحة داخلية، برغم الخلاف الحاصل بين محوري السعودية وإيران.
تفاؤل غبي؟
ربما. لم يعودنا اللبنانيون على أن يكونوا لبنانيين أولاً. وآخرين ثانياً.
أميل إلى الغباء في هذه الحال.